بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والآه، وبعد: الاستخلاف اسم قرءاني ينصرف إلى المركز الذي خص به الله تعالى الإنسان دون غيره من المخلوقات تكريماً واختباراً، قال تعالى: “وإذْ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة“ (البقرة،30).
جوهر الاستخلاف:
إن الاستخلاف بهذا المعنى مركز شرعي مزدوج جوهره:
• تفويض للإنسان بخلافته على الأرض وإطلاق يده في هذا الوجود تنعماً واستهلاكاً لكفاية ذاته وإحرازاً لوجوده، كما يتضح من آيات كثيرة الجامع فيها تقرير هذا التفويض: فالخلق الغائي والتجعيل والتسخير والتذليل والتمكين كلها تقريرات قرءانية تفيد إثبات هذا المقصد، وسنفصل فيها عند الحديث عن شروط الاستخلاف، وإذا فيد الإنسان مبسوطة على العالم وما فيه بما جعل الله له من الاستخلاف، كما يقرر أبن خلدون في مقدمته.
• تكليف للإنسان بعمارة الأرض: “هو أنشأكم من الأرض وأستعمركم فيها“ (هود،61)؛ فهي إذا خلافة تلزم الإنسان بإدارة الموارد وعمارة الأرض على نحو ما يحدده المنهج الإلهي: المذهب الاقتصادي في الإسلام، الذي يحدد علاقة الإنسان بالثروة وعلاقة الإنسان بالإنسان من خلالها في إطار العلاقة الاستخلافية المقدسة: علاقة الإنسان برب الوجود تبارك وتعالى.
أركان الاستخلاف:
والمبنى الاعتقادي الإسلامي يوضح بجلاء أركان الاستخلاف على النحو التالي:
• الله سبحانه هو المستخِلف.
• الإنسان هو الخليفة.
• الأرض هي موضوع الاستخلاف.
• الدين: الإسلام هو دليل الاستخلاف.
شروط الاستخلاف:
وبحسب التصور المتقدم فإن للاستخلاف شروط مادية وأخرى عقدية، أما الشروط المادية فتتمثل بالتراتيب الإلهية للمفردات الكونية التي تجعل من خلافة الإنسان على هذه الأرض أمرا ممكنا، ويستفاد ذلك من خلال جملة من النواميس الإلهية التي تحكم الكون المادي تحقيقا للغرض السابق. وقد عبّر القرآن الكريم عن هذا المقصد بوجوه متعددة، نذكر منها وعلى سبيل التمثيل لا الحصر:
• الخلق الغائي لأجل كفاية الإنسان قال تعالى: “هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا…” (البقرة،29).
• التجعيل؛ فالله سبحانه جعل المخلوقات على نحو يمكن استفادة الإنسان منها: “… الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناءا” (البقرة،22) ” الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا” (طه،53).
• التسخير؛ فالله سبحانه وتعالى قد خلق مفردات هذا الوجود وجعلها مسخّرة للإنسان على نحوٍ يمكنه من الاستفادة منها: “ألم تروا أن الله سخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة…” (لقمان،20). “… وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه…” (الجاثية،12).
وما أجملته الآيات السابقات فصّلته آيات أخرى توكيدا وتبيينا؛ فالشمس والقمر والبحر والأنهار والليل والنهار والنجوم والرياح … كلها مسخّرات مجعولات للمقصد ذاته، بل إن قانون التسخير يمتد ليشمل الإنسان تعلية على اختلاف الملكات وتماثل الحاجات التي تجعل التعاون وتقسيم العمل أمرا محتما، قال تعالى: “… ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً…” (الزخرف،32).
وإذاً فالتسخير والتجعيل ترتيب وظيفي للمفردات الكونية لتأمين خلافة الإنسان في الأرض.
• التذليل فالله سبحانه وتعالى قد جعل الوجود بمفرداته المختلفة مذللا للإنسان: “هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه واليه النشور” (الملك،15)، والأنعام ذللت للإنسان ليفيد منها ركوباً وطعماً: ” … وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون” (يس،72)، بل وحمولة وفرشا وعوامل في الحرث والسقي وزينة.
