يعرف الإستصناع اصطلاحا بأنه عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل 1، وهو أيضا طلب العمل من الصانع في شيء خاص على وجه مخصوص 2 ، أما من الناحية العملية فهو عقد بيع بين الصانع والمستصنع على بيع أو شراء أصل ربما لم يتم إنشاؤه بعد، على أن تتم صناعته أو بناؤه وفقاً لمواصفات المشتري النهائي وتسليمه له في تاريخ مستقبلي محدد وبسعر بيع محدد سلفا، وذلك مقابل ثمن يدفع مقدماً أو مؤجلاً على دفعة واحدة أو على عدة دفعات حسب الاتفاق، وتكون العين والعمل من الصانع، فإذا كانت العين من المستصنع لا من الصانع فإن العقد يصبح إجارة لا إستصناعا ً، ومفهوم هذا العقد هو أنه اتفاق بين المصرف وطالب شراء الأصل على بيع أو شراء أصل لم يتم إنشاؤه بعد، على أن تتم صناعته أو بناؤه وفقاً لمواصفات المشتري النهائي وتسليمه له في تاريخ مستقبلي محدد وبسعر بيع محدد سلفاً، وللمصرف الإسلامي الخيار في صناعة أو بناء الأصل بنفسه، أو أن يقوم بعقد اتفاق مع طرف آخر غير المشتري النهائي ليقوم بصناعة أو بناء الأصل المطلوب بنفس المواصفات المطلوبة على أن يحدد موعد التسليم قبل الموعد المحدد لتسليم الأصل للمشتري النهائي.
بموجب عقد الإستصناع يكون المصرف عادة هو الطرف الصانع، والعميل الذي يريد التمويل هو المستصنع (الآمر بالاستصناع)، والذي يتقدم إلى البنك بطلب يعلن فيه عن رغبته في أن يقوم البنك بإستصناع مشروع معين لحسابه، ويقدم للبنك التصاميم والمخططات والمواصفات الهندسية بما في ذلك جداول الكميات والشروط العامة والخاصة للمشروع والتي يقوم الآمر بالإستصناع بتحديدها مستعيناً بمكتب استشاري هندسي متخصص، أما الصناعة فقد تكون لمعدات أو آلات أو أجهزة أو طائرات، وغيرها وقد يكون العقد في المباني والمنشآت، وحيث إن المصارف الإسلامية عادة ليست مهيأة للقيام بهذا العمل فإنها تلجأ إلى الإستصناع الموازي، فتكون هي المستصنع لا الصانع بهدف تغطية العقد الأول، وبعد أن يوافق البنك (المستصنع) على طلب عميله يحرر بين الطرفين عقد استصناع يبين فيه بالإضافة لجميع المواصفات قيمة تنفيذ المشروع وكيفية تسديد القيمة على أقساط شهرية أو دفعة واحدة، ويتطلب الأمر من البنك أن يقوم بإبرام عقد استصناع موازي (مصانعة/مقاولة) منفصل بين البنك وبين المقاول لتنفيذ المشروع بنفس المواصفات ووفقاً للتصاميم المحددة من قبل الآمر بالإستصناع.
رغم أنه يمكن الاستفادة من هذا العقد في شتى أنواع المشاريع الصناعية وغيرها لما له من مزايا يمكن تلخيصها في تنوع أساليب التمويل ليتناسب مع مختلف الصناعات تمويلا حقيقيا وما يتمتع به التمويل الإسلامي من مرونة كافية تميزه عن التمويل الربوي، فهو يمول قطاع الصناعات الكبيرة والصغيرة بتجهيزها برأس المال الثابت (الآليات وأدوات العمل) إضافة إلى بناء أماكن العمل (الورش الصناعية)، وتمليكها للصناع 3، الا أن استخدام عقد الإستصناع في المصارف الإسلامية هو في أضيق الحدود بالمقارنة مع صيغ المرابحة والإجارة، ويعود ذلك لارتفاع تكلفة مخاطر تمويل عقد الإستصناع إن عزوف المصارف الإسلامية عن استخدام عقد الإستصناع في تمويل قطاع الصناعة والتعدين يعود إلى طبيعة هذا القطاع الذي يحتاج إلى استثمارات كبيرة الحجم، وطويلة الأجل، ولا يتحقق العائد منه إلا بعد سنوات من الاستثمار، أما المشاريع الصناعية الصغيرة، والصغيرة جداً فغالباً ما تواجه مشكلة الضمانات أو الكفيل، مما يزيد من درجة مخاطرها، وهذا ما أدى إلى ضعف اهتمام المصارف الإسلامية بتمويل هذا القطاع مقارنة بالقطاعات الأخرى.
