بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
اعتبر الفكر الاقتصادي الغربي “بخل الطبيعة” سبباً للمشكلة الاقتصادية، وقد أكدت نظرية (مالثوس) Malthus في السكان هذا التوصيف حيث يميل السكان، كما يعتقد إلى الزيادة بحسب متوالية هندسية، بينما يميل الغذاء إلى الزيادة بحسب متوالية عددية، وإذاً فلا بُد أن تحدث الفجوة بين السكان والموارد الغذائية، وسوف تزاد هذه الفجوة اتساعاً مع الزمن.
أما الحل عند مالثوس فيتمثل في العزوف عن الزواج أو تأجيله بهدف الحد من الزيادة السكانية، وإلا فإن الطبيعة ستحصد الرؤوس الزائدة بسيف الأوبئة والأمراض جراء سوء التغذية، أو بالحروب اصطراعاً على الموارد الغذائية.
وقد بعثت المالثوسية الجديدة تلك الرؤيا المتشائمة مؤكدة المعدل الأسي لنمو الاحتياجات البشرية مع نضوب الكثير من الموارد من جهة، وتلوث البيئة من جهة أخرى وبذلك شخصت حدوداً وكوابح قسرية للنمو. هذا وقد تمثلت المؤسسات الدولية عموما الرؤيا المالثوسية وجاءت كل توصياتها مؤكدة وجوب الحد من الزيادة السكانية.
أما الفكر الاشتراكي فقد اعتبر التناقض بين قوى الإنتاج، التي اكتسبت جراء تطورها طابعها الاجتماعي، وبين علاقات الإنتاج التي تتشبث بطابعها الخاص من خلال الملكية الخاصة، هو جوهر المشكلة الاقتصادية بحسب التوصيف الماركسي. ومنطقياً جاءت المعالجة بمحاولة إلحاق علاقات الإنتاج بقوى الإنتاج عن طريق إلغاء الملكية الخاصة بالتأميم إيذاناً بانقضاء مرحلة استغلالية من عمر التشكيلات الاجتماعية.
وفي هذا الإطار نلاحظ أن التصورات الوضعية آنفة الذكر للمشكلة الاقتصادية ولمعالجتها لا تتسق مع المعطيات الإسلامية التي تؤكد كفاية الرزق: {أليس الله بكافٍ عبده}(الزمر،36)، {وأتاكم من كل ما سألتموه …}(إبراهيم،34)، {وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة}(لقمان،20). كما أنها تؤكد تقدير الأقوات كمظهر من مظاهر حكمته تعالى: {وقدّر فيها أقواتها}(فصلت،10)، {وفي السماء رزقكم وما توعدون}(الذاريات،22).
وتؤكد هذه الأُسس كذلك وجوب تحلي الإنسان بحسن الظن بالله تعالى ومجانبة وعيد الشيطان: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً}(البقرة،268)، كما انتقد القرءآن الكريم الكثير من ممارسات الجاهلية مثل قتل الأولاد ووأد البنات، قال تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق}(الأنعام،151)، {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق}(الإسراء،31)، {وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت}(التكوير،8).
كما دعت السنة النبوية إلى التكاثر والتناسل قال r: “تناسلوا تكاثروا فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة … ولو بسقط”، وقد فهم الكثير من الصحابة أن “العزل” هو الوأد الخفي لمجانسته في الأثر للوأد الظاهر.
وبناءً على كل ما تقدم فإنه يتعذر قبول التوصيف المالثوسي للمشكلة الاقتصادية تسبيبا ومعالجة. ومن ناحية أخرى فإن الأسس الاعتقادية والتشريعية أيضاً ترفض التفسير المادي للتاريخ كما عرضته الماركسية، وبشكل محدد فإن الإسلام يقر الملكية الخاصة ولكن بعد تكييفها لتصبح استخلافاً خاصاً تستأدى منه وظيفته الاجتماعية، ويستأدى منه الحق الاجتماعي؛ فالملكية الخاصة بهذا الوصف، والمنضبطة بأحكام المذهب الاقتصادي في الإسلام، مؤسسة حيوية تلازم الوجود الإنساني، وهي ضمانة لكفاية الحاجات من جهة، وضمان لتثوير الطاقات الفردية من جهة أخرى، لذا فلا التوصيف ولا المعالجة الماركسية للمشكلة الاقتصادية يحظى بالقبول كذلك.
