بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: التضخم ارتفاع مستمر ومحسوس في المستوى العام للأسعار، ووجهه الآخر انخفاض مستمر ومحسوس في قيمة النقود، وهذه الظاهرة قديمة قدم استخدام الاجتماع الإنساني للنقود، لكن غيلانها قد كشرت عن أنيابها اليوم كما لم تفعل في أي وقت مضى، فهي تقعد للناس بكل صراط لتطفف قيمة ما في أيديهم من نقود وتصدهم عن شراء لوازمهم حتى الضروريات منها.
إن تنيّن التضخم قد تسبب في زيادة أعداد الفقراء على نحو غير مسبوق، فقد أذاب فحيحه الطبقة الوسطى في المجتمع فتساقط أفرادها إلى ما دون خط الكفاية، بل ودون خط الفقر كما تتساقط قطرات الشمع، أما الفقراء كان الله في عونهم؛ فقد أحرقت نيران التضخم أكبادهم حتى تفحمت ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وتسألني من أي السهوب جاء هذا التنين ؟! وكيف تعملق على هذا النحو الاسطوري ؟! لقد كان التساؤل عن جنون الأسعار أمراً مشروعاً، وإزاء حيرة صاحبي سألت نفسي عن أسباب هذا التضخم الفضيع، واعتصرت جعبة الفكر والنظر فما وجدت له غير سببين لا ثالث لهما:
أما الأول فهو الإصدارات الدولارية الهائلة التي تمول بها الولايات المتحدة الأمريكية حروبها الكونية؛ فإدارة جورج بوش الابن قد أخذت على نفسها عهداً أن لا ترفع الضرائب المباشرة على الممول الأمريكي ولم تزل ملتزمة بهذا العهد، وفي الوقت ذاته هي تدشن الحرب تلو الحرب في كل مكان على ظهر هذا الكوكب. إن تكاليف حربها الجارية في أفغانستان والعراق قد بلغت ( 16 مليار دولارا ) شهرياً، وقدرت خسائرها الإجمالية في حرب العراق بـ (3 تريليون دولارا) حسب تقديرات (ستغليتز – بيلمز) الأكثر تحفظا.
وإذاً فلا بد من مصدر آخر للتمويل، وليس ذلك سوى التمويل بالعجز والإصدار النقدي. إن الإفراط في طبع الدولارات يعني زيادة المتداول النقدي قياساً إلى المتداول السلعي، وعندئذ يظهر ولا بد مفعول النظرية الكمية، تلك النظرية التي تقيم علاقة عكسية ومباشرة بين كمية النقود وقيمتها، لقد تكلّم (المقريزي) عن هذه العلاقة بإسهاب وتكلم فيها (أوريزم) و(بودان) و( آرفنغ فشر) وغيرهم، إن الاجتماع الإنساني شخّص هذه العلاقة بوضوح، بل وشخّص مواسم فشوها: أعني أيام الحروب حين تمس الحاجة المفرطة إلى التمويل.
إن الدولار قد أصبح منذ الحرب العالمية الثانية، عملة قيادية واحتياطياً دولياً، وهذا يعني عمليا أن بنك الاحتياطي الفيدرالي قد أصبح بنكاً مركزياً للعالم يتحكم بالسيولة ووسائل الدفع الدولية، لكنه مع الأسف يدير هذه السيولة بأنانية سافرة تتنكر لمصالح الاقتصاد العالمي. والواقع الجديد يعني أن كل دفعة إصدار جديدة تتقبلها أسواق العالم، تملّك أمريكا أصولاً حقيقية في تلك الأسواق بلا أي مقابل، وهذا في حد ذاته قرصنة بالغة الخطورة.
ويعني أيضاً أن أعباء تمويل الحروب التي تمول بهذه الإصدارات، ترحّل ليس إلى المواطن دافع الضرائب فحسب، إنما إلى كل سكان المعمورة الذين يشترون سلعاً ارتفعت أسعارها جرّاء هذه الإصدارات، ومقدار هذا التمويل الذي نكره على دفعه يتمثل بالزيادة في الأسعار لعموم مشترياتنا.
وتعبيرا عن ذاتيتها المفرطة فقد أعفت إدارة بوش دافع الضرائب الأمريكي من أعباء حروبها، فلم ترفع عليه الضرائب المباشرة بل على العكس خفضتها لا لشيء إلا لان هناك من يتحمل عن الاقتصاد الأمريكي هذه الأعباء!!.
نعم هذا هو بالضبط ما يحصل اليوم، وهو ما حصل تماماً في حرب فيتنام إلا أنه لا (ديجول) اليوم يعترض على هذه القيادة النقدية العالمية الأنانية الخلّاقة !!
إن حال الدولار كان يمكن أن يكون مثل حال (المارك الألماني) في الحرب العالمية لكن الفرق هو أن المارك كان عملة لألمانيا فقط، أما الدولار فقد أصبح عملة للعالم الذي يُكره على تحمل هذه الأعباء عن الاقتصاد الأمريكي لأنه يقبل الدولار في أسواقه، ولأنه يقيّم صادراته بالدولار، ويربط عملاته بالدولار.
هذا هو السبب الأول والرئيس للتضخم العالمي، وما صدقك يا صاحبي من قال لك غير هذا.
أما السبب الثاني فمرّده إلى السياسات البائسة التي فرضتها المنظمات الدولية، أعني سياسات الخصخصة وإعادة الهيكلة والتحرير؛ فطواغيت العصر النافذة قد صّدت النظم الاقتصادية في البلدان النامية عن مصالح شعوبها، وزيّنت لها سياسات اقتصادية لا تخدم بالمآل إلا الشركات متعدية الجنسية ومتعدية السيادة، ومصالح الدولة المتسّيدة في العالم الجديد أحادي القطبية.
وما الانكشاف الشامل للاقتصادات النامية إلا الحصاد الطبيعي لتلك السياسات التي اختزلت دور الدولة النامية إلى موظف تشريفات يستقبل رأس المال الأجنبي ويكرم وفادته ليس غير، أما الاستقرار السعري والأمن الغذائي، أما النمو ومكافحة البطالة فكل ذلك أصبح من أحلام اليقظة في ظل النظام الاقتصادي الأَجد، ناهيك عن العدالة التوزيعية التي يُمنع طروقها الخاطر ولو في الأحلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وبعد هذا … ألا زلت تسأل يا صاحبي عن سر التضخم !؟
المصدر: http://faculty.yu.edu.jo/SABHANY/default.aspx?pg=c4e63b7f-672f-4d4d-b482-abd32d39faaf
أحدث التعليقات