فضيلة الشيخ الدكتور عبدالله بن عبدالعزيز المصلح
موقع رابطة العالم الإسلامي
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه وسلم.. أما بعد يسر الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنّة أن تقدم هذه الحقائق للناس عبرة وعظة وتبياناً للحق
أولاً: التكييف الظاهري للأزمة المالية العالمية المعاصرة
1. تعد الأزمة المالية العالمية الراهنة حلقة جديدة في سلسلة الأزمات التي يمر بها النظام الاقتصادي الرأسمالي ــ على فترات متفاوتة ــ نظراً لطبيعة تكوينه، وآليات أدائه.. وإن كانت هذه الأزمة من أكثرها خطورة سواءً من حيث شدتها وجسامتها، أو انتشارها وتغلغلها قطاعياً وجغرافياً، أو سرعة تداعياتها على الاقتصاد العالمي، الأمر الذي ينذر ببداية مرحلة طويلة الأجل من الكساد تصيب كافة المتغيرات الاقتصادية الكلية، فتتباطأ معدلات النمو الاقتصادي، وتتزايد معدلات البطالة، وتتأثر التجارة الدولية تصديراً واستيراداً، مما ينعكس سلباً على اقتصاديات العالم كافة بشكل أو بآخر.الأمر إذن أصبح يتطلب بإلحاح وضع هذه الأزمة تحت مجهر البحث والتحليل لتشخيصها وتحديد أسبابها، تمهيداً لتتبع آثارها وتداعياتها، وصولاً للتعرف على ما يمكن اتخاذه من سياسات وإجراءات لتجنب آثارها السلبية أو التخفيف من حدتها.
تتمثل هذه الأزمة ــ أساساً ــ فيما تشهده الأسواق المالية العالمية من هبوط حاد متتابع، وبمعدلات سريعة…
2. جاءت نقطة البداية مع إعلان بعض المؤسسات المالية الأمريكية إفلاسها، أي عدم قدرتها على توفير السيولة اللازمة لسداد التزاماتها لما تكبدته من خسائر مالية كبيرة نتيجة توسعها الكبير في توظيف أموالها في مجال الرهن العقاري بدون ضمانات كافية.
3. وبالرغم من المحاولات التي قدمت لعلاج هذه المشكلة إلا أن آثارها استمرت تتداعي وتتفاقم.. وانتقلت المشكلة إلى مؤسسات أخرى، وهكذا.. أسهم في ذلك تغير ظروف السوق الرأسمالي في ظل الحرية الاقتصادية المطلقة، مما عرض السوق لهزات كبيرة، أو ما يعرف بظاهرة الفقاعة.
4. أسهم أيضاً في ذلك الممارسات المالية غير السليمة والتطبيقات المالية المستحدثة التي أدت إلى تفاقم المشكلة، حيث حولت المؤسسات المالية قروضها إلى سندات طرحتها في أسواق المال (وهو ما يعرف بالتسنيد أو التوريق Securitization للحصول على مزيد من التدفقات المالية. في الوقت الذي عجز أغلب المقترضين عن السداد، فتراكمت عليهم الديون بفوائدها، الأمر الذي ترتب عليه أن أصبحت قيمة الأصول تقل كثيراً عن حجم الديون. من جانب آخر، فإنه مع التوسع في عرض الكثير من العقارات لتسييلها انخفضت قيمتها السوقية بأكثر كثيراً من قيمة ما عليها من مديونية.. هذا الوضع أدى إلى إفلاس بعض المؤسسات المالية نتيجة تعثرها في سداد التزاماتها لجهات تمويل أخرى (بنوك أو شركات أو أفراد)، الأمر الذي يؤثر في قدرتها المالية هي الأخرى، وهكذا… وبالتتابع ينهار البنيان المالي بكامله. وقد أدت المضاربة في الأسواق المالية إلى تكريس المشكلة وتفاقمها، وسرعة انتشارها وخاصة المضاربات قصير الأجل التي تحركها دوافع المقامرة طمعاً أو جشعاً.
