بيع الاستجرار: تعريفه وإشكالياته- د.رفيق المصري

بيع الاستجرار: تعريفه وإشكالياته

د.رفيق المصري


مقدمة

يمكن الرجوع في بيع الاستجرار إلى الموسوعة الفقهية الكويتية، أو الموسوعة الفقهية المصرية، أو إلى ما كتبه آخرون حول الموضوع، مثل الدكتور الضرير في كتابه عن الغرر، أو الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه عن الفقه الإسلامي. ولعل ما جاء حول الموضوع في الموسوعة الفقهية هو الأكثر استيفاءً. ولكن يشعر القارئ بأن هناك غموضًا أو تداخلاً يستدعي المزيد من المناقشة والبيان، لكي يتضح المقصود ببيع الاستجرار.

تعريف

بيع الاستجرار هو أخذ الحوائج من البياع شيئًا فشيئًا، ودفع ثمنها بعد ذلك (الموسوعة المصرية 5/303، والموسوعة الكويتية 9/43، وتجد التعريف نفسه عند نـزيه حماد في معجم المصطلحات ص 56، مع الإحالة على نفس مراجع الموسوعة الكويتية).

وقالوا: إن الغالب في الاستجرار تأجيل الثمن، وعدم تحديده في بعض الصور (الموسوعة الكويتية 9/43).

مناقشة التعريف

–    الجزء القائل بـ “أخذ الحوائج من البياع شيئًا فشيئًا” يشرح لفظ “الاستجرار”، بمعنى سحب السلع من البائع على دفعات متتالية.

–    قد يقال إن هذا التعريف من حيث اللفظ يشرح الاستجرار، ولكنه من حيث الحكم قد يختلط ببيع التقسيط، أو البيع المؤجل، الذي يؤخذ من الجزء المتعلق بدفع الثمن بعد ذلك.

–    ولكن البيع المؤجل يكون فيه الأجل معلومًا، أما عبارة “دفع الثمن بعد ذلك” فلا يستفاد منها بالضرورة أن الأجل محدد ومعلوم. والمعنى أن بيع الاستجرار قد لا يكون له أجل معلوم، كالبيع المؤجل. وقد يتم الدفع بعد مدة قصيرة أو طويلة نسبيًا. وربما يتم حسب الاتفاق: كل أسبوع، كل شهر…

–    لم يتعرض التعريف للثمن: هل هو ثمن متفق عليه، أم هو ثمن السوق (ثمن المثل)، أو الثمن الذي يبيع به البائع لبعض الناس أو كلهم؟ هل هو ثمن معلوم للمشتري أم مجهول لا يعلمه إلا عند الوفاء؟ وفي بعض الحالات قد يكون السعر مكتوبًا على السلعة نفسها، مطبوعًا أو بخط اليد، كما في المعلبات والأدوية في زمننا هذا. وهذا ما يسميه الفقهاء البيع بالرقم، أي بالسعر المرقوم على السلعة.

–    قد يستفاد من التعريف أن الأمر يتعلق بالحوائج الاستهلاكية اليومية، كالخبز والزيت والسكر والرز واللحم والخضر والفواكه، مما يتم شراؤه من الخباز أو البقال أو اللحام أو بائع الخضار والفواكه… ولا يتعلق الأمر بالسلع الأخرى ذات القيمة الكبيرة، كالأراضي والأبنية والسيارات والآلات… لكن هذه السلع الاستهلاكية اليومية مع ضآلة قيمتها، إلا أن تكرار شرائها في كل يوم قد يشكل في نهاية المدة مبلغًا كبيرًا نسبيًا.

–    القول بأن الغالب في الاستجرار تأجيل الثمن، وإن كان شائعًا عند بعض الأسر، إلا أن هناك صورًا عديدة، جاء ذكرها في الموسوعة الكويتية، تفيد أن الثمن قد يدفع معجلاً، ثم يتم سحب السلع من البائع على أساس هذا الثمن المعجل وفي حدوده، بما يجعل البيع من هذه الناحية شبيهًا ببيع السلم، إلا أن بيع السلم يكون فيه المبيع مؤجلاً إلى أجل معلوم، أما بيع الاستجرار فلا يبدو فيه الأمر كذلك، بل الأجل فيه واقع تحت رغبة الشاري.

