بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد،،، الزكاة ركن من أركان الإسلام وشعيرة من شعائره، والزكاة في دلالتها اللغوية طهرة ونماء، وهذه هي حقيقتها، والزكاة في دلالتها الاصطلاحية: استقطاع مالي جبري من أموال المكلفين، يعاد توزيعه على مستحقين معينين وصفا، فهي كما عرّفها الفقهاء: فريضة مالية مخصوصة تجب في الأموال بشروط مخصوصة وبمقادير مخصوصة وتوضع حصيلتها في مصارف مخصوصة.
وليس من أهداف هذه السطور أن تمعن في تعقب الدليل الفقهي للزكاة الذي فصّل هذه “المخصوصات”، إنما سيوجه الحديث على النحو الذي يلزم لتجلية آثار الزكاة الاقتصادية الاجتماعية، وما ينبغي فعله لتعظيم هذه الآثار.
الأساس العقدي والأخلاقي للزكاة:
وهذه الفريضة الإسلامية لها أساس عقدي وأخلاقي أكّده مبدأ الاستخلاف؛ فالله سبحانه حين أمر الإنسان بالإنفاق قدَّم الحيثيات التي توجب منطقا على المكلف الاستجابة والتسليم بهذا الأمر فقال تعالى: “وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه” (سورة الحديد، الآية 7)، وقال أيضا: “وآتوهم من مال الله الذي آتاكم” (سورة النور، الآية 33)؛ فالمال مال الله والناس مستخلفون فيه ومأمورون بالإنفاق منه.
وإجمالاً فمبدأ الاستخلاف يعيد تعريف الملكية من شكلها المبتسر الذي تواضع عليه الناس: كونها علاقة ثنائية بين الإنسان والمال، إلى حقيقتها كما وضحها مبدأ الاستخلاف؛ فالله سبحانه وتعالى هو المالك، والإنسان هو الخليفة، والمال هو محل الاستخلاف، والإسلام هو دليل هذا الاستخلاف، وهذا الفهم والتصور الذي أكّده المبنى القرءاني ينقل موقع الإنسان من مالك متصرف فيما يملك إلى مستخلف ملزم بدليل الخلافة، ونظام الزكاة ركن من أركان هذا الدليل.
أما الأساس الأخلاقي الذي تستند إليه الزكاة فهو مبدأ التكافل الاجتماعي، فلا يعقل أن يستقل الأغنياء بما ملكوا، ويهلك الفقراء الذين قصرت أيديهم عن أرزاقهم لمرض أو عوق أو عاهة، وعليه كان لزاماً أن يتكفل أغنياء المجتمع بفقرائه، وليس في تاريخ الاجتماع الإنساني ما هو أنبل من هذا الحس؛ فالأغنياء ندبوا لبذل الفضل: “ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو” (سورة البقرة، الآية 219)، بل امتدح القرءان الذين يؤثرون المحتاج على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، أما حدود الإنفاق الدنيا التي أوجبها الإسلام فأقلها الزكاة المكتوبة، أو الحق المعلوم: “والذين في أموالهم حق معلوم” (سورة المعارج، الآية 24).
إن نظرية الاستخلاف كأساس عقدي وأخلاقي للزكاة، تتفوق على نظرية العقد المالي التي كانت الأساس الذي تستند إليه الضريبة في الفكر المالي الكلاسيكي إذ كيفت الضريبة على إنها عوض تتقاضاه الدولة نظير ما تقدم من خدمات للجمهور، كما إنها تتفوق على نظرية التضامن التي مثّلت الأساس القانوني للضريبة في فكر التاريخيين، إذْ اعتبروا الدولة حاجة قومية يتضامن رعاياها في تمويل أنشطتها؛ فالأمر مختلف في الزكاة فهي ليست ضريبة، وليست إيراداً عاماً للدولة، وليست نفقة عامة، إنما هي مدفوعات محولة من الأغنياء إلى الفقراء Transfer Payment، وهذا يتضح فيما أخرجه البخاري من حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) المبين لطبيعتها: “… فأنبئهم أن الله افترض في أموالهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردُّ على فقرائهم”.
