بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
إن الاكتفاء الذاتي حالة فرضية لا وجود لها في دنيا الواقع، ومبدأ تقسيم العمل ضرورة، بل هو سنة خلقية {ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً} (الزخرف، 32)؛ فالأفراد تختلف منتجاتهم باختلاف طاقاتهم وملكاتهم وهم مع ذلك يشتركون في استهلاك الطيبات التي ينتجها الجميع، وإذاً فالمبادلة ضرورة اجتماعية ملحة، وقد مثلّت المقايضة أول صور التبادل ثم بعد ذلك تحول الاجتماع الإنساني إلى استخدام النقود بهدف تيسير التبادل الذي تنوع وتوسع كثيرا.
والتبادل تعبير مرادف للتبايع الذي أكد الإسلام مشروعيته، باعتباره الإطار العقدي المرضي للتبادل قال تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا}(البقرة، 275)، والبيع هو مبادلة المال بالمال تمليكا وتملكا، أو هو دفع عوض (الثمن) في معوض (المبيع)، وقد استنبط الفقهاء مقومات عقد البيع السليم وهي كما بينت المصنفات الفقهية:
• التراضي المعبر عنه بالإيجاب والقبول، وكل منهما إرادة جازمة مصرح بها متجهة لإبرام عقد البيع، وفي ذلك قال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم…” (النساء، 29)، وقال النبيr : “لا يتفرقن بيِّعان إلا عن رضا”، ويقول أيضا: ” إنما البيع عن تراضٍ”.
• العاقدان: البائع والمشتري ويؤكد الإسلام وجوب استكمال أهليتهما للتعاقد، والأهلية لها بعد معرفي يتمثل برشد المتعاقد، ويستدل عليه بالبلوغ والعقل، وبعد حقوقي إذ يشترط أن يلي العقد مالك المال أو من ينوب عنه شرعا.
• المعقود عليهما: أي المبيع والثمن، ويؤكد الإسلام وجوب خلوهما من الخبث وسلامتهما من الغرر والربا.
ومن الأحكام التفصيلية التي وردت في مجال التبادل وتدخلت بجدية في ضبط هيكل السوق الإسلامية ما يلي:
• النهي عن الغش في كم المبيع، قال تعالى: {ويل للمطففين. الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون. وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} (المطففين، 1-3)، وقال أيضاً: {وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان}( الرحمن، 9). وقال على لسان شعيب عليه الصلاة والسلام :{ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط} (هود، 85).
• النهي عن الغش في نوعية السلعة وإظهارها على غير حقيقتها، فقد ثبت أن النبي r كان يراقب السلع في الأسواق ويتحرى عن نوعيتها، وكان يقول r : “من غشنا فليس منا”، والأصل في البيوع سلامة محل العقد أو بيان حاله بلا تمويه أو تدليس.
• النهي عن الغبن في تقييم الأشياء، قال تعالى: {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} (الشعراء، 85)؛ فغبن المسترسل حرام ولا يجوز أن يربح عليه أكثر مما يربح على غيره. والغبن الفاحش الذي يخرج عن تقدير المقومين موجب للفسخ نصفة للمغبون.
• النهي عن الغرر سواء أكان هذا الغرر غرر وجود مثل بيع الملاقيح والمضامين وبيع السنين، أم غرر حدود مثل بيع الثنية إلا أن تعلم، وبيع الصوف على الغنم والسمن في اللبن، أم غرر إمكانية القبض والتسليم مثل بيع السمك في الماء والطائر في الهواء والحيوان الشارد، وكل ذلك صور للغرر ورد النهي عنها.