–    القول بأن الغالب في الاستجرار هو عدم تحديد الثمن قد لا يكون دقيقًا، لأن الثمن قد يتحدد في العديد من الحالات بالاستناد إلى سعر السوق (سعر المثل)، أو السعر المرقوم على السلعة. نعم هم يقصدون بعدم تحديد الثمن عدم تحديده في العقد، إلا أن هناك حالات يمكن تحديده فيها بما هو قريب من تحديده في العقد، مثل سعر السوق، أو السعر المرقوم، وحالات أخرى يكون تحديده فيها أبعد من هذا، مثل أن يقوم البائع بتحديده بنفسه، بناءً على ثقة المشتري به.

–    قد يكون التعريف قد جاء عامًا على هذه الصورة، حيث سكت عن الثمن والأجل، لكي ينتظم الصور المختلفة عند الفقهاء، ولأن التفاصيل ليست من شأن التعريف. لكن قد يقال إن التعريف ليس جامعًا مانعًا، بل هو مجرد تقريب، وقد يكون التعريف الجامع المانع صعبًا جدًا في بعض الحالات، وربما يهرب بعض العلماء من التعريف أحيانًا، ويتركون للقارئ إمكان التوصل إليه، ولو على سبيل التقريب، من خلال الشرح والمعالجة والتفصيل والأمثلة.

البيوع ذات الصلة

ذكرت الموسوعة الفقهية الكويتية بيعًا واحدًا ذا صلة ببيع الاستجرار، وهو البيع بالتعاطي، الذي يقوم فيه البائع بإعطاء المبيع، والمشتري بإعطاء الثمن (ومن هنا جاء لفظ التعاطي)، بدون أي صيغة قولية تتعلق بالإيجاب والقبول. ثم ذكرت أن بيع الاستجرار أعم من بيع التعاطي، إذ قد يتم على أساس البيع المعتاد، أو على أساس البيع بالتعاطي.

لكن لا يبدو لي أن الأمر كما ذكرته الموسوعة، فإن بيع الاستجرار هو إحدى صور بيع التعاطي، كما أن بيع الاستجرار لا يتم على أساس البيع المعتاد، إذ لا يذكر فيه ثمن، ولا يعرف فيه أجل معلوم، ولا حصة الثمن من الأجل.

والذي يرجع إلى كتب الفقه، ولاسيما كتب الشافعية، وكتاب إحياء علوم الدين للغزالي على الخصوص، يشعر بهذا الذي قلته، فقد أدرجوا الكلام عن بيع الاستجرار، دون تسميته بهذا الاسم، تحت بيع التعاطي أو المعاطاة. فالمشتري عندئذٍ لا يرى السلعة، لكن قد تكون معروفة له ومألوفة، أو قد يعرف وصفها الدقيق أو التقريبي، وقد لا يعرف ثمنها، كما في حالات البيع بواسطة الهاتف مثلاً، وإن كان هناك في هذه الحالات إيجاب وقبول على سلعة، يترك ثمنها للسوق، أو للسعر المكتوب عليها، أو للسعر الذي يحدده البائع.

ولعل من البيوع ذات الصلة أيضًا: البيع بدون ذكر ثمن، البيع بسعر السوق، البيع بالرقم، البيع بالسعر الذي يحدده البائع، بيعة أهل المدينة، بيع الاسترسال (أو بيع الاستنامة). وقد ورد عند الضرير بلفظ “الاستنابة” بدل الاستنامة، وهو خطأ ورد في طبعة كتابه عام 1967م (ص 257)، وتكرر في طبعة البركة عام 1995م (ص 277).

الإشكال الفقهي

هناك إذن إشكالان فقهيان، وهما الثمن والأجل، فالأول غير معلوم مقداره للمشتري، والآخر غير معلوم للبائع، ولاسيما الأجل المتعلق باستجرار السلع. ومعلومية الثمن مهمة في تحقيق التراضي، ومعلومية الأجل مهمة في التراضي، وفي شيء آخر وهو أن للأجل حصة من الثمن. فثمن البيع النقدي أقل من ثمن البيع المؤجل، وثمن البيع المؤجل لأسبوع أقل من ثمن البيع المؤجل لشهر أو لسنة. وقد يتم التغاضي عن فرق الثمن بين العاجل والآجل إذا كان الأجل قصيرًا: يومًا أو أسبوعًا. والأجل هنا هو الفارق الزمني بين تاريخ تسديد الثمن وتاريخ الحصول على السلعة.

