د. عبد العزيز الغدير
لا يمكن للمال أن يوضع تحت البلاط ، فالمال ليس للاكتناز “وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35) ” سورة التوبة ، والاكتناز لغة إحراز المال في وعاء أو دفنه، وشرعا هو المال الذي لم تؤد زكاته ولو لم يكن مدفونا.
ولا شك أن المال المُزكى سيتناقص إذا لم يتم استثماره وتنميته بأكثر من قيمة الزكاة، وبالتالي فإن المال يجب أن يتداول بين الناس بما يحرك الاقتصاد ويولد المنافع من أصول رأسمالية وسلع وخدمات ترفع من مستوى حياة الناس كمحصلة، وذاك مقصد ديننا الحنيف بلا أدنى شك.
أصحاب المدخرات المالية البسيطة لا يحملون هموما كبيرة لقلة المال وسهولة نقله وتحريكه من مجال إلى آخر، وبالتالي فإن همهم بسيط ليس كهم أصحاب الكتل المالية الكبرى, خصوصا الكتل القائمة على الأموال وغير المالكة لها كالمؤسسة العامة للتقاعد، والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، وصندوق الاستثمارات العامة، فهؤلاء جميعا يحملون أمانة كبيرة تتمثل في المحافظة على الأموال القائمين عليها من ناحية، وضرورة تنميتها بأقل المخاطر من ناحية أخرى.
خسرت الصناديق الاستثمارية الخليجية ـ حسبما علمنا ـ نحو 400 مليار دولار بسبب تداعيات الأزمة المالية الطاحنة الحالية، وجُل هذه الخسائر كان في سوق الأوراق المالية العالمية (الأسهم، السندات، والمشتقات المالية), حيث تبخرت تلك المليارات التي نشطت اقتصادات الدول الأخرى دون أن تسهم في قيمة مضافة تذكر لمصلحة اقتصاداتنا، ولكم أن تتخيلوا ما النتائج لو أن الـ 400 مليار دولار هذه استثمرت في مشاريع إنتاجية في دول مجلس التعاون!.
كثير من أصحاب الكتل المالية أو القائمين عليها كان يرى أن الأسواق المحلية لا تستطيع أن تستوعب المليارات المتوافرة في بلادنا، كما كان يرى أن القنوات الاستثمارية الأجنبية قادرة على استيعابها وتنميتها بدرجات عالية من الأمان، خصوصا في سوق السندات الأمريكية حتى وقعت الواقعة التي أثبتت أنه لا أمان أبدا في ظل طمع الآخرين في تلك المليارات واختلاق الحيل والألاعيب للتمكن منها بطرق مقنعة وقانونية.
السؤال الذي يخطر على بالنا كلنا أين ستذهب الأموال المحلية المترقبة في ظل هذه المتغيرات المالية العالمية؟ لن تبقى تحت البلاطة بكل تأكيد، ولن تغامر مرة أخرى بالذهاب إلى حيث تبخرت سابقا، وفي ظل شحها فإنها أيضا لن تقامر في أسواقنا المحلية في فرص استثمارية عالية المخاطر في جو نفسي يدعو للترقب أكثر مما يدعو إلى التعجل.
الأموال يجب أن تخرج إلى الأسواق لتنمو وتنمي الأسواق، وهذه حقيقة وإن تمهلت تلك الأموال، والمختصون في عالم الاقتصاد والمال يعرفون أن الصرف الحكومي لن ينشط الاقتصاد كما تنشطه السيولة المالية المتحركة بين القطاعات، وبالتالي فلا حراك اقتصادي دون تمويل إيجابي فاعل يتجه إلى تحريك القواعد والمفاصل الاقتصادية لا التمويل السلبي الذي يرهل الشحوم في أماكن ترهلها ضرره أكثر من نفعه.
و لا شك أن المشاريع التنموية التشاركية بين القطاعين الحكومي والخاص مثل مشاريع الطاقة والماء والمواصلات ومعالجة وتطوير المناطق العشوائية وغيرها تعد من القواعد والمفاصل الاقتصادية التي حال نشاطها تنشط الحركة الاقتصادية لما لها من قيم وقيم مضافة لا تعد ولا تحصى تنعكس في مجملها على جودة حياة الإنسان وسيلة التنمية وغايتها.
حسب علمي أن البنوك السعودية تمول مشاريع القطاع الخاص، وأن تمويلها انتقائي وبشروط أكثر تشددا، وهذا متوقع بل مطلوب في ظل هذه الظروف، لكن بكل تأكيد لن تستطيع البنوك توفير السيولة المطلوبة للمشاريع المليارية العملاقة كالتي ذكرناها لأسباب عديدة، وبالتالي فلا بد أن تفعّل السوق المالية لتوفير هذه السيولة من خلال تفعيل سوق الصكوك (السندات المهيكلة وفق أحكام الشريعة الإسلامية) طرحا وإقفالا وإدراجا وتداولا، وهي مهمة ممكنة ومطلوبة إذا تكاتفت الجهود وأخلصت النوايا لاختصار الوقت.
يقول الدكتور محمد الجاسر محافظ مؤسسة النقد إن المملكة تحتاج إلى أسواق سندات (صكوك) أكثر تطورا لتسهيل تمويل المشاريع، وذلك بعد أن أكد توافر السيولة واستقرار النظام المالي وسلامة العوامل الأساسية في بلادنا. وأقول حان الوقت لتفعيل ذلك يا معالي المحافظ للمساهمة الفعلية في تعزيز قدراتنا على تجاوز الأزمة المالية والحد من آثارها السلبية قدر الإمكان.
وأقول أيضا إن تمويل المشاريع التنموية التي يشارك فيها القطاعان الحكومي والخاص باستخدام الصكوك كأداة تمويلية يجب أن ينطلق فورا، وبدعم من الكتل المالية الكبرى والمحفزة للكتل المالية الخاصة الأقل حجما، خصوصا تلك المشاريع المدعومة بالإرادة السياسية والمسنودة لشريك خاص محترف يشهد له تاريخه الاستثماري والإنتاجي بكفاءته العالية في التخطيط والإنجاز. وكلي ثقة بأن هذه السندات ستكون ملاذات آمنة لسيولة الكتل المالية توفر الأرباح المعقولة وتسهم في التنشيط الاقتصادي المنشود.
نقلا عن الاقتصادية
30/2/1430
أحدث التعليقات