أما المشكلة الاقتصادية ببعدها الفني باعتبارها مشكلة اختيار فهذه مما لا ينكره الإسلام، بل أن مقتضيات الخطاب القرءآني لتؤكد ذلك، فمنذُ أسكن آدم r الجنة ناداه ربه: {إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى. وإنك لا تضمأ فيها ولا تضحى}، ودلالة الخطاب القرءاني تفيد أن وجود الإنسان خارج الجنة ينطوي على تفتق سيل الحاجات التي تستلزم السعي والعمل لإشباعها، وهو مقصد من مقاصد استخلاف الإنسان على الأرض: {هو أنشأكم من الأرض وأستعمركم فيها}(هود،61)، فالحاجات هي الحافز للنشاط الاقتصادي ووسائل إشباعها متاحة في الطبيعة بصورة موارد تستلزم عمل الإنسان وسعيه لاستيلاد الطيبات.
إن المشكلة الاقتصادية في التصور الإسلامي ليست حتمية بيئية كما تقرر المالثوسية وليست حتمية تاريخية كما تقرر الماركسية، إنها مشكلة سلوكية يتسبب فيها الإنسان حين يكسل عن استغلال موارد بيئته، وهي مشكلة سلوكية حين يفرّط الإنسان في الاستهلاك ويتجاوز الحد اللازم لكفايته، وهي مشكلة سلوكية أيضاً حينما تسود الأثرة والظلم توزيع الثروة والموارد والدخول، والمشكلة أيضاً مشكلة سلوكية حين يتجاوز الإنسان على مجتمعه فيعطل أدوات هذا المجتمع التي تيسر النشاط الاقتصادي (اكتناز النقد)، وهي مشكلة سلوكية أيضاً حين يعمد هذا المتعسف إلى محاولة ابتزاز المجتمع فلا يعيد إليه أداته (النقود) إلا بمقابل جزية هي الفائدة أو الربا.
ومع كل ما تقدم تحدث المشكلة الاقتصادية لكن الإقرار بوجودها ليس اتهاماً إلحادياً للطبيعة بالبخل ولا تشكيكاً بحكمة الله تعالى.
ثم أن المشكلة بعد ذلك مشكلة مؤسسية تنجم عن تنصل الدولة عن أداء وظيفتها في الضمان الاجتماعي وفي إعادة التوزيع من خلال إنفاذ أحكام الزكاة وتصفية الربا. وهي مشكلة مؤسسية أيضاً تنجم عن غياب ضوابط الجغرافية السياسية الإسلامية والاستعاضة عنها بجغرافية أنانية الطابع تحول دون اشتراك الناس بموارد الأرض.
ولكل ما تقدم فإن البناء التشريعي والمؤسسي الإسلامي جاء يحتوي هذه الميول السلوكية والثغرات المؤسسية التي تتسبب في وجود المشكلة من خلال سيل من الأحكام والمؤسسات التي يجندها لهذا الغرض نذكر منها على سبيل التمثيل لا الاستقصاء:
(1) تعبئة الموارد البشرية والطبيعية والمالية للنشاط الاقتصادي ومنع تعطلها، وهنا نجد أن الإسلام قد مجّد العمل خاصة اليدوي منه وحث عليه وجعله واجباً شرعياً في حدود معينة، وجعل الحرف جميعها من فروض الكفاية، وقد ترجمت سنته r القولية والعملية هذا التوجه.
أما الموارد الطبيعية فيؤكد الإسلام وجوب استغلالها ومن ذلك أحكام تمنع تعطيل الأرض، وأحكام تمنع احتجازها وأحكام تحفز الناس إلى إحيائها واستقطاعها والجامع في هذه الأحكام ونظائرها هو منع تعطيل الموارد.
أما الموارد المالية فنجد الإسلام قد شرع لأجل تعبئتها تحريم الاكتناز وتحريم الربا وأوجب الزكاة في الأرصدة النقدية العاطلة.