بيع الاستجرار هل هو مباح أم ممنوع ؟

بيع الاستجرار فيه خلاف بين الفقهاء، فبعضهم يبيحه، وأكثرهم يمنعه (إعلام الموقعين 4/6). وقد تختلف صوره باختلاف المذاهب وعلمائها. كما أنه يصعب أحيانًا تحديد هوية الصورة المباحة أو الممنوعة بكافة تفاصيلها، ولكن قد يكون المقصود هو استجرار السلع من البائع حسب ثمنها المرقوم أو ثمنها السوقي أو الثمن الذي يحدده البائع، ويفترض عندئذ أن المشتري يأتمن البائع على جودة السلعة وثمنها وقيدها في الحساب. ويتم تسديد الثمن سابقًا أو لاحقًا بصورة دورية: رأس الأسبوع أو الشهر… ويرجع إلى الموسوعة الكويتية وغيرها لمعرفة المذاهب والاختلاف بين العلماء والصور المختلفة لبيع الاستجرار.

بيع الاستجرار هل يشبه الحساب الجاري ؟

الحساب الجاري في المصرف هو حساب تظهر فيه الدفعات المتتالية المدينة والدائنة. فتسجل في الجهة المدينة من الحساب ما يسحبه صاحب الحساب من مال نقدي على شكل دفعات متتالية يومية، وتسجل في الجهة الدائنة من الحساب ما يمنحه المصرف له من قروض وتسهيلات. ويكون لكل دفعة مدينة أو دائنة تاريخ، وهذا التاريخ يحسب على أساسه عدد أيام كل دفعة، وتضرب الأيام بمبلغ الدفعة لاستخراج ما يسمى بـ “النمر”، تمهيدًا لحساب الفوائد المدينة والدائنة في المصارف التقليدية.

ويلاحظ أن اللفظين: “الاستجرار” و”الجاري” من أصل واحد. ولا يختلف الجاري عن الاستجرار إلا أن الأول مألوف عرفًا في القروض، والآخر مألوف فقهًا في البيوع. ويمكن أن يكون كل منهما بفائدة أو بغير فائدة. وربما يكون الاستجرار بفائدة غير شائع في الحياة الواقعية، بسبب حرمة الفائدة من جهة، وبسبب الصعوبة التي تشكلها حسابات الفائدة من جهة أخرى، إذ تحتاج إلى معرفة بالرياضيات التجارية والمالية.

والمعلوم أن القرض لا تجوز فيه الزيادة لأجل الزمن، بخلاف البيع الآجل أو بيع التقسيط. وهذا يعني أن ثمن البيع في الاستجرار قد يزاد لأجل التأجيل، لكن المشكلة فيه أن الأجل قد يكون غير محدد تمامًا. وقد يكون من غير المشروع حساب الزيادة فيه عند سداد الثمن. فإذا سدد فورًا أو خلال اليوم لم تحسب عليه زيادة، وإذا سدد بعد ذلك حسبت عليه زيادة. ومن المعلوم أن المشروع في بيع التقسيط أن تحسب الزيادة فيه للأجل عند العقد، وليس عند السداد.

ويلاحظ أن حساب الاستجرار قد تعجل فيه دفعة نقدية من الزبون، فلا يكون مكشوفًا، بل يتم سحب السلع في حدود الدفعة النقدية. وقد لا تعجل فيه أي دفعة، بل يكون دفع الثمن بعد عدة دفعات من سحب السلع، ويكون الحساب عندئذ مكشوفًا، يغطى جزئيًا أو كليًا بحسب الدفعات النقدية التي يتم سدادها بعد ذلك. ورصيد حساب الاستجرار قد يكون مدينًا أو دائنًا بعد إجراء المقاصة بين الجانب المدين والجانب الدائن. وليس هذا من قبيل القروض المتبادلة، إنما هو من قبيل البيع بثمن مقدم أو مؤخر.

