بسم الله، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد،،، إن دراسة مستقصية لمدارس الفكر الاقتصادي مستوعبة لنتاجات أعلامه، تقودنا إلى استخلاص الآتي :
1. أن جُّل الفكر الاقتصادي الوضعي هو محاولات تفسيرية للواقع ومشكلاته، لذا فهو يصنف إجمالا ضمن التحليل الاقتصادي، في حين يتركز الفكر الإسلامي حول توجيه الحياة الاقتصادية الوجهة المرضية بحسب الأحكام ومنظومة القيم الشرعية، لذا فهو يصنف ضمن المذهب الاقتصادي، وهو العنصر الأكبر والاهم بين عناصر الفكر الإسلامي.
وهذه الحقيقة تعطي للفكر الاقتصادي الإسلامي السمة المعيارية، بينما يغلب الطابع الموضوعي على الفكر الوضعي، ولعل هذا السبب هو الذي جعل البعض يصرح بأن الاقتصاد علم غير أخلاقي، وذلك لفرط تركيزه على التحليل وإهماله للترجيحات الحكمية، وجعل بعضاً آخر يصرح بأن الاقتصاد الإسلامي ليس علماً.
2. إن الفكر الاقتصادي الوضعي يتسم بالنسبية؛ فالبيئة المعرفية هي التي تحدد القدرات الإدراكية للمفكر، والبيئة الاقتصادية الاجتماعية السياسية هي التي تحدد له المشكلات التي يتصدى لها، والمناخ العام الذي يعيشه.
ولأجل ذلك كان الفكر الوضعي جدلياً على نحو كبير: جدل الفكر مع الواقع، وجدل الفكر مع الفكر المباين: إن فكر السكولائيين يعكس الواقع الإقطاعي، بينما يعكس فكر التجاريين العهد الاستعماري، ويعكس فكر الفيزيوقراط واقع الزراعة الفرنسية، وهكذا … لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة للفكر الاقتصادي الإسلامي، صحيح أن المذهب الاقتصادي الإسلامي ينصب على الواقع معالجة وتوجيهاً، لكن هذا المذهب – وبكل تأكيد – ليس من إفرازات هذا الواقع، وليس مدموغا بنسبيته.
لقد كان التشريع الاقتصادي الإسلامي ثورة على الواقع الجاهلي ومعطياته، ولم يكن أبداً انعكاساً ولا تدعيماً له، كما يتضح من موقف الإسلام من الربا؛ فقد عجب المستشرقون كيف يقدم النبي r على تحريمه، والمجتمع القرشي التجاري أحوج ما يكون إليه !!، كما يتضح من موقف الإسلام من الرق، وقد عجبوا أيضاً كيف ينشر النبي r موقفاً رافضاً للرق، ويشرع معالجة تفصيليةً لتحرير العبيد، في حين كان الرق قوام الحياة الاقتصادية كما يعتقدون.
3. يتسم الفكر الوضعي بالانتمائية، بمعنى أن كل مفكر يعبر عن مصالح الطبقة التي ينتمي إليها؛ فملّاك الأرض لهم مصالحهم التي يرعاها مفكروهم، وهي غير مصالح ملّاك رأس المال التي يرعاها المنظرون من أبناء طبقتهم، وهي غير مصالح العمال التي يدافع عنها أعلامهم، كما أن مصالح ألمانيا التي ينافح عنها (فردريك ليست) و(غوستاف شمولر)، هي غير مصالح انجلترا التي نظّر لها ريكاردو وتوماس مان.
ولقد قبل الفكر الإنساني بجناحيه: المثالي والمادي هذه القناعة؛ فقد أكد افلاطون: “أن الشرائع مرآة من يسنها“، وأكد ماركس: “أن الأفكار السائدة هي أفكار الطبقات السائدة“، وقد تجلت هذه القناعة بوضوح في مجال التوزيع. لكن الأمر مختلف تماماً في الفكر الإسلامي، فهو ليس بفكر طبقة سائدة تملي على الآخرين ما يحقق مصالحها، ولا بفكر طبقة مسحوقة تريد أن تسود. ان المذهب الاقتصادي في الإسلام، جزء من رسالة السماء إلى الأرض، انه فصل الحَكَمَ العَدْل بين خلقه، لذلك فهو مبرأ من الانحياز والانتمائية.
4. احتلت الفلسفة النفعية والقيمة الاستهلاكية، مكانة مركزية في الفكر الوضعي قديمه وحديثه، وليس الأمر كذلك في الفكر الاقتصادي الإسلامي، الذي يضع الأمور في نصابها من خلال جملة موازنات بين متطلبات الروح والجسد، فيشرع وظيفية الاستهلاك ووسطيته، وبين متطلبات الفرد والمجتمع فيشرع وحده دالة الرفاهية الاجتماعية، ويؤكد الوظيفة الاجتماعية للملكية الخاصة، ويدعو إلى الاستعلاء على النزعة الاستهلاكية والفكرة النفعية جملة، بل أنه يعيد تعريف النفعية بحسب منظومته الاعتقادية والقيمية، فيدخل فيها البعد الأخروي والبعد ألإيثاري؛ فمنفعة الإنسان الحقيقية كما يفهمها المؤمن، ليست بمقدار ما يستهلك، بل بمقدار ما ينفع الغير وبمقدار ما يؤثر على نفسه، وبمقدار ما يربي نفسه ويزكيها. كل ذلك في ظل منظومة الإسلام الاعتقادية والتشريعية والقيمية.
المصدر: http://faculty.yu.edu.jo/SABHANY/default.aspx?pg=d9917c57-94cf-49bb-975f-88858ce5bc9f
أحدث التعليقات