• النهي عن التغرير بوسائل قولية أو فعلية، فقد ورد التنديد بالحلف لتنفيق السلعة: “الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة”، وورد النهي عن التصرية: “لا تصروا الأبل…”، وعن النجش: “ولا تناجشوا…”، وعن تلقي الركبان: “لا تلقوا السلع …”، والتصرية حبس الحليب في ضرع الحيوان الحلوب ليومين أو أكثر فيغتر لرؤيته المشتري، والنجش هو السوم الكاذب والمزايدة في السعر لإيهام المشترين، وتلقي السلع شراؤها على مداخل المدن من الجالبين قبل تعرفهم على أسعار السوق الحقيقية.
• النهي عن بيع المبيع قبل قبضه والنهي عن بيع ما ليس عندك، فقد نهى النبي r عن بيع الطعام قبل قبضه وفي رواية حتى يحوزه التجار إلى رحالهم وفي رواية حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع وصاع المشترى، والراجح أن النهي يشمل كل المبيعات كما قرر ابن عباس رضي الله عنهما.
• النهي عن المنابذة والملامسة، وهي بيوع جاهلية لا تحقق المعرفة التامة للمتعاقدين بالمبيع، ولا تؤمن التروي وحرية الاختيار للمتبادلين.
• النهي عن البيوع المتضمنة للربا أو شبهة الربا مثل “بيع العينة” و”بيعتين في بيعة” و “بيع وسلف”، وهي عقود لها مبنى البيع ومقصد الربا أو أنها مظنة الربا، لذلك نهى النبي r عنها سدا للذريعة ولأن العبرة بالمقاصد والمعاني وليست بالألفاظ والمباني.
• النهي عن ربا النساء وهو تأجيل قبض أحد البدلين في عملية الصرف الذي وهو بيع عوضاه من جنس الأثمان (النقود).
• النهي عن ربا الفضل وهو الزيادة قدرا من أحد البدلين المتحدين جنسا من الأموال الربوية: الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح، ولو اختلفت الجودة.
• النهي عن بيع المكره لأنه ينقض ركن الرضا سواء أكان هذا الإكراه ماديا أم أدبيا، قال r : ” لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه”.
• النهي عن بيع المضطر أي الذي تضطره الحاجة الماسة إلى بيع ما لم يكن راغبا ببيعه، ومثل هذا الأصل أن يعان ويسلف ويرفد من الزكاة لا أن يبايع ويبخس ثمن سلعته لاضطراره، وقد نهى النبي r عن بيع المضطر.
• النهي عن الاحتكار: والاحتكار هو حبس ما يتضرر الناس بحبسه تربصا للغلاء، وهو في الطعام أظهر من غيره لانخفاض مرونة الطلب عليه لأهميته، وبصدد الاحتكار يقول r : “لا يحتكر إلا خاطئ”، ويقول أيضا: “الجالب مرزوق والمحتكر ملعون”، فالمحتكر يقيد العرض ويضيق على الناس بهدف رفع السعر، والاحتكار فيه أكراه مؤسسي يلجئ المشتري إلى القبول بسعر عالي ما كان ليرضى به لو أتيح له خيار آخر، وقد قرر الفقهاء تسعير المال المحتكر وبيعه جبراً على مالكه دفعا لضرره عن الناس.
• النهي عن البيع على البيع والسوم على السوم كما صح في الحديث، والمقصود بالبيع على البيع أن تنافس أخاك البائع؛ فتغري المتعاقد معه على التحول إليك بتخفيض الثمن أو تقديم تنازلات في شروط البيع ففي إيحاش وإضرار بالبائع الأول وقد يجر ذلك إلى حرب أسعار بين البائعين. والمقصود بالسوم على السوم أن تنافس أخاك المشتري؛ فتدفع للبائع ثمنا أعلى من الثمن الذي عرضه ليتحول إليك وفي ذلك إيحاش ومضارة للسائم الأول.
