العمل الخيري وآثاره الاقتصادية من منظور اسلامي (5)
بقلم : أنس سليمان أحمد اغبارية
ان الأزمة المالية العالمية غيّرت فعلا وجه العالم الاقتصادي ، وفي الطريق لتغيير الوجه الاجتماعي والخيري، فالمتابع لمجريات الأحداث يدرك حجم الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالكثير من دول العالم المتقدمة والنامية على حد سواء، مما جعل التشاؤم حول مستقبل الاقتصاد العالمي المنظور لا يبشر بالكثير من النمو والانتعاش، بحيث أصبح الحديث عن الكساد الاقتصادي خصوصا في الاقتصاديات المتقدمة هو المسيطر على عقليات المتابعين. ولعل الحديث عن القطاعات التي يطولها التأثر بهذه الأزمة الاقتصادية لا يقتصر على القطاعات الاقتصادية التجارية أو الحكومية وميزانياتها وحجم إنفاقها، بل إنه يغطي جميع أطياف الاقتصاد.
فالقطاع الخيري هو جزء مهم من المنظومة الاقتصادية وأحد المحركات المهمة للنهوض بالأمم، ولا أبالغ أنه القطاع الأكثر رحمة وشفافية والأقرب إلى قلوب الناس، لما له من أهداف نبيلة، ومساهمات عديدة في معالجة جروح الزمن، وما له من قيمة إيمانية تمثل الهدف لكثير من الناس.
وتشكل تلك الجمعيات والمؤسسات والمنظمات الخيرية في العالم قوة اقتصادية لا يستهان بها، من منظور حجم إنفاقها على مشروعاتها، ومكونات الأنشطة، وعدد المستفيدين من خدماتها، وفرص العمل، الأمر الذي يؤكد أن القطاع الخيري أصبح قطاعاً متوسطا بين القطاعين العام (الحكومي) والخاص، أي أنه أصبح قطاعا ثالثا لا يُستهان به، ويظهر من خلال العمل الخيري سواء محليا او عالميا آثارا اقتصادية إيجابية مباشرة، وغير مباشرة في مختلف جوانب الحياة.
ففي ظل هذه الأزمة يعاني القطاع الخاص أزمة سيولة وضعف في القوة الشرائية، مما يجعله يعيد جدولة الأولويات النقدية، ويحاول تقليل المصروفات وإدارة متحفظة للموارد المالية، ولذلك فإن قائمة الأولويات تركز بشكل كبير على إدارة العمل وزيادة مبيعاته والمحافظة على الموظفين ودفع رواتبهم، وعليه فإن قائمة الأولويات لا تشمل الرعايات والتبرعات للأعمال الخيرية وشبه الخيرية، وذلك بلا شك يمثل تحديا مباشرا للجمعيات الخيرية من ناحية تأثيرها السلبي في الموارد المالية التي تحصل عليها الجمعيات من القطاع الخاص في ظل الأزمة، ويجعلها بالتالي تعيد حساباتها المالية التي قد تكون قد أغفلت بشكل ما تأثير الأزمة المالية المفاجئة.
ولذلك فاني اتوقع أن تصبح قطاعات العمل الخيري ضحية اخرى من ضحايا الأزمة المالية وتداعياتها، مما يعني أن الأزمة لن تتوقف تداعياتها عند انهيار المصارف والمؤسسات المالية ، او الشركات التجارية، بل ستطول الأزمة القطاع الخيري ، وان صرّح البعض ان الأزمة طالت هذا القطاع بشكل أو بآخر .
وعليه فان قِلة التمويل من أبرز المشكلات التي تعاني منها الجمعيات والمؤسسات الخيرية في ظل الأزمة، لأن التمويل شرط رئيس لأنشطة الجمعيات والمؤسسات الخيرية ومشاريعها، وكلما كان تمويل الجمعيات والمؤسسات ميسراً أسهم في دفع العجلة الاقتصادية والاجتماعية إلى الأمام، ولذا كان من واجب الجمعيات والمؤسسات العمل على تطوير عمليات تمويل أموال الصدقات والتبرعات، لتطوير العمل الخيري من جهة، وتطوير المجتمع اقتصادياً من جهة أخرى .
