في السادس من أغسطس عام 2009م كتب أستاذ الاقتصاد المتميز (Distinguished Professor) بجامعة شيكاغو، روبرت لوكاس (Robert Lucas)، الحائز على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد عام 1995م، وأحد الاقتصاديين الذين ساهموا في تطوير نماذج قياسية لفرضية التوقعات الرشيدة (Rational Expectations Hypothesis) مقالاً في مجلة الإكونوميست البريطانية بعنوان “في دفاع عن العلم الكئيب (In defense of the dismal science)”، حاول فيه الدفاع والرد على الكتابات والتساؤلات، بل و”خيبة الأمل” واسعة النطاق (Widespread disappointment)”، كما أشار في بداية المقال التي بدأت تثور عقب الآثار الكبيرة وغير المتوقعة التي خلفتها أزمة الرهن العقاري الأمريكية؛ تساؤلات من قبيل: لماذا فشل الاقتصاديون في التنبؤ بالأزمة؟ وهل يعاني علم الاقتصاد من فشل منظم (Systemic failure)؟ ولماذا همشت أفكار شخصيات ومدارس حذرت من هذه الكوارث مراراً وتكراراً؟ بل لماذا لم يلتفت لتحذيرات أطلقت قبل وقوع الكارثة بسنوات قليلة أو ببضعة شهور؟ هل يسير الاقتصاد الكلي في الاتجاه الصحيح (Is macroeconomics in the Wright track?) لماذا يسبق الفشل الأخلاقي حدوث الأزمات؟ ولنا أن نتساءل عن العامل أو العوامل التي جلبت الكآبة لهذا العلم حتى احتاج إلى الدفاع من اقتصادي بهذا الوزن؟ أيتمثل ذلك في الفلسفة والمنطلقات؟ أم في الممارسة والتطبيقات؟ أم هما معاً؟ وما دور الأخلاق في ذلك؟ إني على قناعة تامة بأن الخلل يتجاوز الممارسة والتطبيقات ليتعداها إلى الفلسفة والمنطلقات التي انعكست على السلوك والتصرفات، حتى أضحى الجشع والمغالاة في المصلحة الخاصة وكفاءة السوق سبيلاً لتحقيق التوازن التلقائي للاقتصاد الكلي؟ ورفع كلفة الائتمان على أصحاب الدخول المتدينة أو المعدمة مبرراً؟ والقول بالتدخل والرقابة والتقنين في حفل “جني” ثمار “الفقاعات” الصاخب مستهجناً؟ واللجوء إليه لتوزيع الخسائر بعد وقوع الكوارث حلاً ومخرجاً؟ أليست هذه الأوضاع إذا نظرنا إليها بنظرة فاحصة تتجاوز حدود آلاف المليارات التي تبخرت في أسواق المال وغيرها تشير إلى وجود فشل فكري وأخلاقي منظم (Systemic profession & moral failures)؟ هذا ما أشارت إليه العديد من الدراسات والتقارير الرسمية والأكاديمية وسنشير إلى بعض منها في هذه العجالة.
1 – فشل أخلاقي على جميع المستويات الجشع والاحتيال من أبرز صوره.
في عدد مجلة التايمز الأمريكية الصادر بتاريخ التاسع والعشرين من سبتمبر عام 2008م كتب على غلاف المجلة عنوان “ثمن الجشع (The Price of greed)” بعد التطورات التي شهدتها الأزمة عقب انهيار الليمان براذرز وما تبعه من هلع وارتباك في أسواق المال، وهذا الفشل ليس قاصراً على فئة دون أخرى، بل هو شامل للمجتمع بكل فئاته، وإن كانت درجة تحميل المسؤولية تختلف باختلاف المكانة والدور؛ فهيئات الإشراف الحكومية، ووكالات التصنيف، والأفراد الذين انساقوا وراء “وهم” الرفاه من خلال الاستهلاك الباذخ بالاستغراق المفرط في المديونية، والمؤسسات المالية يتحمل كل منهم نصيبه من المسؤولية في المساهمة في تكوين أشد فقاعة مالية شهدها التاريخ المعاصر؛ بل ربما التاريخ الإنساني.
ومع الإقرار بهذا فإن المسؤولية الكبرى في تقديري وتقدير الكثير من المتابعين لتطورات هذه الكارثة تقع على هيئات الإشراف والمؤسسات المالية خاصة المصارف التي كانت حاضرة على الدوام بشكل أو بآخر في سلسلة الاضطرابات المالية الممتدة وذلك بالنظر للمكانة الخاصة التي تحتلها وللدور الحساس الذي تقوم به، وقد صور بعض ممارسات ذلك الدور وليام بلاك (William Black) المدير التنفيذي السابق لمعهد الوقاية من الاحتيال (the Institute for Fraud Prevention) خلال 2005-2007م، في الكتاب المثير الصادر عن مطابع جامعة تكساس عام 2005م يتحدث فيه عن الأزمة المصرفية التي شهدتها أمريكا في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي بعنوان “أحسن طريقة لنهب مصرف هي امتلاك واحد (The Best Way to Rob a Bank Is to Own One: How Corporate Executives and Politicians Looted the S&L)”. وقد كتب غيره الكثير عن ذلك خاصة مسألة المكافآت الكبيرة للمديرين التنفيذيين والتي تناقش على مستوى هيئات الإشراف العالمية في مجموعة العشرين لوضع القواعد واللوائح التي تحد من هذه الممارسات التي كان لها الدور الكبير في تعريض الجهاز المالي لمخاطر كبيرة.
