القراض أو المضاربة المشتركة – أ.د.أحمد الحجي الكردي

القراض أو المضاربة المشتركة – أ.د.أحمد الحجي الكردي

بحث أعده

أ.د.أحمد الحجي الكردي

القراض أو المضاربة المشتركة

 

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

فإن المضاربة أو القراض من العقود المركبة، فهي عقد مؤلف من: إيداع ووكالة وشركة، وقد تنتهي إلى غصب أو إجارة فاسدة، قال الحصكفي: (وحكمها -أي المضاربة- أنواع، لأنها إيداع ابتداء، … وتوكيل مع العمل لتصرفه بأمره، وشركة إن ربح، وغصب إن خالف وإن أجاز رب المال بعده لصيرورته غاصبا بالمخالفة، وإجارة فاسدة إن فسدت، فلا ربح للمضارب حينئذ، بل له أجر مثل عمله مطلقا، ربح أو لا بلا زيادة على المشروط …)

والمضاربة مشروعة استحسانا على خلاف القياس لدى أكثر الفقهاء، لما فيها من الجهالة في الأجرة والعمل، ودليل مشروعيتها السنة، والإجماع، والمصلحة، ولهذا فإن الفقهاء لا يتوسعون فيها، لأن ما ثبت على خلاف القياس لا يتوسع فيه.

والمضاربة من أهم طرق استثمار المال قديما وحديثا، وقد كثرت الحاجة إليها وبرزت أكثر -على أنها أفضل طرق الاستثمار- حديثا بعد ظهور المؤسسات المالية الإسلامية التي ملأت الساحة في العالم كله، الإسلامي والعربي والأجنبي، وأثبتت قدرتها على مضاهاة المؤسسات الربوية وتفوقها عليها، بعد ما كاد يعم بين الناس أن الربا هو الحل الوحيد لمشكلات الاستثمار المالي.

إلا أن المضاربة التي ظهرت على الساحة حديثا فيها بعض المخالفات للمضاربة التي عرفها الفقهاء قديما وأثبتوا شرعيتها على خلاف القياس، في كثير من أنواعها، وبالتالي آثارها أيضا.

فقد كانت المضاربة تنشأ غالبا بين شخصين، الأول صاحب المال، ويسمى (رب المال)، والثاني العامل، وهو(المضارب)، أما الآن فقد أصبح يقوم بالمضاربة مؤسسات مالية شامخة، تتألف من العديد من الشركاء، والكثير من الموظفين، فتقوم بقبول الودائع من كثير من أرباب الأموال -الذين لا يستطيعون إدارة أموالهم بأنفسهم- بقصد استثمارها لهم، على أسس إسلامية، ومشاركتهم في أرباحها، بطريق المضاربة مع تجار أو أصحاب مهن أو مزارعين، أو بطريق التجارة المباشرة، أو غير ذلك من المعاملات الإسلامية، مما أطلق عليه المضاربة الجماعية، أو المضاربة المشتركة.

وقد اقتضى هذا التغيير في أنواع المضاربة وأطرافها إدخال بعض التغييرات في آثارها وأحكامها، وهذا كله يحتاج إلى دراسة وتأصيل وتخريج على قواعد الفقهاء التي وضعوها للمضاربة الفردية، مستهدين في ذلك بنصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة، والقواعد الفقهية الكلية التي تحكم المعاوضات بعامة، والمشاركات منها بخاصة.

وقد قام العديد من الفقهاء المعاصرين بدراسات قيمة في هذا النطاق، وقدموا أفكارا ودراسات قيمة فيه، إلا أن الباب لا زال مفتوحا لإتمام الدراسة، لأنها لم تتم بعد، ولا زالت هنالك عقبات ينبغي أن تذلل، وأمور ينبغي أن تبحث ويبحث لها عن مخارج في نصوص القرآن والسنة وأقوال الفقهاء وقواعدهم، وهذا البحث حلقة في سلسلة هذا النطاق، ولا أدَّعي أنه خاتمة المطاف، وأنه جاء بكل الحلول المطلوبة، أو أنهى كل المشكلات التي تعترض الباحثين، ولكنه خطوة في هذه الدراسات، وسوف تتبعها حلقات أخرى إن شاء الله تعالى، حتى ينضج البحث، وتتضح معالم المضاربة الجماعية أو المشتركة، وتتبدى للجميع ظاهرة التخريج على ما أجمع عليه الفقهاء، أو ما انتهى إليه عامتهم، أو أصحاب المذاهب المعتمدة منهم، أو واحد على الأقل منهم ممن يجيز الجميع تقليده والأخذ برأيه لعلمه وتقواه من الأئمة الأعلام.

ولا يخفى أن الأمر صعب، والمرتقى فيه وعر، لكثرة الاختلافات فيه، وتعدد الشبهات، مما يصعب أو يبعد معه الوصول إلى إجماع أو اتفاق، ولهذا فإن بحوث جميع المعاصرين كانت تجري على محاولات التوفيق والتلفيق بين آراء الفقهاء، وهو وإن كان منهجا غير مقبول في أمور العبادة أو المعاملات الفردية، إلا أنه المنهج الوحيد المتاح في هذا الأمر الجماعي، الذي كثرت الحاجة إليه في العصر الحاضر، حتى عد إغلاقه معنتا وملحقا حرجا كبيرا بالمسلمين، سواء كانوا أرباب أموال أوعمالا، والله سبحانه وتعالى يقول: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). وهو المنهج الذي سوف أسير عليه في بحثي هذا، مستلهما من الله تعالى التسديد والمعونة.

وإنني سوف أعرض أولا تعريف المضاربة الفردية، وشروطها وأركانها وأحكامها، كما عرضها الفقهاء، بإجمال، مع بيان مواضع الاتفاق والاختلاف بينهم في ذلك، ثم أعرض تعريف المضاربة الجماعية أو المشتركة، وأنواعها، ثم أبيِّن أهم الفروق التي بين هذين النوعين من المضاربة، ثم أحاول بيان مدى تأثير هذه الفروق على صحة المضاربة المشتركة، بحسب قواعد الفقهاء ونصوصهم قدر الإمكان، مستفيدا من نقاط الاتفاق والاختلاف بينهم في المضاربة الفردية، ومحاولا التلفيق بين هذه المذاهب والأقوال قدر الإمكان، تحقيقا لمصلحة تصحيح هذه المضاربة الجماعية أو المشتركة شرعا قدر الإمكان، تيسيرا على المسلمين في معاملاتهم، وأرجو من الله تعالى التوفيق والسداد.

ويسعدني أن بحثي هذا معروض أمام نخبة من فقهاء المسلمين، لتسديده أو تصحيحه أو إقراره، وفي ذلك الخير الوفير للمسلمين، والتسهيل عليهم في أمورهم ومعاملاتهم.

والله تعالى من وراء القصد وهو المستعان، وهو أجل وأعلم.

http://www.islamic-fatwa.net/index.jsp?inc=19&id=762&cat=1&lang=ar&type=2