كيفية تطوير عمل الجمعيات والمؤسسات الخيرية بما يتناسب مع الشريعة الاسلامية :
تعد الموارد والإيرادات المالية من الأهمية بمكان، للجمعيات والمؤسسات الخيرية والأهلية، وهي من المقومات الأساسية للعمل الخيري والأهلي، إذ كلما تحسنت أموال الجمعيات والمؤسسات الخيرية والأهلية، تكون أقدر على أداء أدوار إيجابية في مشروعاتها، وخاصة في ديمومة الإنفاق على الفقراء وأهل الحاجة والمعوزين.
والشريعة الإسلامية الغراء تحث على استثمار الأموال وتشغيلها في كل ما يعود على الفرد والمجتمع بالخير والنفع، والجمعيات والمؤسسات الخيرية لا تكون قوية في أنشطتها وأعمالها ومشاريعها، إلا إذا كانت ذات مال وفير، ورصيد كبير، وهذا الأمر لا يكون إلا باستثمار الأموال التي تجبيها الجمعيات والمؤسسات الخيرية والأهلية ، في مشروعات نامية وإنتاجية تغذي نفسها بنفسها.
ولا بد في هذا المجال من بحث مدى مشروعية جواز استثمار الأموال التي تُجبى من المتبرعين والمتصدقين للجمعيات والمؤسسات الخيرية والأهلية، وهل يجوز لهذه الجمعيات والمؤسسات استثمار أموال المتبرعين وتنميتها في مشاريع ذات مردود يتوقع الحصول عليه في المستقبل ؟
أقول وبالله التوفيق : للولي أن يعمل على تنمية أموال اليتامى ولا يتركها عرضة للنقصان والتآكل، سواء من الزكاة أو من النفقة ، أو من الصدقة ، وقد روي عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده، ان النبي – صلى الله عليه وسلم- خطب الناس فقال :«ألا من ولي يتيما له مال فليتجر فيه ، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة»، وهذا دليل على مشروعية الاتجار في أموال اليتامى، ويعد هذا الحديث أيضاً دليلا ومدخلا على مشروعية استثمار أموال الجمعيات والمؤسسات الخيرية وتنميتها من وجوه عدة:
1- ان حثّ رسول الله على استثمار أموال اليتامى وتنميتها، يعطي دلالة شرعية على مشروعية استثمار أموال اليتامى والفقراء وأهل العوز والحاجة ومن في حكمهم، بجامع الضعف ، بل العلة في المقيس أظهر منها في المقيس عليه، بدليل أن اليتيم يملك مالاً ملكاً تاماً، يستقل به، والجهة التي تنفق عليها الجمعيات والمؤسسات الخيرية والأهلية لا تملك إلا ملكا عاماً محدوداً.
2- تقوم الجمعيات والمؤسسات الخيرية والأهلية بإنفاق إيراداتها على أصناف، وأجناس، وأنواع عديدة، ومنهم اليتامى، وهم يتزايدون، وإذا لم تقم الجمعيات والمؤسسات باستثمار أموالها، فستنفد وتتناقص، وربما ينقطع المدد عن الفقراء وأهل العوز، فيحل بهم الضرر، وإزالة الضرر مطلوب ، وما دام لا يتحقق إلا بتقليب المال طلباً للربح، فالاستثمار والتوظيف هما الوسيلة الوحيدة لدفع الضرر، وهذا الأمر مطلوب شرعاً وذلك أن للوسائل حكم المقاصد .
3- في الحديث الشريف الذي رواه أنس بن مالك، أن رجلا من الأنصار جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – يسأله فقال: «لك في بيتك شيء؟» قال: بلى، حلس( كساء يجعل على ظهر البعير تحت رحله، وهو بساط يبسط في البيت) نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقدح نشرب فيه الماء قال :«إئتني بهما» قال: فأتاه بهما فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ثم قال :«من يشتري هذين» فقال رجل : أنا آخذهما بدرهم قال :«من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثا» قال رجل أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري وقال :«اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوما فأتني به» ففعل فأخذه رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فشد فيه عودا بيده وقال :«اذهب فاحتطب ولا أراك خمسة عشر يوما»، فهذا الحديث إشارة صريحة وواضحة لاستثمار المال وتنميته وإن قل، لأن ذلك الصحابي الجليل لو أكل بثمن القدح والحلس لآل أمره إلى العوز والحاجة والفقر، لذلك وجهه النبي – صلى الله عليه وسلم- إلى ما هو أفضل وأعظم، وجمع له بين أن يشتري طعاماً، نوع من الاستثمار الباقي بطريق العمل ليدر عليه دخلاً يومياً، وذلك لأن المنهج النبوي يأخذ بعين الاعتبار ليس سد العوز والحاجة فقط، بل بناء المجتمع السليم من النقص، والسليم من الآفات الاجتماعية، ومراعاة شعور الفقير وعزة نفسه، وإيجابية عطائه .