ثانياً: أسباب الأزمة
يقف وراء حدوث هذه الأزمة أسباب متعددة من أهمها:
1. الاعتماد الكلي على نظام الفائدة كآلية جوهرية لإدارة النظام المصرفي، وما رتبه ذلك من اضطرابات متعددة في النظام المصرفي. وبالجملة فقد حدث انحراف كامل بعمليات الائتمان عن القيام بدورها الجوهري (تنمية عمليات الإنتاج والاستثمار). وقد ترتب على سيطرة نظام الفائدة كآلية أساسية لإدارة النظام المصرفي أن أغرقت البنوك في تمويل عمليات بعيدة كثيراً عن منطقة الإنتاج والاستثمار.
2. ضعف الضمانات المقدمة مقابل عمليات الائتمان الممنوحة مما ترتب على ذلك تزايد كميات الديون المعدومة.
3. ضعف عمليات الرقابة على عمليات الائتمان الممنوحة سواء أكان ذلك من الناحية الكمية أو الكيفية…
4. ضعف ممارسة البنوك المركزية لدورها في رقابة البنوك، فضلاً عن ضعف استخدام الأدوات الفنية المتاحة للبنوك المركزية وعدم تفعيلها على النحو الكافي مثل عمليات السوق المفتوحة وسعر الخصم والاحتياطي..
5. تركيز منح الائتمان في مجالات محدودة وعدم تنوعها، (مجال التمويل العقاري) وبالتالي ترتب على اضطراب هذا القطاع اضطراب الجهاز المصرفي مما يعكس التأثير المتبادل بين السياسة النقدية والسياسة الاقتصادية.
6. تجدر الإشارة هنا إلى دور النفقات الحربية التي تكبدتها معظم الدول التي ظهرت فيها الأزمة المالية العالمية، مما ترتب على ذلك فقد حقيقي لجزء كبير من الموارد الحقيقية لهذه الدول.
7. تباطؤ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في القيام بدورهما المنشود من تقديم المشورة الفنية وإعداد فريق عمل يقدم الحلول العلمية السليمة.
ثالثاً: تكييف وعلاج المشكلة في إطار الاقتصاد الإسلامي
1. تكيف هذه الأزمة على أنها أزمة مالية تتعلق بالمؤسسات التمويلية هو تكييف يبعد عن الحقيقة لأن هذه الأزمة في حقيقتها هي أزمة للنظام الرأسمالي من حيث أسسه التي يقوم عليها ومن حيث آليات عمله ومن حيث الأخلاقيات في تعاملاته وتفسير ذلك على النحو الآتي:
أ ـ من حيث أسسه فإن النظام الرأسمالي المعاصر يتبني القول الآتي: (أكفأ دور اقتصادي للدولة أن لا يكون لها دور)، نعتقد أن هذا الأمر سبب حقيقي ورئيس لأزمة النظام الرأسمالي. وهنا نقول الاقتصاد الإسلامي لا يترك أمر الاقتصاد كله لقرارات الأفراد وإنما توجد الدولة مع الأفراد في القرار الاقتصادي. والفقه الإسلامي به ثراء واسع عن دور الدولة وطبيعته وأدواته واستيعابه للتطور. ولذلك نقول إن من مداخل علاج هذه الأزمة هو الأخذ بما يقرره الإسلام بشأن إدارة الاقتصاد مشاركة بين كل من الدولة والأفراد.
ب ـ من حيث آليات عمل النظام الرأسمالي: تتعدد هذه الآليات ولكنا نشير فقط إلى نظام الفائدة الذي يدار به الاقتصاد الرأسمالي، وهنا نذكر أن نظام الفائدة مع سيطرته في النظام الرأسمالي إلا أنه موضع انتقاد دائم والاقتصاديون الرأسماليون يربطون الأزمة بنظام الفائدة في كثير من كتاباتهم وهنا نقدم الحل الإسلامي لآلية عمل النظام الاقتصادي بالإشارة فقط إلى موضوع الأساس الذي تقوم عليه آلية التمويل وهو نظام المشاركة، هذا النظام أي نظام المشاركة له فعاليته وكفاءته الاقتصادية ليس عند الاقتصاديين الإسلاميين وحدهم وإنما عند الاقتصاديين الذين درسوا هذا النظام بموضوعية وحيادية. تحت وقع الأزمة المالية المعاصرة يقدم المسلمون باسم إسلامهم نظام المشاركة ليكون الآلية التي تحكم عمل المؤسسات التمويلية. وهذا النظام تشريع من الله سبحانه وتعالى يؤمن تحقيق الاستقرار الاقتصادي وهذا بديل عن الدورات والتقلبات العنيفة التي يسببها نظام الفائدة.