وحساب الاستجرار لدى البائع، أو لدى المشتري، كالحساب الجاري لدى المصرف، يظهر فيه مبلغ الدفعة ونوعيتها وتاريخها، وقد تذكر في حقل البيان تفاصيل أخرى تتعلق بالوزن أو الكيل والعدد والسعر…

وحساب الاستجرار لا يمكن فيه تطبيق قيمة الزمن لا في جانب المبيعات، بعد تسجيلها وصيرورتها ديونًا، ولا في جانب الدفعات النقدية. وعلى هذا لا يمكن الاستفادة من حساب الاستجرار إسلاميًا إلا في حدود ضيقة: مبالغ صغيرة، وآجال قريبة، بخلاف الأمر في الاستجرار غير الإسلامي يمكن فيه التوسع بحيث يشتمل على مبالغ كبيرة وآجال طويلة، لإمكان حساب قيمة الزمن في جانبي الحساب.

التكييف الفقهي لبيع الاستجرار

اختلف التكييف الفقهي له باختلاف المذاهب والعلماء:

1- بعض العلماء عدَّ هذا البيع من باب البيع بسعر السوق، أو بسعر المثل، أو بما ينقطع به السعر، أو بالسعر المرقوم، وهو جائز عند البعض، لأن سعر السوق محدد بصورة خارجة عن إرادة المتعاقدين، فلا يجري فيها النـزاع بينهما، البائع يريده مرتفعًا والشاري يريده منخفضًا، أو لأن السعر الذي يحدده البائع هو موضع ثقة المشتري. ولا يمكن البيع بسعر السوق إلا بافتراض أن هناك سعرًا سوقيًا للسلعة لايتفاوت، والخلاف بين العلماء حول البيع بسعر السوق ينصب على هذه الحالة، أما إذا لم يكن هناك سعر سوق، أو كان هناك أسعار متفاوتة، فلا أحد من الفقهاء يقول بالجواز. وهناك فرق بين البيع بثمن تعاقدي والبيع بثمن سوقي، وهو أن الأول معلوم للمشتري، أما الآخر فقد لا يرضاه الشاري بعد أن يعلمه، وقد يتفاجأ به إذا كان مرتفعًا، ويقع النـزاع.

لكن هذا التكييف يحل مشكلة السعر، ولا يحل مشكلة الأجل، أي أجل الثمن وأجل المبيع. وقد يغض النظر عن الأجل، إذا كان قصيرًا، وهو ما أرجح أنه هو المقصود في الأصل ببيع الاستجرار، وبعض الفقهاء ربما توسعوا فيه، فزادوه إشكالاً على إشكال. وهذه المشكلة المتعلقة بالأجل تزول إذا كان دفع الثمن يتم في مواعيد محددة متفق عليها.

2- بعض متأخري الحنفية عدّوا هذا البيع من باب بيع المعدوم وأجازوه استحسانًا. وهو معدوم لأن الشراء عندهم لا يتم فقهًا إلا بعد أخذ السلع واستهلاكها، فتصبح السلع معدومة بالاستهلاك. قال الحصكفي: “بيع الاستجرار ما يستجره الإنسان من البياع إذا حاسبه على أثمانها بعد استهلاكها” (حاشية ابن عابدين 4/516).

3- علماء آخرون من متأخري الحنفية أيضًا رفضوا تكييفه على أساس بيع المعدوم، وقالوا إنه من باب ضمان المتلفات بإذن صاحبها. ومفهوم أن الضمان يتم بالثمن.هؤلاء العلماء رأوا أن الشراء بعد الاستهلاك مستهجن، وأن ضمان المتلفات أقرب إلى الصواب وحقيقة الأمر. ولكن من الواضح أن هذا التكييف وأمثاله فيه الكثير من التكلف.

4- علماء آخرون من متأخري الحنفية أيضًا رفضوا تكييف الاستجرار بأنه من باب ضمان التالف، ورأوا أنه أقرب إلى قرض القيمي، وأجازوه أيضًا على سبيل الاستحسان، لأن القرض في الأصل هو قرض المثلي. فالقرض يكون مضمونًا بمثله، وقد يضمن بقيمته، أو بأي شيء (مثل ثمن السوق) بدل المثل أو القيمة. وسلع الاستجرار قد تكون مثلية مثل السكر والرز، وقد تكون قيمية مثل الخضر والفاكهة، ولاسيما إذا كانت غير مصنفة (غير متجانسة).

5- هذه هي تكييفات الاستجرار عند من أجازوه، أما من حرموه فقد رأوا أن فيه جهالة وغررًا في الثمن، وربما في الأجل، ومن ثم فهو باطل، كما ذهب إلى ذلك الشافعية.