وهكذا إذا تفترق الزكاة عن الضريبة في مقاصدها وفي طبيعتها وتتفوق عليها بالأساس العقدي والأخلاقي الذي تستند عليه، هذا فضلاً عن عدالتها وملاءمتها ووضوحها وبعدها عن التحكمية؛ فتعلمها وتعليمها وتطبيقها دين يرجو المسلم بركته في الدنيا وثوابه في الآخرة.
الزكاة في إطار نظام التوزيع الإسلامي:
إن جرد الأحكام التوزيعية التي وردت في المبنى التشريعي تسفر عن تشخيص ثلاث مراحل هي:
1- مرحلة التوزيع الابتدائي، وفي هذه المرحلة تتحدد نشأة حق التملك وتتبلور أسس الاختصاص الفردي، وفيها نجد أن أحكام الإحياء والإقطاع والحمى والتعدين والإحراز كلها تسفر عن حقيقة عريضة واحدة تقضي بأن الإسلام جعل العمل الاقتصادي هو السبب الوحيد المنشئ لحق الاختصاص والتملك، وبغياب هذا العمل ينتقض مسوّغ الاختصاص.
2- أما المرحلة الثانية للتوزيع فهي ما تسمى بمرحلة التوزيع الوظيفي، حيث تشترك عناصر الإنتاج بالعملية الإنتاجية وتأخذ مكافآتها نظير إسهامها، والإسلام يضبط هذه المشاركة ويحدد مشروعية أشكال العوائد بما يضمن التناسب بين المكافأة والعمل أو الخدمة من جهة، وبين المكافأة والمخاطرة من جهة أخرى إذ: “الغنم بالغرم” كما تقضي أحكام المعاملات الإسلامية، وعلى هذا فالأساس الحقوقي المعتمد في هذه المرحلة هو العمل والملكية المستعدة لتحمل المخاطرة.
3- مرحلة إعادة التوزيع؛ فمن الناس من لا يستطيع أن يشترك بمائدة التوزيع بعمله، وليس له ملكية يتعاقد عليها ويقبض عائدها، ومثل هؤلاء يفسح لهم الإسلام في مرحلة إعادة التوزيع.
والأساس الحقوقي المعتمد في هذه المرحلة هو الحاجة تحديداً، وفي ذلك يقرر القرءان هذه الحاجة مسوغاً للحق بقوله: “وفي أموالهم حق للسائل والمحروم” (سورة الذاريات، الآية 19)، “وآتوا حقه يوم حصاده” (سورة الأنعام، الآية 141)، فهي إذا حق مسوغه حاجة المحتاج، والنبي (صلى الله عليه وسلم) يقرر هذه الحقيقة حينما يتحدث عمن يستحق الزكاة فيقرر أن: “لا حظّ فيها لغني (لمن يملك مالا) ولا لقوي مكتسب (قادر على عمل متاح)”.
وهكذا استقلت الحاجة إذاً أساساً حقوقياً للتوزيع في هذه المرحلة، واستقلت الزكاة بوجهها الاقتصادي: عملية إعادة توزيع دورية وموسعة تشمل كل صنوف الدخل فضلاً عن بعض أصول الثروة.
والدولة المسلمة مسئولة عن عملية إعادة التوزيع هذه؛ فالله سبحانه وتعالى أمر المكلفين بدفع الزكاة: “وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة”. وأمر الدولة بأمرين اثنين: الأول هو تحصيل الزكاة فقال تعالى: “خذ من أموالهم صدقة” (سورة التوبة، الآية 103)، أما الثاني فهو توزيع الزكاة أي وضعها في مصارفها إلى سمّاها القرءان: “إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم” (سورة التوبة، الآية 60).