وحتى الأعمال الأكاديمية لم تسلم من ذلك؛ فقد قام ثلاثة اقتصاديين 1 بريطانيين ومن كليات الإدارة والأعمال؛ اثنان في جامعة ليستر (University of Leicester) وآخر في جامعة لندن (University of London) باستعراض 2331 بحثاً نشر في أرقى عشرين (20) مجلة علمية متخصصة في التمويل والأعمال خلال عامي 2003م و2004م بغرض الإطلاع على نوعية الأبحاث التي تنشر في هذه المجلات والتي تستخدم على نطاق واسع كمراجع لطلاب كليات المال والأعمال، وأقسام الاقتصاد في الجامعات وغيرها من الجهات المتخصصة في هذا الميدان، فتوصل الباحثون إلى أن ما ينشر بعيد بشكل كبير عن ملامسة القضايا التي يعاني منها المجتمع البشري؛ من الحروب، وأوضاع البيئة، والمسؤولية الاجتماعية، والتفاوت في الدخول، في حين أنها تؤصل مسألة “الجشع” من خلال التركيز على تعظيم الأرباح والمصلحة الخاصة التي جعلت ممن يتخرجون من هذه الكليات يكونون محل غبطة وحسد نظراً للرواتب والمكافآت العالية التي يتلقونها من سوق العمل الذي يتنافس عليهم بشكل كبير. فعلى سبيل المثال يذكر الباحثون أن 90% من تلك المقالات التي استعرضوها لم تعر أهمية كبرى لظروف العمل غير الآمنة أو “الاستغلالية (Exploitative)” التي يعاني منها العمال في العالم. ومن جهة أخرى فإنه على الرغم من كثرة الحديث عن أهمية الأخلاق في الأعمال والمال، فإن 85% من تلك المقالات لم تتناول مسائل مرتبطة بحوكمة الشركات أو أخلاق الأعمال2 (Business Ethics) .
ويتساءل الباحثون لماذا كانت الأعمال العلمية في مجال الإدارة والأعمال بعيدة عن ملامسة القضايا الجوهرية للعديد من الناس على كوكبنا؟ هل يتحمل علماء وأكاديميي هذا الميدان جزءاً من مسؤولية الصمت عن هذه القضايا؟ أم أن الأمر راجع إلى أن هذا المجال الذي يتخصصون فيه ليست له تلك الأهمية؟ ويجيب الباحثون على السؤال الأخير بأن الأكاديميين في مجال الإدارة والأعمال يؤكدون لطلابهم على أن الحقل الذي يدرسونه يقع في قلب الحياة المعاصرة!! والدليل على ذلك أن كليات المال والأعمال تحتل مكانة في معظم الجامعات خاصة المرموقة منها، وأن الطلب على “منتوجهم” كبير و”بأسعار” مغرية يحسدهم عليها باقي التخصصات كما مر معنا، بل حتى الحكومات تحمل الاعتقاد ذاته من خلال “انحنائها3 (Bow)” أمام “علم الأعمال”. ويخلص الباحثون إلى أن الأمر مرتبط بشكل رئيس بضيق أفق هذا العلم –على يد هؤلاء-؛ ضيق مبني على حماس أيديولوجي4 (Ideological Zeal).
وفي الأسبوع المقبل نكمل الحديث إن شاء الله.
د. أحمد مهدي بلوافي
مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي
جامعة الملك عبدالعزيز – جدة- المملكة العربية السعودية.
(*) كتبت مسودة هذه الورقة الأولى كتعليق في محور “البعد الأخلاقي للأزمة” ضمن ندوة “الأزمة المالية والاقتصاديات الوطنية”، في إطار المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية 25) – عالم واحد .. ثقافات متعددة الذي عقد بجامعة الملك عبدالعزيز، يوم الأحد 5 ربيع الآخر 1431هـ الموافق 21 مارس 2010م.
1Dune, S., Harney, S., and Parker, M., 2008, ” The Responsibilities of Management Intellectuals: A Survey”.
2 Ibid, p.2.
3 Ibid, p.3
4 Ibid, p.6
المصدر: http://www.cibafi.org/NewsCenter/Details.aspx?Id=11433&Cat=12&RetId=0
أحدث التعليقات