حكم الشرع في استثمار أموال الجمعيات الخيرية
وعلى أية حال، لا بد من معرفة حكم استثمار أموال الجمعيات والمؤسسات الخيرية والأهلية وضوابطه، بصورة أوسع، سواء أكانت هذه الأموال أموال زكاة (صدقة إجبارية) أو أموال صدقات تطوعية (صدقات اختيارية) :
وقد اختلف الفقهاء المعاصرون في حكم مشروعية استثمار أموال الزكاة وتنميتها، بعد وصولها إلى يد الحاكم أو نائبه على قولين:(علماً أن الجمعيات والمؤسسات الخيرية تقوم مقام الحاكم والوالي اليوم).
القول الأول: ذهب إليه من العلماء المعاصرين كل من الدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور عبد العزيز الخياط، والدكتور عبد السلام العبادي، والشيخ مصطفى الزرقا، والقائل بجواز استثمار أموال الزكاة في مشاريع ذات ريع.
أما أدلة هذا الفريق فكانت الآتي:
1- الاستئناس بالأحاديث التي تحث على العمل والإنتاج والاستثمار، وشاهد ذلك ما روي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- بأن باع ما عند الرجل الأنصاري بدرهمين عندما آتاه يسأله فقال له رسول الله «اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك واشتر بالآخر قدوما»،وبعد ان غاب الأنصاري خمسة عشر يوما،إذا به قد كسب ما يكفيه.
2- القياس على استثمار أموال الصدقات ، حيث كان – صلى الله عليه وسلم – والخلفاء من بعده، يجعلون لإبل وغنم الصدقات أماكن خاصة للرعي، وكان لها رعاة يرعونها، حيث خصصت هذه الأماكن لإنماء أموال الصدقات ، وكذلك القياس على استثمار أموال اليتامى، كما جاء في الحديث الشريف بحثّ الأوصياء على تنمية أموال اليتامى حتى لا تأكلها الصدقة، وعليه فانه يجوز استثمار أموال الزكاة قبل دفعها لمستحقيها لتحقيق منفعة.
3- الاعتماد على مذهب الحنفية في جواز أداء الزكاة على التراخي، وعليه رأى الفقهاء المعاصرون جواز استثمار أموال الزكاة بتأجيل دفعها إلى المستحقين.
4- القياس على جواز استثمار الزكاة من قبل المستحقين بقصد زيادتها، وتأمين كفايتهم، إذ يجوز استثمارها وتنميتها من قبل الإمام في مشاريع تدر دخلا وريعا دائما ينفق في حاجة المستحقين.
5- الإستئناس بالأحاديث التي تحض على الوقف والصدقة الجارية، حيث أن ثوابهما يبقى، ويقوم القائم عليها على تنميتها، واستثمارها، والتصرف فيها، بما يحقق مصلحة الموقوف عليهم، فإذا جاز للقائم عليها التصرف فيها، بما يحقق مصلحة المسلمين، جاز للإمام التصرف في أموال الزكاة، واستثمارها بما يحقق مصلحة المستحقين.
6- ذكر القرآن الكريم مستحقي الزكاة دون ذكر طريقة لإيصالها إليهم ،فتكون طريقة الإيصال إلى المستحقين محل إجتهاد والتي يقررها ولي الامر.
القول الثاني: ذهب إليه من العلماء المعاصرين كل من الدكتور عبد الله علوان، والدكتور وهبة الزحيلي ، والقائل بعدم جواز استثمار أموال الزكاة وتنميتها .
أما أدلة هذا الفريق فكانت الآتي:
1- ان استثمار أموال الزكاة يعرض المال للربح والخسارة، فربما يترتب على استثمار أموال الزكاة ضياع هذه الأموال .
2- ان استثمار وتنمية أموال الزكاة في المشاريع الإنمائية، يؤدي إلى انتظار الفائدة المترتبة عليها، وهذا الأمر يأخذ وقتا طويلا، فيكون سببا لتأخير تسليم أموال الزكاة لمستحقيها، كما ان جمهور الفقهاء يرون أن أداء الزكاة على الفور وليس على التراخي .
3- يد الإمام أو من ينوب عنه على الزكاة يد أمانة وليس يد تصرف أو استثمار.