• ومقتضى التراتيب الوظيفية السابقة هو تمكين الإنسان: “ولقد مكنّاكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون” (الأعراف،10)، كل ذلك في سياق إعداد المستقر والمتاع اللازم للإنسان وفي هذا قال تعالى: “… ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين“ (البقرة،36).
وأما الشروط الاعتقادية فتتمثل بتفضل الله تعالى وتعهده سبحانه بهداية البشر زيادة على تعهده بتوفير المستقر والمتاع، قال تعالى: ” ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين” (البقرة،2) وقال أيضا: “قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون” (البقرة،38). وقد توالى هدي الله رسلا ورسالات ونبوات تترا، ولله الحمد والمنة، وكلها بهدف استنقاذ الإنسان.
وإذا كانت الشرائط المادية عامة مطلقة ميّسرة للجنس البشري، فإن الشرائط الاعتقادية يستفيد منها من يقبل بمنهج الله تعالى وهديه فتكمل له شرائط الخلافة المرضية.
منهج القرآن في التقرير:
إن القرءان يبين للناس أن الإسلام هو دين الحياة القيمة: “ذلك دين القيمة” ( البينة،5)، ويبين أيضا انه يهدي للبديل الأقوم في ضبط الحياة الإنسانية: “إن هذا القرءان يهدي للتي هي أقوم” (الإسراء،9).
وهو مع ذلك لا يريد أن يذعن الناس لهذا المنهج كرهاً وقسراً، ولو أراد ذلك ما جعل الله الإنسان حراً مختاراً، إنما أراد له أن يتحقق من قيّومية هذا المنهج وقوامته على علم واقتناع ليكون عبدا لله على بصيرة. والقرءان الكريم يلجئ العقل البشري إلى هذه الحقيقة من خلال سلسلة من المحاجّات البالغة:
• تبدأ بتقرير الخالقية: “ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنّى يؤفكون” (العنكبوت،61)، “… قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار“ (الرعد،16).
• وعلى الحقيقة المتقدمة حقيقة التسليم بالخالقية ينبني الإقرار والتسليم بالعالمية: “ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير“ (الملك،14)؛ فمن يصنع الشيء أعلم الناس به كذلك ولله المثل الأعلى، فالله سبحانه إذ هو الخالق هو أعلم بخلقه.
• ثم يرتب القرءان على حقيقة الخالقية حقيقة أخرى هي الإقرار بالمالكية لله تعالى فمن يصنع الشيء يستأثر بتملكه والإنسان مفطور على الاستحواذ على نتاج جهده، فكيف بمن خلق ابتداء أليس المنطق يقضي بأن يكون مالكاً بل ومتفرداً في ملكه: “وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا” (الإسراء،111).
• وأخيراً فلما كان الله تعالى مالكاً لما خلق وعالماً بما خلق كان من المنطق تماماً أن يكون له الأمر والحكم فيما خلق، فهي حاكمية استوفت شرطها الحقوقي وشرطها المعرفي: “… ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين” (الأعراف،54)، الخلق الذي استلزم الملك والعلم فأفضيا إلى التفرد في الأمر والحكم، “وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم واليه ترجعون” (القصص،70).
تلك ببساطة هي حجة القرءان البالغة على الناس لإثبات قوامه المنهج الإلهي. إن أبرز آثار الإيمان بمبدأ الاستخلاف إنه ينقل الإنسان من مركز المالك المتصرف بما يملك على مداركه وهواه، إلى مستخلف ملزم بدليل الخلافة: الإسلام ومذهبه الاقتصادي، وهي نقلة لها ثمارها سواء على صعيد إدارة الثروة وإنتاجها أو على صعيد توزيعها واستهلاكها كما يتضح تفصيلاً من ضوابط الاستخلاف.
المصدر: http://faculty.yu.edu.jo/SABHANY/default.aspx?pg=7445ad48-3d7e-45e1-8dfc-85ad86cd7c5f
أحدث التعليقات