قال في المجموع: “أما إذا نويا أخذه بثمنه المعتاد، كما يفعله كثير من الناس، فهذا باطل بلا خلاف (…) لنعلم هذا ولنحترز منه، ولا نغترّ بكثرة من يفعله، فإن كثيرًا من الناس يأخذ الحوائج من البياع مرة بعد مرة (…)، ثم بعد مدة يحاسبه ويعطيه العوض، وهذا باطل بلا خلاف” (المجموع 9/192).

وعبارة الغزالي في الإحياء 2/61 تفيد أنه يتكلم عن بيع المعاطاة مع البقال والخباز والقصاب. فإذا كان المقصود أن تتم المعاطاة بلا سؤال عن الثمن، فالأمر صحيح، وهذا هو الظاهر.

ما يخرج عن بيع الاستجرار

1-    إذا أخذ الإنسان من البياع ما يحتاج إليه، شيئًا فشيئًا، وزنًا معلومًا أو كيلاً معلومًا، بسعر معلوم، والثمن مؤجل إلى أجل معلوم، فهذا بيع يتأجل فيه الثمن، ويأخذ حكم البيع الآجل، وهو ليس من الاستجرار المختلف فيه، والاستجرار فيه هو فقط من حيث الشكل، لا من حيث الحكم.

2-    إذا عجل الإنسان دفعة نقدية معلومة إلى البائع، وأخذ منه في مقابلها سلعة موصوفة بثمن معلوم إلى أجل معلوم، فهذا بيع يتأجل فيه المبيع، ويأخذ حكم بيع السلم، وليس من الاستجرار المختلف فيه. وقد يأخذ بدل الدفعة الواحدة من السلع دفعات متتالية، وهذا لا يخرجه عن السلم، بشرط معرفة قيمة كل دفعة، حتى إذا فسدت واحدة لم يفسد الباقي. وهذا من السلم المقسط الذي يتقسط فيه المبيع، كما يتقسط الثمن في البيع المؤجل الثمن.

3-    إذا اشترى المشتري بسعر السوق، أو بالسعر المرقوم، أو بسعر البائع، وكان عالمًا به، فهذا بيع بالسعر المتفق عليه، وهو جائز عند الجميع. أما إذا لم يعلم به فيجوز عند البعض فقط.

ما يدخل في بيع الاستجرار

1- أن يأخذ المشتري ما يحتاج إليه من سلع من البائع، ويطلب منه قيدها عليه بثمن السوق، وهو لا يعلم هذا الثمن، بل يأتمن البائع عليه.

2- أن يسدد المشتري ما عليه في آجال غير معلومة، لكن قد تكون معروفة عرفًا حسب حالة كل مشتر، أو مشترطة شرطًا: يوم، أسبوع، شهر. ويحسن وربما يجب ألا تكون هذه الآجال بعيدة، فالأجل القريب إذا كان غير معلوم قد يغتفر، أما البعيد فهو غرر غير مغتفر، ما لم تحسب له حصة من الثمن.

3- قد يسدد المشتري دفعة نقدية معجلة، ويسحب بعد ذلك من السلع في حدودها، وقد يسدد الثمن لاحقًا. وأيًا ما كان الأمر فإن هناك مبالغ مدينة (هي أثمان السلع) ومبالغ دائنة (هي قيمة الدفعات التي يسددها المشتري)، لا يعرف مقدارها مسبقًا ولا تاريخها، ولكن من المفترض أن تكون المبالغ قليلة غير كبيرة، والآجال قريبة غير بعيدة، والله أعلم.

الصورة الشائعة عند الفقهاء

قال ابن تيمية: “نص أحمد على أنه يجوز أن يأخذ بالسعر من الفامي (البقال) وغيره، فيجوز الشراء بالعوض المعروف” (نظرية العقد لابن تيمية، ص 164).

“وعلى هذا عمل المسلمين دائمًا، لا يزالون يأخذون من الخباز الخبز، ومن اللحام اللحم، ومن الفامي الطعام، ومن الفاكهي الفاكهة، ولا يقدرون الثمن، بل يتراضيان بالسعر المعروف، ويرضى المشتري بما يبيع به البائع لغيره من الناس، وهذا هو المسترسل، وهو الذي لا يماكس، بل يرضى بما يبتاع به غيره، وإن لم يعرف قدر الثمن، فبيعه جائز إذا أنصفه، فإن غبنه فله الخيار” (نفسه، ص 165).