وتنفيذاً لهذا التكليف الشرعي فقد قادت الدولة المسلمة أشرف حرب في التاريخ انتصاراً للفقراء واستئداء لحقوقهم على عهد سيدنا الصديق (رضي الله عنه)، وفي كل ذلك كان واضحاً أن قوامة الدولة في تحصيل الزكاة وفي توزيعها لا يتجاوز تنفيذ التكليف الشرعي.
وتظل الزكاة بعد ذلك مؤسسة مستقلة استقلالا إدارياً ومالياً كاملا، وهو ما يتضح من علاقة بيت مال الزكاة ببيت المال العام أو ما عرف تجوزا ببيت مال الخراج، يقول السرخسي في تأشير هذه العلاقة: “وإن احتاج بعض المسلمين، وليس في بيت المال من الصدقات شيء، أعطى الإمام ما يحتاجون إليه من بيت مال الخراج ولا يكون ذلك ديناً على بيت مال الصدقة”.
وعاء الزكاة:
فرضت الزكاة على صنوف المال المعروفة في عصر التشريع: النقدين والنعم والزروع وعروض التجارة، والنص على هذه الأموال الزكوية هو من باب حكاية الفعل على الراجح، وإنما تجب الزكاة في كل مال تتحقق فيه شروط الزكاة لمحض ماليته لقوله تعالى: “خذ من أموالهم” وقوله “وفي أموالهم”، وهذا يعني إن كل ما يعده الناس مالا من المستغلات وصور الثروة الحادثة والنقود الورقية والأسهم والأوراق المالية …، كل ذلك يخضع للزكاة بشرط الملك التام والنماء وحولان الحول والفضل عن الحاجة وبلوغ النصاب والسلامة من الدين، على تفصيل لا يتسع له المقام.
إن هذا الشمول لصور الدخول والثروة المختلفة يحرر للزكاة أكبر حصيلة مالية، ويعطيها القدرة على إعادة هيكلة الدخول والثروة في الاقتصاد على نحو أكثر كفاءة وفاعلية.
سعر الزكاة:
تراوحت نسبة الزكاة الواجبة بين ربع العشر 2.5% كما في النقود وعروض التجارة، ونصف العشر 5% أو العشر 10% في الزروع، والعشرين أي 20% في المعادن على الراجح، ومراعاة تكاليف إحراز الدخل في تحديد مقدار الواجب أمر يحقق قاعدة الملاءمة والعدالة في هذه الفريضة المالية، ويعزز آثارها الإيجابية.
آثار الزكاة
وفي ضوء ما تقدم، يمكن تعقب الآثار البالغة التي تتركها هذه الفريضة في البناء الاقتصادي والاجتماعي ولعل أبرزها:
1.إن إقامة هذه الفريضة تحصيلاً وتوزيعاً ينجم عنه زيادة في الطلب الاستهلاكي بسبب نقل الدخول إلى الشرائح ذات الميول الحدية العالية للاستهلاك، وهذا هو الأثر المباشر الذي يحقق مقصد الزكاة بإشباع حاجات الفقراء، وهو أثر أولي تعقبه آثار أخرى كما سنرى.
2.زيادة الطلب الاستثماري إذْ إن زيادة الطلب على السلع الاستهلاكية سوف يزيد من طلب منتجيها على مدخلات الإنتاج ومنها العمل بهدف التوسع في إنتاجها، وهذا يعني إن الزكاة سوف تدفع إلى مستويات أعلى من التوظيف وتحد من البطالة عبر آليات النظام الاقتصادي، وهذه القناعة يسلّم بها الاقتصاديون عموماً؛ فكلّ إعادة توزيع لصالح الفقراء تتسبب في ارتفاع مستوى التوظيف.
3.ليس هذا فحسب بل هناك أثر مباشر للزكاة على الاستثمار؛ إذ يميز الفقهاء بين الفقراء القادرين على العمل والعاجزين عنه، أما العاجزون فيعطون كفاية عامهم أو كفاية عمرهم من الزكاة، وأما القادرون فيعطون أصولا يستعينون بها على مزاولة العمل ويؤمرون به كل بحسب حرفته وتأهيله؛ فالإسلام لا يريد للزكاة أن تصبح متكأً للبطالة والتسوّل.