4- استثمار اموال الزكاة لا يؤدي إلى تملك المستحقين تملكاً فردياً لهذه الاموال، مع ان جمهور الفقهاء قالوا: ان التملك شرط لأداء الزكاة.
5- استثمار اموال الزكاة دون إذن المستحقين، فيه إهمال لإرادتهم وحقهم .
الرأي الراجح
ذهب قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن استثمار أموال الزكاة وتنميتها إلى أنه:
“يجوز من حيث المبدأ، توظيف أموال الزكاة في مشاريع استثمارية تنتهي بتمليك أصحاب الاستحقاق للزكاة، او تكون تابعة للجهة الشرعية المسؤولة عن جمع الزكاة وتوزيعها، على ان تكون بعد تلبية الحاجة الماسة الفورية للمستحقين وتوافر الضمانات الكافية للبعد عن الخسائر.”
وعليه فاني أرى ان الراجح ما ذهب إليه مجيزو استثمار أموال الزكاة وتنميتها، وذلك لِما يحقق هذا الاستثمار من آثار ايجابية لصالح الفرد والمجتمع، وعليه فإن الجمعيات والمؤسسات الخيرية والأهلية يجوز لها استثمار أموال الزكاة ، مع الأخذ بعين الاعتبار الضوابط الشرعية لاستثمار هذه الأموال وتنميتها، ومن هذه الضوابط ما يلي:
1- عدم تعلق الزكاة بوجوه صرف عاجلة للمستحقين .
2- ان يحقق الاستثمار مصلحة للمستحقين، ويكون استثمار هذه الأموال في المجالات المشروعة.
3- تتم بناء على دراسات كافية في الجدوى الاقتصادية للتقليل من نسب المخاطرة.
4- ان يتولى الإشراف على الاستثمار ممن هم أهل الخبرة والعلم في الاستثمارات .
5- قابلية الأموال المستثمرة للتنضيض في حال الضرورة والحاجة.
6- الإنتفاع بالأصول وريعها يقصر على المستحقين الثمانية دون غيرهم.
7- ان يكون في الاستثمار نفع عائد إلى المستحقين، أما إذا كان الشك قائماً بالنفع أو الخسارة، فلا يحل الاستثمار.
فبعد أن توصلنا إلى الحكم الشرعي في مسألة استثمار وتنمية أموال الزكاة، وهو جواز مشروعية استثمارها وتنميتها مع الأخذ بعين الاعتبار الضوابط السابقة، فمن باب أولى ان تكون مشروعية استثمار وتنمية أموال الصدقات التطوعية في الجمعيات والمؤسسات الخيرية والأهلية جائزة شرعاً بل واجبة، لكن لا بد أن تتوافر له ضوابط تحكم استثمار أموال الصدقات التطوعية، وهي :
1- ان يكون مجال العمل الاستثماري المزمع إقامته جائزاً شرعاً.
2- ان يتحرى القائمون على الجمعيات والمؤسسات الخيرية والأهلية ما فيه مصلحة الجمعية أو المؤسسة التي يشرفون عليها ، فإن رأى مشرفو الجمعية أو المؤسسة مشروعا استثماريا تنمويا فيه مصلحة للجمعية أو المؤسسة التي يشرفون عليها، قاموا به إذا غلب على ظنهم نجاحه ، لأنه لا محظور شرعيا فيه .
3- ان يستعين مشرفو الجمعية أو المؤسسة عند القيام بمشاريع استثمارية وتنموية بأهل الخبرة والتجربة، والاستفادة ممن لهم باع طويل في ميادين الاستثمار.
4- أن تقوم الجمعية أو المؤسسة الخيرية بإنشاء شركة أو جهاز إداري مستقل عن الجمعية أو المؤسسة الخيرية، يهتم بشؤونها الاستثمارية، حتى إذا خسرت الشركة أو الجهاز الإداري في استثماراته، فإن الجمعية أو المؤسسة الخيرية لا تتأثر بذلك.
5- ضمان الجمعية الخيرية بإمكانية استرجاع الأموال المستثمرة ، أي ان تحافظ الجمعيات على الأموال من الهلاك او الضياع .
في الحلقة المقبلة من سلسلة مقالاتنا سنكون مع بعض صور ومجالات الإستثمار المباحة شرعاً ، ونماذج مع صور المشروعات الصغيرة المباحة شرعاً ، بإذن الله تعالى .
المصدر :
موقع فلسطينيو 48
http://www.pls48.net/default.asp?ID=38927
أحدث التعليقات