“فإن الله (…) لم يشترط في التبايع إلا التراضي، والتراضي يحصل من غالب الخلق بالسعر العام، وبما يبيع به عموم الناس، أكثر ممن يماكس عليه، وقد يكون غبنه. ولهذا يرضى الناس بتخبير الثمن أكثر مما يرضون بالمساومة، لأن هذا بناء على خبرة المشتري لنفسه، فكيف إذا علم أن عامة الناس يشترون بهذا الثمن؟ فهذا مما يرضى به جمهور الخلق. ومن قال: هذا بيع باطل، فقوله فاسد، مخالف للنص والقياس والمعقول، وليس هذا من الغرر الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم” (نفسه، ص 165).

“وظهر أن هذه التعقيدات التي تشترط في البيع لا أصل لها في كتاب ولا سنة، ولا أثر عن الصحابة ولا قياس، ولا عليها عمل المسلمين قديمًا ولا حديثًا، ولا مصلحة فيها. ولهذا من عامل الناس بها استثقلوه ونفروا منه، فعلم أنها من المنكر لا من المعروف، مثل اشتراط الصيغ في العقود، وتسمية مقدار الثمن، وغير ذلك” (نفسه، ص 172).

“إن عادة الناس أن يأخذوا الثياب والطعام، كالخبز واللحم والأدم والدهن والفاكهة من بياع ذلك بالسعر، ويعينوا قدر ذلك وقت الأخذ. قال أبو داود في مسائله عن أحمد “باب في الشراء، ولا يسمي الثمن”: سمعت أحمد سئل عن الرجل بعث إلى البقال، فيأخذ منه الشيء بعد الشيء، ويحاسبه بعد ذلك؟ قال: أرجو أن لا يكون بذلك بأس. قيل لأحمد: يكون البيع ساعتئذ؟ قال: لا (…)، فقد نص على جواز ابتياعه بسعره يوم الأخذ، وإن لم يعلم المشتري قدر السعر” (نفسه، ص 221).

“والمشتري بتخبير الثمن قد رضي بأمانة البائع وخبرته” (نفسه، ص 221).

“ولهذا جرت عادة الناس أن يرضوا بالبيع بتخبير الثمن أكثر مما يرضون بالمساومة، لأنه في تخبير الثمن يكون قد رضي بخبرة التاجر البائع وشرائه لنفسه (…)، فلا يشتري في العادة إلا بثمن المثل وأنقص. فلهذا جرت عادة الجاهلين بالقيم أن يشتروا بتخبير الثمن، بخلاف المساومة فإنما يعود فيها إلى خبرة نفسه، وإذا كان جاهلاً بالقيم لم يكن له خبرة يرجع فيها إلى نفسه، فيغبن.

ولهذا أيضًا يرضى الناس أن يشتروا بالسعر الذي يشتري به عامة الناس دون المساومة (نفسه ص 222).

وقال ابن القيم: “اختلف الفقهاء في جواز البيع بما ينقطع به السعر، من غير تقدير الثمن وقت العقد، وصورته البيع ممن يعامله من خباز أو لحام أو سمان أو غيرهم. يأخذ منه كل يوم شيئًا معلومًا، ثم يحاسبه عند رأس الشهر أو السنة على الجميع، ويعطيه ثمنه، فمنعه الأكثرون (…)، وكلهم إلا من شدد على نفسه يفعل ذلك، ولا يجد منه بدًا، وهو يفتي ببطلانه (…). والقول الثاني وهو الصواب المقطوع به، وهو عمل الناس في كل عصر ومصر، جواز البيع بما ينقطع به السعر، وهو منصوص الإمام أحمد، واختاره شيخنا، وسمعته يقول: هو أطيب لقلب المشتري من المساومة، يقول: لي أسوة بالناس، آخذ بما يأخذ به غيري. قال: والذين يمنعون من ذلك لا يمكنهم تركه، بل هم واقعون فيه، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا إجماع الأمة ولا قول صاحب ولا قياس صحيح ما يحرمه (…)، فهذا هو القياس الصحيح، ولا تقوم مصالح الناس إلا به” (إعلام الموقعين 4/5-6؛ وبدائع الفوائد 4/50).