4.إن الزكاة، إذ تفرض على المال القابل للنماء دون اشتراط نمائه الفعلي، تحتم على مالكه تنميته لكي يدفع الزكاة من غلته لا من أصله؛ فإن تقاعس عن ذلك فإن هذا المال سوف يتناقص بشكل دوري، وفي هذا القصد يوجه النبي e كافل اليتيم لتنمية ماله: “ألا من ولي يتيماً له مال فليتّجر بماله ولا يتركه حتى تأكله الصدقة”.
إن قرار الاستثمار في اقتصاد وضعي يعتمد على المقارنة بين الربح الذي يتوقع المنظمون الحصول عليه (الكفاءة الحدية) وسعر الفائدة الذي يدفعونه لقاء الحصول على التمويل اللازم من الجهاز المصرفي أو من الأسواق المالية، وفي الإسلام ترجح الكّفة الأولى مباشرة بسبب إلغاء الربا، وترجح أيضاً لأن الزكاة تسوق المال سوقا إلى الاستثمار؛ فكنز المال وتعطيله يعرّضه للتآكل بسبب الزكاة، وأحسب أن هذه الشروط المؤسسية لا تتاح للاستثمار في أي نظام اقتصادي آخر.
5.إن أثر الزكاة في مستوى الدخل، لا يقتصر فقط على الزيادة المباشرة التي تحدثها الزكاة في الطلب الكلي الاستهلاكي والاستثماري، إنما تتجاوز ذلك على نحو ما يقرره مضاعف الزكاة أو مبارك الزكاة الذي ترتبط قيمته بالميل الحدي للاستهلاك كما يتضح من التحليل الاقتصادي الكلي لآثار الزكاة.
6.تعمل الزكاة على تحسين الوضع التساومي للعمل المضارب تجاه رأس المال، فصاحب المال ملزم موضوعياً بتوظيف أمواله؛ فحيث يحّرم الإسلام التوظيف الربوي أي الإيداع في المصارف الربوية بمقابل فائدة، فإنه لا بد أن يلجأ إلى أحد أمرين: إما الاستثمار المباشر لأمواله أو استثمارها مضاربة مع الغير، وهذا يوفر فرص توظيف جدية تدعم موقع العمل المضارب وتساعد في القضاء على البطالة.
7.تعمل الزكاة على تحقيق الكفاءة الاقتصادية وتخصيص موارد المجتمع بحسب الحاجات الحقيقية لأبنائه إذ إن تركز الثروة يؤدي إلى تكريس موارد المجتمع لإنتاج ترفيات الأغنياء على حساب ضروريات الفقراء، وهذا يخلّ بالقاعدة الأصولية التي تقضي بأن: “لا يراعى تحسيني إذا كان من مراعاته إخلال بحاجي ولا يراعى حاجي إذا كان من مراعاته إخلال بضروري”؛ فالأصل أن تشبع الحاجات الأساسية أولاً وذلك يستلزم عدالة توزيع الدخول وقوى الشراء، والزكاة تؤمّن ذلك.
8.وهكذا يتضح أيضا، أن الزكاة لا يختص تأثيرها في جانب الطلب الكلي، إنما يمتد تأثيرها إلى العرض الكلي فيعمل على زيادة مرونته.
9.تعمل الزكاة على تعظيم الرفاهية لأنها تعظم المنفعة الكلية للمجتمع، إذ إن منفعة وحدة النقد في يد الفقير المحتاج أعظم من منفعة وحدة النقد ذاتها في يد الغني كما يقرر قانون تناقص المنفعة الحدية، وبالتالي فمن حساب المقاصّة بين وحدات المنفعة التي يفقدها الأغنياء الذين يدفعون الزكاة، ووحدات المنفعة التي يكسبها الفقراء، يلاحظ أن الرفاهية الاجتماعية تكون بوضع أفضل مع تطبيق الزكاة.