• بعد أن ضبط الإسلام هيكل السوق بأحكام تؤمن المعرفة التامة وتؤمن حرية التصرف والاختيار بلا عيوب أو مشوهات لإرادة المتعاقدين، أكد الإسلام دور آلية السوق في تكوين الأسعار دون تدخل ولي الأمر؛ فقد امتنع النبي r عن التسعير حين طلب منه ذلك وقال: “إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال”، فالأصل أن الناس مسلطون على أموالهم يتبايعونها على ما يتراضون عليه، ومع ذلك فقد ترخص الفقهاء في التسعير أو أوجبوه إذا كان لضرورة لا تدرك إلا به.
• وفي خطوة تالية تستهدف تحقق الرضا بتأمين المعرفة والاختيار المتروي، أثبت الإسلام خيارات البيوع، ومن ذلك خيار الجلب الذي يثبت للبائع، وخيار التصرية الذي يثبت للمشتري، وخيار الغبن وخيار الخلابة وخيار الرؤيا وخيار الشرط.
• وفي خط دفاعي أخير لاستكمال الرضا وتدعيم المعاملات على أساسه، شرع الإسلام إقالة النادم وندب إليها وأثاب عليها حتى بعد أن ينعقد البيع صحيحا لازما.
• ومع إن الإسلام يحرص على البعد التربوي التزكوي والالتزام الذاتي لدى الأفراد، إلا إنه لا يقتصر على ذلك إنما يشفعه بالإلزام الموضوعي من خلال جهاز الحسبة أو جهاز الرقابة على الأسواق.
السعر والثمن والقيمة:
وقد يكون مناسبا أن نختم هذا المبحث بالتمييز بين السعر وهو ما يطلبه البائع بدلا لسلعته، والثمن وهو ما يتراضى عليه العاقدان وهو المعول عليه في إرساء العقود، والقيمة التي هي تقدير المقومين من أهل الدراية لما ينبغي أن يكون عليه قدر الثمن.
أنواع البيوع:
وحينما يكون كلا البدلين سلعة فإن البيع يسمى مقايضة، وحينما يكون كلا البدلين نقدا فإنه يسمى صرفا، وحين يكون أحد البدلين سلعة والثاني ثمنا حاضرا فهذا هو البيع الحال، أما إذا كان الثمن غائبا ثابتا في الذمة فهذا هو البيع المؤجل، وحين يكون الثمن حالا مسلما إلى البائع والسلعة غائبة موصوفة في ذمته فهذا هو بيع السلم. وقد ضبط الشرع كل ذلك دفعا للغرر والمضارة وتحقيقا لعدالة المعاملات واستقرارها.
طرق تحديد الثمن:
• المساومة: وفيها يتم تحديد الثمن بتراوض المتعاقدين حتى يتراضيا.
• المزايدة: وفيها يتحدد السعر على ضوء أعلى سوم تستام به السلعة.
• الأمانة: وفيها يستأمن المشتري البائع ويصدق إقراره بثمن الشراء، وهنا يتحدد السعر بناءا على سعر الشراء السابق أو سعر التقوم (سعر الشراء زائدا تكاليف النقل والخزن والتحميل).
o فإذا كان البيع بمثل ثمن الشراء (أو التقوم) فهذا بيع تولية.
o وإذا زاد عيه قدرا أو نسبة كان بيع مرابحة.
o وإذا نقص عنه قدرا أو نسبة كان وضيعة.
وجملة القول إن الإسلام تدخل بكثافة في هيكل السوق من خلال أحكام كثيرة وبذلك كفل سلامة عمل آليته في ظل ظروف من المعرفة التامة وحرية الإرادة، ونحن نعتقد إن السوق الإسلامية بالمواصفات السابقة، والتي استقصى الفقهاء بحث معاملاتها، هي واحدة من أهم مؤسسات النظام الاقتصادي الإسلامي، وهي جديرة بانجاز وظائف هذا النظام بكفاءة وعدالة، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
المصدر: http://faculty.yu.edu.jo/SABHANY/default.aspx?pg=0c6d6979-f142-4c48-97a8-9f90931f2883
أحدث التعليقات