مبدأ تقليل الخسائر من خلال قصة موسى والخضر
بقلم : د. رفيق المصري
وردت هذه القصة في سورة الكهف ، الآيات 60 – 82 ، وأبطالها ثلاثة ، صرح القرآن باسم واحد منهم فقط ، هو موسى ، ولم يصرح : هل هو موسى بن عمران ، الرسول الكريم الذي ورد ذكره كثيرًا في القرآن ، أم غيره . أما الآخران فهما : فتى موسى ، مرافقه في الرحلة ، والعبد العالم الذي أذهل موسى ، على علمه . وهناك بطل رابع ، هو الملك الذي يغتصب السفن الجميلة الفارهة التي تثير شراهته .
وتحتوي القصة على ثلاثة مشاهد ، كل مشهد يتألف من آية واحدة . ويعتذر موسى في كل مشهد بآية واحدة . ثم يأتي تأويل كل مشهد في آية واحدة ، فالإعجاز في الإيجاز . والقصة كلها بمشاهدها الثلاثة لاتتعدى 23 آية في صفحتين من صفحات القرآن الكريم . إنه فن القصة القصيرة المشحونة بالتشويق والغرائب ، والتي تشد سامعها أو قارئها ، وذلك إلى أن تنحل عقدة كل فقرة من فقراتها ، ويتنفس السامع أو القارئ الصعداء !
هذه القصة فيها ثلاث عجائب : الأولى : خرق السفينة ، والثانية : قتل الغلام ، والثالثة : إقامة الجدار . وفيها عجيبة أخرى لا تتعلق بشخص العبد العالم ، وهي حالة السمكة ( الحوت ) المشوية في البحر ، والتي عبر عنها القرآن بقوله : ( واتخذ سبيله في البحر عجبًا ) ولم يبين وجه هذا العجب . وهذا ما يضفي على القصة مزيدًا من التشويق والغموض والتساؤل .
وفي المشاهد الثلاثة ، لم يسـعْ موسى إلا أن يتعجب من صاحبه ، وينكر عليه فعله . فلم ير في كل مشهد إلا أمرًا منكرًا ، لم يستطع معه أن يصمت ، كما وعد ، بل رأى أن من واجبه في كل مرة : الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر !
ومما يلاحظ في القصة أن هذا العبد يوجد في مكان بعيد منقطع ، وربما يكون أقل شهرة من موسى بكثير ، قد آتاه الله علمًا يفوق علم موسى ، في هذه المسائل الثلاثة وأمثالها . قالوا عنه إنه العلم اللدني ، لأن الله قال : ( وعلمناه من لدنا علمًا ) ، والحق أن العلم كله من الله ، سواء أكان فطريًا أم كسبيًا . وكلمة : ( لدنا ) ليست إلا مرادفًا فنيًا لكلمة : ( عندنا ) قبلها ، في الآية نفسها ، منعًا للتكرار .
ويلاحظ أيضًا أن العبد العالم لم يكن يشرح لموسى تصرفه ، قبل الإقدام عليه . وربما تكون الحكمة منه أنه لو فعل ذلك لاحتاج إلى وقت وجهد كبيرين في الإقناع ، وقد يختلفان ، لأن العبد كُشف له ما لم يكشف لموسى . ولو فعل ذلك لربما تأخر عن الفعل ، والفعل عاجل ، فلو تأخر خرق السفينة لربما وصلت إلى الملك واغتصبها ، ولو تأخرت إقامة الجدار لانكشف الكنـز الذي تحته وضاع ، أو نُهب … وربما يكون العبد العالم قد قصد ألا يشرح الفعل إلا بعد الوقوع ، ليكتشف في موسى علمه وصبره . فلو كَشف العبدُ لموسى ما كُشف له ، واقتنع موسى به ، ما كان هناك تفاوت بينهما ولا عجيبة . فإذا اختلفت المعلومات اختلف التصرف ، وإذا عرف السبب بطل العجب . وقد يكون التصرف سيئًا في ظاهره ، حسنًا في باطنه ، وقد يبدو الأمر منكرًا في الحال ، معروفًا ( مستحسنًا ) في المآل . قال تعالى : ( وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم ، وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) سورة البقرة 216 . وهذا القول أو الفعل قد يكون شرًا عند عالم بالظواهر ، وخيرًا عند عالم بالبواطن .
وبنى الفقهاء على هذا جواز إفساد بعض المال لإصلاح سائره ، وأنه يجوز لولي اليتيم أن يصانع ( يرشو ) الظالم المغتصب على بعض ماله ، لحفظ بعضه الآخر ، وتكون الرشوة مباحة له ، وممنوعة على الظالم . كذلك الأمر بالنسبة للوديع في الوديعة ، ولولي الأمر في المال العام ، بل ولكل صاحب مال في ماله . فهذا من باب ما لا يمكن تحصيل منفعته ( مصلحته ) إلا بإفساد بعضه ، فظاهره الإفساد ، وباطنه ( حقيقته ) الإصلاح ، فهذا إفساد للإصلاح !
وفي هذه القصة فوائد أخرى ، منها أن موسى أصرّ على الرحلة في طلب العلم ، مهما كانت المشقة ، كما أعلن تواضعه لهذا العبد الصالح ، لكي يعلمه مما علمه الله . وحذر العبد موسى من أنه لن يستطيع معه الصبر على هذا العلم ، وأنه لن يطيع أستاذه ، بل سينسى وعوده وعهوده ، وسينكر عليه ، وسيشق عصا الطاعة ، في لحظه غضب واستنكار . وهذا ما وقع ، مما أدى إلى الفراق بينهما ، بعد ثلاثة مشاهد فقط . ولو صبر موسى لتعددت المشاهد ، ولرأى فيها ، ورأينا معه ، العجب العجاب .
في مثال السفينة ، هناك موازنة بين خسارتين : خسارة السفينة كلها ، إذا كانت سالمة وغصبها الملك ، وخسارة جزء منها إذا عيبت ، لكي تسلم من الغصب . فههنا يتم اللجوء إلى مبدأ تقليل الخسارة إذا تعينت هذه الخسارة ، وهو مبدأ معروف في علم الاقتصاد وعلم الإدارة . وهو ما يعبر عنه في القواعد الفقهية الكلية بأنه إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا ، وأن الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف ، ويختار أهون الشرين ، وحفظ البعض أولى من تضييع الكل .
اقرأ القصة في القرآن ، فإنها أجمل من كل تفسير ، ثم تمعّن فيها ، فإنها كثيرة النفع في الحياة ، في ترشيد التصرفات . ومبدأ تدنية minimization الخسارة إلى أدنى حد ممكن ، ومبدأ تعظيم maximization الربح ، يصدران عن مشكاة واحدة . والمنشأة التي تدفع الخسـارة الكبرى بالخسارة الصغرى إنما تحقق ربحًا قدره هو الفرق بين الخسارتين .
المصدر :
موقع الدكتور رفيق المصري
أحدث التعليقات