10.تعمل الزكاة على تحقيق التجانس في التركيب الاجتماعي وتقلل من الفوارق الطبقية بين أبنائه إذ غالبا ما تنقسم المجتمعات إلى طبقات حسب مستويات الدخول، والزكاة آلية مستمرة لردم الفوارق الطبقية بين الأغنياء والفقراء، كما عملت الزكاة تاريخياً على تحرير الرقيق من خلال سهم الرقاب، وعملت على وقاية الفقراء والمساكين والغارمين وأبناء السبيل من ولوج عتبة الرق بدافع الاضطرار الملجئ إلى العبودية بفضل مصارفها المرصدة لهذه الفئات الاجتماعية.
11.تعمل الزكاة على تحقيق الأمان الاجتماعي وتخفيف تكاليف محاربة الجريمة بما توفره من فرص عمل وتوظيف ومن ثم كفاية لأفراد المجتمع؛ هذا موضوعياً، وذاتياً من خلال استلال دواعي الحسد والضغينة من نفوس الفقراء حين يرون أن خير الأغنياء واصل إليهم، فهي إذاً آلية تعزز التكافل الاجتماعي وتقبر الصراع الطبقي.
12.تعمل الزكاة على محاربة الجهل وتعزز التعلم وشروطه؛ فالزكاة تصرف لمن يعوّزه تفرغه لطلب العلم (ولا تصرف للمتفرغ للعبادة)، وقد تقرر فقها إن وسائل العلم من تمام كفاية طلابه، فهي إذاً ركيزة من ركائز الاستثمار البشري.
13.تعمل الزكاة على محاربة العزوبة والعنوسة، فالفقر أو تخوف الفقر شبح يجثم على صدور الشباب من الجنسين، وفي الزكاة تأمين عملي من هذا الهاجس، إذ إن الزواج من تمام الكفاية ومن أسس صلاح المجتمع، وقد أمر عمر بن عبد العزيز رحمه الله حين رفع إليه أمر الفائض من الزكاة، أمر بعتق الرقاب وتزويج الشباب.
وفي الزكاة تأمين نفسي من هذا الهاجس أيضا، فتخويف الشباب الفقر من نزغ الشيطان يخذّلهم به عن الزواج ويستدرجهم به إلى مدارج الرذيلة على خلاف موعود الله: “الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم” (سورة البقرة، الآية 268)، وفي ذلك تدعيم للبناء السكاني للمجتمع المسلم وحصانة أخلاقية لأبنائه.
14.إن الزكاة تمثل ركيزة للتأمين الاجتماعي ضد النوازل، فلا يتصدى لها آحاد الأفراد إنما تهبّ الهيئة الاجتماعية للمشاركة في تحمل أعباءها، وبذا يخف وقعها على الناس.
15.تعزز الزكاة وحدة المجتمع الإسلامي وتتجاوز الجغرافية السياسية لبلدانه، إذ الأصل في الزكاة المحلية: توزع على فقراء البلد الذي تجبى منه، لكن ذلك لا يمنع جواز نقلها إلى حيث تمس الحاجة إليها، وفي ذلك إشعار للمسلمين بوحدة أمتهم وبوحدة ذمتهم أيضاً.
16.تعمق الزكاة فهم المسلم لوظيفة المال في المجتمع بتوكيدها للوظيفة الاجتماعية لحق الملكية، تأسيساً على نظرية الاستخلاف الإسلامية؛ فالمال مال الله والناس مستخلفون فيه، وهذا الفهم يساعد المسلم على تقبل أحكام الإسلام الأخرى المتعلقة بالمال انتفاعا واكتسابا واستثمارا وتداولا.
17.إن تحقيق التنمية الاقتصادية ستكون له آثار ايجابية على الزكاة، فالأثر بينهما متبادل؛ فالتنمية تقود إلى توسع الوعاء الزكوي: أي الأموال الخاضعة للزكاة، وبذا تزيد حصيلة الزكاة، ومن ثم تعظّم آثارها، ومن هذه الآثار تحقيق التنمية!!.