تعليق على نص ابن تيمية وابن القيم

1-    يستفاد من كلامهما أن بيع الاستجرار، وإن لم يسمياه بهذا الاسم، كأن مشكلته الفقهية الوحيدة هي مشكلة البيع بسعر السوق، فإذا جاز البيع بسعر السوق جاز بيع الاستجرار. والحقيقة أن الاستجرار قد تكون فيه مشكلات أخرى ذكرناها، وهي مشكلة آجال المبيعات والأثمان، هذا إذا لم يتم التزام المشتري بالدفع في مواعيد محددة. ربما يقال هنا: إنهما أرادا شيئًا آخر غير بيع الاستجرار، لكن يستفاد من كلامهما المتعلق بالفامي والبقال والسمان والخباز أنهما أرادا بيع الاستجرار كما سماه الحنفية. ويلاحظ أن الموسوعة الفقهية الكويتية أدرجت كلامهما في نطاق كلامها عن بيع الاستجرار.

2-    لم يفرق الشيخان بين بيع الاستجرار وبيع الاسترسال، واستخدما اللفظ الأخير صراحة بخلاف الأول، فقد عبرا عنه بدون تسمية. والاسترسال (الاستنامة، الاستئمان) هو أن يستسلم المشتري للبائع بلا مساومة.

3-    إذا افترضنا أننا موافقون لهما في جواز البيع بسعر السوق أو بيع الاسترسال أو بيع الاستجرار إلا أنني أشعر بأنهما يبالغان في جواز هذا البيع، وكأنه خالٍ من كل إشكال، لاسيما عندما يقولان بأنه ليس في القرآن ولا السنة ولا الإجماع ولا قول صحابي ولا القياس ما يحرّمه !

لو كان الأمر كذلك ما اختلف الفقهاء في جوازه وفي تكييفه، ولا حرمه الشافعية، وقد سبق أن بينا الإشكالات الواردة عليه. ويجب أن نلاحظ أن متأخري الحنفية نعم أجازوه، ولكن على سبيل الاستحسان لا على سبيل القياس، وابن تيمية وابن القيم يذهبان إلى أنه لاشيء في الشريعة على خلاف القياس. وإني أرى أن هذا البيع إن كان جائزًا لكن جوازه ليس بذاك الوضوح، إنما هو واقع على الحد، والخلاف الفقهي فيه متوقع ومقبول، وليس فيه أي غرابة، كما تفيد عبارات الشيخين.

4-    نص الإمامان على أن المشتري يمكن أن يحاسب البياع في رأس الشهر أو السنة، وإني أرى أن السنة تعدّ أجلاً طويلاً لا أراه مقبولاً. وقد سبق أن بينت أن جواز هذا البيع عند من أجازه إنما هو مبني على مبالغ قليلة وآجال قصيرة يتسامح بها. وربما بالغ الشيخان في الترخص: مرة عند إباحة البيع، والإغضاء عن إشكالاته، ومرة أخرى عند تحديد آجال بعيدة!

وأخيرًا أقول: ربما الذي يقع فعلاً أن البياع قد يزيد في الثمن على سعر السوق، عندما يقوم المشتري بالسداد نسيئة. وقد يزيد في هذه الزيادة كلما آنس البائع من المشتري أجلاً أطول أو مماطلة في السداد. وقد يتغاضى المشتري عن ذلك، لأجل تسهيلات الاستدانة. وبالعكس فإن البياع قد لا يزيد على سعر السوق، بل ينقص عنه قليلاً، إذا كان المشتري يدفع دفعات مسبقة. وقد يكون هناك سعر سوق نقدي وأسعار سوق أخرى آجلة تزيد بزيادة الأجل. فإذا كانت هناك حصة للثمن من الزمن فلا بأس بالسنة وغيرها.

بيعة أهل المدينة هل هي مطابقة لبيع الاستجرار؟

“قد كان الناس يبتاعون اللحم بسعر معلوم، فيأخذ كل يوم وزنًا معلومًا، والثمن إلى العطاء، فلم ير الناس بذلك بأسًا. واللحم وكل ما يباع في الأسواق مما يتبايع الناس به فهو كذلك، لا يكون إلا بأمر معروف، ويبين ما يأخذ كل يوم، وإن كان الثمن إلى أجل معلوم، أو إلى العطاء، إذا كان ذلك العطاء معلومًا مأمونًا، إذا كان يشرع في أخذ ما اشترى، ولم يره مالك من الدين بالدين.

