في المخاطرة ومعناها – أ.د.عبدالجبار حمد السبهاني

بسم الله، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد،،، فقد وردت للمخاطرة معان عديدة، ارتبطت بها احكام شرعية مختلفة؛ فطورا يكون وجودها قادحا في مشروعية المعاملات، وآخر يكون غيابها سببا في عدم المشروعية تلك، ولان المسألة كذلك، ولاننا نشخص خلطا خطيرا في معاني المخاطرة ينسحب على حكم النشاط الذي يرتبط بها، لذا ارى لزاما ان نحرر معاني المخاطرة بوضوح يرفع اللبس والتشويش ويؤصل لقول فصل في احكام المعاملات، وهنا يمكننا ان نرصد المعاني التالية :

1. الغرر أو عدم التأكد الذي يكتنف محل العقد: قال الامام الشافعي في سياق رفضه للوعد الملزم: “… وإن تبايعا به على أن ألزما أنفسهما (البائع والمشتري) الأمر الأول (إنفاذ البيع) فهو مفسوخ من قبل شيئين (لسببين): أحدهما أنه تبايعاه قبل أن يملكه البائع، والثاني أنه على مخاطرة (غرر) إنك إن اشتريته على كذا (سعر مجهول) أربحك فيه كذا…” الشافعي، الأم، ج3، بيع العروض، ص 48.

والغرر على ضروب منها: غرر الوجود، وفيه يتطرق الاحتمال بالوجود أو العدم الى محل العقد، ومثل ذلك الغرر: بيع المضامين وبيع الملاقيح وبيع السنين وحبل الحبلة.

اما الضرب الثاني فهو غرر الحدود أو الصفات، وفيه يتطرق الاحتمال الى القدر او الصفة المعتبرة في المعقود عليهما عند التعاقد، ومثل ذلك الغرر: بيع الثنية وبيع الملامسة وبيع المنابذة وبيع الصوف على الحيوان.

أما الضرب الثالث من الغرر فيتطرق فيه الاحتمال لا الى وجود محل العقد أو صفته انما الى إمكانية تسلمه وقبضه، ومثال هذا الغرر بيع السمك في الماء والطير في الهواء وبيع الحيوان الشارد.

وواضح مما تقدم ان المقصود بالمخاطرة هنا – الغرر – علة معرفية تقدح بالعقود التي ينبغي أن ترسى على أساس من المعرفة التامة؛ فهذه المعرفة هي شرط الرضا الذي هو ركن العقود، ولذلك فهذه المخاطرة تطيح بمشروعية العقد الذي تخالطه، وهو ما أكدته الأحاديث الشريفة الواردة في هذا الباب.

2. المقامرة أو المجازفة التي ترسي العقد بين المتعاملين على الاحتمال المجرد، كما هو حال لعب الميسر والنرد والرهان على الخيل او الرهان على المؤشر وكل اشكال ما يعرف اليوم باليانصيب، فكل ذلك ينطوي على غرر وجهالة، لكن هذا الغرر وهذه الجهالة هي بذاتها محل العقد بخلاف المعنى الاول الذي تقدم، وفيه يكون محل العقد صحيحا من حيث الاصل لكن الجهالة تفسده أو تبطله، اما هنا فمحل العقد هو محض الغرر الذي يتقاسمه العاقدان، وقد اثبت القرآن الكريم وجوب اجتناب الميسر مع ما قد يبدو فيه من نفع لان إثمه اكبر من نفعه.

3. التعرض للخطر والاشراف على الهلاك بسببه، وهذا هو المعنى اللغوي للمخاطرة: ابن منظور، لسان العرب، مادة خطر/ الرازي، مختار الصحاح، مادة خ ط ر. والتعرض للخطر واحتمال الهلاك بسببه قد يكون تهورا وطيشا وبذلك يكون محرما لأنه لا غاية تبرره، وقد يكون شجاعة وبسالة والتزاما شرعيا يرتفع به قدر الإنسان عند الله تعالى وعند خلقه، حينما تكون هذه المخاطرة دفاعا وفداء، مع أن النتيجة قد تكون في الحالتين واحدة وهي هلاك المخاطر.

4. احتمال التعرض لواقعة معينة تم توصيفها عقديا (عقد التأمين) على انها خطر يوجب التعويض، وهذا هو معنى الخطر في التأمين والتشريعات الناظمة له. والذي عليه الفتوى إن وجود هذا الغرر في المعاوضات يبطلها، وبذلك جاءت قرارات المجامع الفقهية بصدد التأمين التجاري.