2. من حيث النظرة الجزئية والكلية للاقتصاد، الأزمة المالية المعاصرة تكيف تكييفات جزئية فيقال إنها أزمة على مستوى البنوك أو على مستوى سوق الأوراق المالية، وهذا تكييف جزئي قاصر لأن هذه الأزمة تضرب الآن كل قطاعات الاقتصاد. هنا يجيء الاقتصاد الإسلامي؛ الإسلام لا يتعامل مع الاقتصاد كجزئيات منفصلة متباعدة وإنما يأخذ أمر الاقتصاد كله بنظره إجمالية تستوعب كل قطاعات الاقتصاد وفروعه. الإسلام عندما ينظم التمويل على سبيل المثال فإنه يأخذ كل أمور الاقتصاد من حيث عدالة توزيع الدخول حيث مصلحة المجتمع ومن حيث المصلحة الخاصة وغير ذلك مما هو معروف في تنظيم الإسلام للاقتصاد. بعبارة موجزة الإسلام يأخذ كل أمور الاقتصاد على أنها متشابكة ومتفاعلة وهذا تكييف حقيقي للواقع الاقتصادي يقود إلى إدارة صحيحة للاقتصاد.
3. الاقتصاد الإسلامي اقتصاد أخلاقي: هذه العبارة نبدأ بها الحديث في موضوع الاقتصاد والأخلاق وهذه قضية شديدة التعقيد في الاقتصاد فبالرغم من أن بعض الاقتصاديين نبه إلى خطورة فصل الاقتصاد عن الأخلاق إلا أن واقع الاقتصاد الرأسمالي المعاصر يعلن بصريح العبارة أنه لا دور للأخلاق في الاقتصاد وهذا الأمر من الوضوح في الواقع الاقتصادي المعاصر بحيث لا يحتاج للتدليل عليه. هنا تجئ واحدة من أكبر المساهمات الإسلامية في الاقتصاد. الاقتصاد في الإسلام مربوط ربطاً محكماً بالأخلاق في جميع جوانب الاقتصاد وقطاع الإنتاج على سبيل المثال يحكمه الإسلام بضوابط أخلاقية محددة، ومجال التمويل على نفس المستوى، بل حتى مجال الاستهلاك محكوم بضوابط أخلاقية محددة. ولذلك نقول إن الإسلام يعالج الاقتصاد بروابط أخلاقية تؤمنه من انتكاسات تنشأ بسبب غياب الأخلاق… هنا نشير إلى ما يقال عن الأزمة المالية المعاصرة والأسباب التي قادت إليها ومنها ما يتعلق بغياب الأخلاق عند بعض القائمين على إدارة المؤسسات التمويلية في المجتمعات الرأسمالية.
كلمة خاتمة:
الإنسان عندما تتقاذفه أمواج الفكر المعاصر وتقذفه من أزمة إلى أزمة فإنه يكتشف أن الإسلام بكل نظمه الاقتصادية والاجتماعية والسياسة وغيرها هو الملاذ الآمن.
وليعلم الناس كافة وأبناء هذا الدين ممن تخصص في الاقتصاد والإدارة وإدارة المال ومن له مكان تبوأ فيه مكانة اتخاذ القرار في شأن السياسات المالية والاقتصادية أن لديه معيناً لا ينضب ومنهجا لا يخيب إنه الإسلام بما وصفه مشرعه وهو الله ـ عز وجل ـ من الخطوات التي من سار على نهجها أمن واستقر ولم تصبه هذه الهزات المروعة. ولنا أن نعتبر بما قاله كثير من أكابر المنهج الرأسمالي من عدم قدرة هذا المسلك على أن يسير بالإنسان إلى بر الأمان، وأنه يحمل في داخله من التغيرات ما يمكن أن يحل بالعالم من كوارث بسبب هذا المنهج.
لقد حان الوقت لكي نتصالح مع فقهنا وفكرنا الاقتصادي ونحققه في كل مجالات نعمة المال استثماراً واستهلاكاً واستغلالاً.. والله المستعان.
المصدر: http://www.isegs.com/forum/showthread.php?t=2562&page=6
أحدث التعليقات