تتمثل أهم المشاكل والمخاطر التي يمكن أن يتعرض لها المصرف الإسلامي من جراء التمويل بالإستصناع في طبيعة العقد الموقع مع العميل، فهناك صورتين لتنفيذ العقد، في الصورة الأولى: عقد استصناع عادي، وهنا يرتبط بالصانع (البائع) والمستصنع (المشتري)، فالعقد هنا يمر بمرحلتين تنفيذيتين أولاهما مرحلة إبرام العقد مع طالب الأصل، والثانية انجاز الأصل المطلوب، وعندما يكون المصرف هو الصانع فإنه قد يقوم بالبيع بالتقسيط عند الانتهاء من العمل وتسليم ما تم صنعه، وخلال المدة ما بين التعاقد والانجاز يمكن أن يتعرض المصرف لاحتمالية تغير أسعار المواد الخام الداخلة في عملية صناعة أو بناء الأصل المطلوب وهنا يدخل المصرف في المخاطر السوقية، وقد يرفض العميل تسلم الأصل من المصرف ويمتنع عن دفع الثمن المترتب عليه للمصرف (أقساط البيع بالتقسيط) وهنا يتعرض المصرف للمخاطر الائتمانية (عدم السداد)، كما قد يتعرض المصرف للمخاطر التشغيلية إذا ما تعرض لأخطاء في تقدير كلفة الأصل أو أخطاء في عملية التصنيع، وقد تكون هناك مخاطر لا يستطيع المصرف أن يتحملها وخاصة إذا كان الإستصناع في المباني، فمن يقوم بالبناء يكون ضامناً للمبنى لمدة معينة، وهذا ما يؤدي إلى عزوف المصرف عن الاستثمار في هذا المجال ما دام هذا الضمان موجوداً، ويمكن تخفيض هذه المخاطر من خلال الدراسة الجيدة لجدوى المشروع وقدرته على الوفاء بالتزاماته، ودراسة شخصية العميل ورغبته في السداد ومقدرته على إدارة مشروعه مع الحصول على الضمان العيني ما أمكن ذلك، وضرورة المتابعة الميدانية للمشروع وتقديم الخدمات الاستشارية اللازمة للعميل عند طلبها.
أما الصورة الثانية: عقد استصناع موازي، وهنا يقوم المصرف بعد إبرام عقد الإستصناع مع العميل بعقد اتفاق آخر مع طرف آخر لصناعة الأصل المطلوب بموجب عقد استصناع موازي وبنفس المواصفات، بمعنى تثبيت تكلفة صناعة الأصل المطلوب مع تثبيت سعر بيعه، وبالتالي ليس هناك مخاطر من تغير أسعار المواد المستخدمة في التصنيع لأنها ليست من مسؤولية المصرف، إلا أنه يبقى عرضة لمخاطر عدم تسلم الأصل المطلوب من قبل البائع في عقد الإستصناع الموازي حسب الشروط والمواصفات والموعد وهنا قد يدخل في إطار المخاطر الائتمانية، بالإضافة إلى احتمال عدم قدرة طالب الأصل على تسديد الدفعات المطلوبة منه، وبالتالي التعرض للمخاطر الائتمانية أيضا، وفي حالة أي أخطاء أو تقصير من قبل المصرف في العقدين فإن هذا يدخله ضمن المخاطر التشغيلية، ويمكن هنا التغلب على عقبة الضمان السابقة، حيث إن الإستصناع الموازي فيه ضمان للمصرف أيضاً، فشركة المقاولات – أي الصانع للمصرف – تضمن المبنى للمصرف أو لمن يحدده المصرف.
وللتقليل من آثار المشاكل السابقة ومنعها، يمكن وضع بعض الشروط المناسبة على المقاول بعد حسن اختياره، كأن يلتزم المقاول بتقديم كفالة مصرفية غير مشروطة لتنفيذ العمل المطلوب بموجب بنود الشروط العامة للعقد، وتحدد مدة كافية لصلاحية الكفالة، والتأمين على الموقع والمشروع ضد جميع الأخطار، والنص على غرامات التأخير في حالة تأخر المقاول عن إتمام تنفيذ وتسليم المشروع في الموعد المحدد، كما يمكن ربط الصرف بمراحل التنفيذ المختلفة، فإذا كان المشروع محل العقد غير مطابق للمواصفات فإما أن يبطل العقد ويسترد الثمن الذي دفعه أو أن يقبل بالتعويض عن قيمة الضرر الواقع عليه.
د. منير سليمان الحكيم
أستاذ مساعد / مدير مكتبة
الأكاديمية العربية للعلوم المالية والمصرفية
لأي استفسارات وللتواصل مع الكاتب المراسلة عبر البريد الالكتروني:
mhakim@aabfs.org
1- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للإمام علاء الدين أبي بكر مسعود الكاساني الحنفي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1986م، ج5، ص302.
2- رد المحتار على الدر المختار، شرح تنوير الأبصار، لخاتم المحققين محمد أمين بن عمر عابدين، مع تكملة ابن عابدين لنجل المؤلف، دراسة وتحقيق وتعليق، الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض، قدم له وقرظه، أ.د. محمد بكر إسماعيل، دار عالم الكتب، الرياض، بموافقة دار الكتب العلمية، بيروت، 2003م، ج5، ص474، وأنظر الفقه الحنفي في ثوبه الجديد، عبد الحميد محمود طهماز، ج4، دار القلم، دمشق، طبعة أولى، 2001م، ص302.
3- تمويل القطاع الصناعي وفق صيغ التمويل الإسلامية، تجربة بعض المصارف السودانية، عثمان بابكر أحمد، البنك الإسلامي للتنمية، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، جدة، الطبعة الثانية، 2004م، صفحة79 – 81
المصدر: http://www.cibafi.org/NewsCenter/Details.aspx?Id=11427&Cat=12&RetId=0
أحدث التعليقات