(2) ضبط الحاجات وظيفياً حسب الاعتبارات الشرعية، فالإسلام لا يعتبر كل رغبة أو ميل حاجة معتبرة واجبة الإشباع، إنما يعتبر فقط الحاجات الحقيقية التي يترتب على إشباعها اكتمال قدرات الإنسان، لذلك نراه يستثنى كل ما يخل بطاقات الإنسان الجسدية مثل استهلاك الميتة والدم والخنزير، ويستثنى كل ما يخل بطاقاته العقلية كالمسكرات والمخدرات، فالأصل هو مشروعية الطيبات وحرمة الخبائث. كما يؤكد الإسلام الوسطية في إشباع الحاجات فلا إسراف ولا تقتير ولا ترف ولا مخيلة. ويؤكد كذلك وحدة دالة الرفاهية الاجتماعية ووجوب تخصيص الموارد بما يحققها.
(3) ثمة أحكام أخرى كثيرة تنجز عدالة التوزيع في مجال التوزيع الابتدائي، حيث يربط الإسلام نشأة حق التملك وإدامته، بدوام العمل الاقتصادي والمشاركة الإيجابية بالنشاط الاقتصادي.
أما في مجال التوزيع الوظيفي فإننا نجد الإسلام يحرم المكافآت الطفيلية كالفائدة والريع من خلال أحكام كثيرة منها أحكام الربا والصرف والمخابرة والكراء.
وفي مجال إعادة التوزيع نجد أن الإسلام يشرع الزكاة وهي الحد الأدنى من إعادة التوزيع الذي تلزم به الإدارة الاقتصادية ويندب الفرد إلى أبعد من ذلك من خلال الأحكام ومنظومة القيم الإسلامية. ويلاحظ أن الإسلام تتعايش في نظامه التوزيعي اعتبارات العمل والملكية والحاجة كأسس حقوقية ترعى اعتبارات العمارة والعدالة بذات الوقت.
(4) تكييف نظام التملك ليحقق أهداف العمارة العادلة من خلال توكيد الوظيفة الاجتماعية للاستخلاف الخاص (الملكية الخاصة)، ومن خلال الاستخلاف الاجتماعي بصورهِ المختلفة التي ترعى العرض العام واعتبارات الرفاهية الاجتماعية.
(5) توكيد الوظيفة الاقتصادية للدولة، فالدولة الإسلامية قيمِّة على النشاط الخاص، تمنع الاحتكار وتمنع الاستغلال وتمنع سوء استخدام الحق والمضارة فيه. والدولة الإسلامية مشاركة في النشاط الاقتصادي من خلال موضوعات الاستخلاف الاجتماعي تملكها وتديرها، وهي دولة رفاهية ملزمة بتوفير العرض العام ورعاية المصالح العامة فضلاً عن قوامتها على إعادة التوزيع من خلال الزكاة.
إن هذا البناء التشريعي والمؤسسي كفيل بتحصين المجتمع من المشكلة الاقتصادية بمضامينها الوضعية السابقة، أما المشكلة الاقتصادية بالمفهوم الفني أي كونها مشكلة ندرة نسبية تحتم الاختيار بين الاستخدامات البديلة للموارد، فهي مما لا يتعارض مع الأُسس الاعتقادية والتشريعية بل يكون ذلك من مقتضيات الوجود الإنساني على الأرض وينبغي أن يتعامل مع مواردها بالرشد والحساب الاقتصادي إذ اقتضت حكمته تعالى اختبار الإنسان في هذه الحياة في ظروف وشروط مادية تتعلق بأسباب حياته وشروط بقائه.
إن إقامة الأوضاع الشرعية وتنفيذ الأحكام، لا يعني انتفاء الحاجة إلى الحساب الاقتصادي ولا أدل على ذلك من واقع المجتمع الإسلامي على عهد النبوة فاحتياجات بيت النبوة التي دفعت نساء النبي r إلى الثورة عليه والتي خلدتها آيات التخيير، واحتياجات الأمة والدولة، وكل دروس الإيثار التي امتدحها القرءآن الكريم، دليل على وجود المشكلة بمضمونها الإسلامي الموجب لحكمة التعامل مع الموارد بالرشد والعقلانية وبالسعي لاستغلالها وحسن توزيع ثمارها، وكل هذه محكات لاختبار الإنسان لا تتنافى مع كمال التقدير.
المصدر: http://faculty.yu.edu.jo/SABHANY/default.aspx?pg=6d2f9fc5-55f0-42ea-80e7-13b49cfae49c
أحدث التعليقات