وبعد، فالزكاة نماء وطهرة: للمال ولمالكه ولآخذه وللمجتمع ككل، وما أبلغ القرآن إذ يقابل بين آلية الزكاة التي تعمم الاستفادة من المال وبين آلية الربا الذي يعمل على تركيزه واحتكاره، وبالتالي يضع قيداً على الطلب والنمو الاقتصادي، قال تعالى: “يمحق الله الربا ويربي الصدقات” (سورة البقرة، الآية 276).
ولا أحسب أن فريضة وشعيرة مثل الزكاة ترتبط ببناء الإسلام الاعتقادي والتشريعي والقيمي، تعجز عن أداء دورها الاقتصادي والاجتماعي في التنمية وتحقيق أهداف المجتمع، إذا ما فعّلت على نحو كفء وإيجابي.
ماذا يلزم لتفعيل الزكاة؟؟
أحسب والله أعلم، إن أهم ما يلزم القيام به لتفعيل الزكاة واستظهار آثارها هو:
1.عملية توعية وتثقيف علمية واعية ومستمرة، تشترك فيها المؤسسات التربوية والتعليمية والدعوية والإعلامية، تستهدف تجديد التزام الناس بالنظام الزكوي بأبعاده العقدية والقيمية.
2.وجوب سن التشريعات اللازمة لتطبيق الفريضة عملياً بالتناغم مع مفردات النظم الضريبية القائمة.
3.وجوب استحداث الأطر التنظيمية المناسبة؛ فوحدات الزكاة، في العواصم والأمصار وفي الأرياف والبوادي، يجب أن تنتظم بجهاز زكوي أمين وفاعل، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والزكاة ركن من أركان الإسلام فلا ينبغي أن يتخلف الإطار التنظيمي والمؤسسي عن انجاز مقاصد الشارع منها، وكما استلزمت فرضية الصلاة وجود المساجد فإن فرضية الزكاة تستلزم وجود المؤسسات المعنية بتنفيذها؛ ففي ظل كل مئذنة ينبغي إن يقوم مكتب كفء وأمين للزكاة، وبذا نكون ربانيين كما أراد الله تعالى، وكما بلغ رسوله (صلى الله عليه وسلم)، وكما فهم الصديق (رضي الله عنه) الذي رأى محاربة من فرّق بين الصلاة والزكاة أول أولويات دولته الراشدة.
4.وجوب تعزيز أجهزة الزكاة القائمة والتي ينبغي أن تستحدث، بالكوادر الإدارية والمحاسبية المتخصصة. إن أعداداً من الخريجين العاطلين يمكن توظيفهم في الجهد الزكوي، والأمر لا يقتضي أكثر من برامج تدريبية عملية وهادفة.
5.ويمكن الاستفادة في هذا السياق من التطبيقات المعاصرة للزكاة ومن تجارب البلدان التي سنّت تشريعات واستحدثت مؤسسات متخصصة بالزكاة لأغراض التقويم والتصويب.
6.وقد يكون من أول اللوازم في هذا الباب، إعادة قراءة الدليل الفقهي للزكاة على ضوء معطيات الفن المالي والضريبي، بهدف اعتماد دليل إجرائي ومحاسبي يتوخى البساطة والعملية، مع المحافظة على روح الفريضة وغاياتها. إن سيلاً من الآراء الفقهية المتعلقة بالأوعية الزكوية وبالنصاب ومقدار الواجب وشكل التحصيل ومسألة الحول…، يتعين اختزالها إلى دليل واضح تقره المجامع الفقهية، يكون مبرئا لذمم المكلفين، وميسرا لعمّال الصدقة، إذْ لا يعقل أن تغرق تطبيقات الزكاة بسيل الآراء الفقهية والفتاوى المختلفة التي تتعذر إحاطة المختصين بها فضلاً عن الكوادر التنفيذية.
“والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر”.
أ.د.عبد الجبار السبهاني
http://faculty.yu.edu.jo/Sabhany
أحدث التعليقات