قال مالك: ولقد حدثني عبد الرحمن بن المجبر عن سالم بن عبد الله قال: كنا نبتاع اللحم كذا وكذا رطلاً بدينار، يأخذ كل يوم كذا وكذا، والثمن إلى العطاء، فلم ير أحد ذلك دينًا بدين، ولم يروا به بأسًا” (المدونة 3/290).

وقال الحطاب: “هذه تسمى بيعة أهل المدينة لاشتهارها بينهم (…)، وليس ذلك محض سلَم، ولذلك جاز تأخير رأس المال إليه فيه، ولا شراء شيء بعينه حقيقة (…). وأنا أجيز ذلك استحسانًا اتباعًا لعمل أهل المدينة، وإن كان القياس يخالفه” (مواهب الجليل 4/538).

“كنا نبتاع اللحم من الجزارين، بالمدينة المنورة، بسعر معلوم كل يوم رطلين أو ثلاثة، بشرط أن ندفع الثمن من العطاء (…) معروفًا مأمونًا، ولا يضرب فيه أجل، لأنه بيع (…) فلا يشترط فيه تعجيل رأس المال، ولا تأجيل الثمن، فيخالف السلم في هذين (…)، واستخفوا ذلك للضرورة، فليس فيه ابتداء دين بدين” (شرح الزرقاني 5/221).

من هذه النصوص المالكية يبدو أن بيعة أهل المدينة لا تطابق بيع الاستجرار، من حيث الثمن والمبيع والأجل، اللهم إلا الكلام فيها عن اللحام والاستحسان. وقد سيق هذا الكلام في سياق الكلام عن الدين بالدين وتأجيل البدلين.

الخلاصة

بيع الاستجرار هو بيع بالتعاطي يسحب فيه المشتري ما يحتاج إليه من سلع يومية بالتدريج، تأخذ فيه المبالغ الدائنة (الأثمان المسددة) والمدينة (المبيعات المسحوبة) شكل الحساب الجاري بين البائع والمبتاع:

1- الثمن فيه قد يقدم وقد يؤخر: إذا قدم الثمن لم يعلم المبيع جنسًا ولا وصفًا ولا كمًا ولا أجلاً، إلا عند التسليم. وإذا أخر الثمن لم يعلم مبلغه ولا أجله، إلا عند السداد.

2- الثمن لا يذكر: معلوم للبائع غير معلوم للمشتري :

–  يتحدد بسعر السوق (سعر المثل)؛

– يحدد على السلعة: مرقوم؛

– يحدده البائع: بيع الاسترسال أو بيع الاستنامة أو بيع الاستئمان.

فهذا البيع فيه تساهل من حيث العناصر المذكورة، ولذلك أجيز استحسانًا، ولعله ينحصر في السلع اليومية ذات المبالغ الصغيرة والآجال القريبة، لكي تغتفر فيه الجهالة أو الغرر، كما تغتفر فيه حصة الزمن من الثمن، ولعل باعة الاستجرار يزيدون في الثمن لأجل الزمن. ولا يمكن التوسع في الاستجرار من حيث المبالغ والآجال، لعدم إمكان تطبيق قيمة الزمن على جانبي حساب الاستجرار.

منعه الجمهور للجهالة والغرر، وأجازه متأخرو الحنفية استحسانًا، وأجازه ابن تيمية وابن القيم حسب الأصول والقواعد والقياس، وأنكرا ما فيه من جهالة أو غرر، ولعلهما بالغا في هذا الجواز، وبالغا أيضًا في التسامح بأجل الثمن لمدة سنة، دون الاقتصار على اليوم أو الأسبوع أو الشهر. وقد يحتار القارئ هل أجازاه حسب القواعد أم حسب المصالح والأعراف؟ فإنك تفهم أنهما أجازاه حسب القواعد من قولهما: ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا إجماع الأمة ولا قول صاحب ولا قياس صحيح ما يحرمه. وتفهم أنهما أجازاه للضرورة أو عموم البلوى أو للمصلحة والعرف من قولهما: لاتقوم مصالح الناس إلا به، أو قولهما: إن عليه عمل الناس أو المسلمين أو عادتهم في كل عصر ومصر…

وأخيرًا لم يثبت لدينا أن بيعة أهل المدينة مطابقة لبيع الاستجرار، والله أعلم.

http://wailah.110mb.com/index.php?option=com_content&view=article&id=17:2008-09-18-12-24-12&catid=6:2008-09-17-00-19-41&Itemid=8