5. القدر العلي الرفيع، وهو معنى لغوي، وفيه قال القرطبي: “التجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة… وهي نوعان: تقلب في الحضر من غير ثقلة ولا سفر، وهذا تربص واحتكار وقد رغب عنه أولوا الاقدار، وزهد فيه ذوو الاخطار – فالخطر هنا يعني القدر الرفيع والهمة العالية – والثاني تقليب المال بالاسفار ونقله الى الامصار، فهذا اليق بأهل المروءة، وأعم جدوى، غير انه اكثر خطرا احتمالا للخسران وأعظم غررا – أي اكثر جهالة وسترا للعواقب “.القرطبي، الجامع لاحكام القرآن،ج5 ، تفسير الاية 29 من سورة النساء، والجمل الاعتراضية التي تحتها خط ليست من أصل النص.

6. مدى انحراف التدفقات النقدية الفعلية عن التدفقات النقدية المقدرة في مشروع استثماري معين. وهذا هو المعنى الشائع في دراسات الجدوى وتقييم الاستثمار.

7. الاستعداد الايجابي لتحمل نتائج النشاط الاقتصادي ربحا أو خسارة، وهذا هو مقصودنا وهو المعنى الايجابي الذي تعلقت بوجوده صحة المعاملات فالمخاطرة هنا هي التي تؤهل المستثمر للربح كما تقضي القاعدة: “الخراج بالضمان” أو “الغنم بالغرم”، مصداقا لنهيه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن. وفي ذلك يقول ابن القيم مفرقا بين المخاطرة الايجابية والمخاطرة السلبية: ” المخاطرة مخاطرتان: مخاطرة التجار، وهو ان يشتري السلعة بقصد بيعها ويربح ويتوكل على الله – ففي هذه المخاطرة صلاح للتاجر وللمنتج وللمستهلك، ولذلك فهي مخاطرة مبررة ومرغوبة اجتماعيا رغم الغرر الذي فيها ورغم الجهالة التي تكتنف نتائجها، وهي التي تؤهل باذلها للارتباح، اما المخاطرة السلبية فهي لا تديم منفعة ناجزة ولا تنتج منفعة جديدة ولا تنقل المال بين الناس على اسس مشروعة، وفيها يقول ابن القيم: والخطر الثاني: الميسر الذي يتضمن أكل المال بالباطل، فهذا الذي حرمه الله تعالى ورسوله …” زاد المعاد، ج 5، طبعة الحلبي، ص 816. وما قاله ابن القيم اكده ابن مفلح:”… اما مخاطرة التجارة فيشتري السلعة بقصد ان يبيعها بربح، ويتوكل على الله في ذلك فهذا الذي احله الله” الفروع، ج 4، ص18.

ونخلص من كل ما تقدم إلى الأتي:

هناك اختلاف أكيد في معنى المخاطرة.

وهناك اختلاف في اتجاه المخاطرة والمقصد الذي يستهدف منها.

وكلا الأمرين السابقين له دخل في الحكم على مشروعية النشاط الذي تكتنفه المخاطرة؛ ففي القمار مخاطرة وفي التجارة والاستثمار مخاطرة أيضا، لكن مخاطرة القمار تجعله منشطا محرما لأنه لا نفع فيه لأحد إلا على حساب الآخرين دون وجه حق – هذا زيادة على ما تقدم حول محل العقد في هذه المعاملة – بينما مخاطرة التجارة والاستثمار مخاطرة ممتدحة ومشروعة لانها تنشر الخير وتقوم على العدل وتؤول الى صلاح للجميع.

هناك خطأ فاحش وقع فيه كثيرون عندما دعوا إلى وأد المخاطرة بالمعنى الايجابي المتقدم أو تحجيمها أو ترحيلها إلى الغير بذريعة حفظ المال باعتباره مقصدا شرعيا، ومن هنا جاء التنظير لمشروعية الوعد الملزم في بيوع المواصفة ولمشروعية التأمين التجاري ولمشروعية بيوع الخيارات والمستقبليات كأساليب لادارة المخاطر المصرفية والاستثمارية، وهو تنظير في غاية العقم والخطورة.

وسبحان ربك رب العزة عما يصفون

وسلام على المرسلين

والحمد لله رب العالمين

المصدر: http://faculty.yu.edu.jo/SABHANY/default.aspx?pg=54cab4e7-1ef1-428d-aacc-0f620efbcf64