ولا تؤتوا السفهاء أموالكم
بقلم : د. رفيق المصري
نماذج من الإعجاز الاقتصادي للقرآن الكريم
ولا تؤتوا السفهاء أموالكم
( الإنسان الاقتصادي الرشيد )
قال تعالى : ( وآتوا اليتامى أموالهم ( … ) ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) النساء 2 .
وقال تعالى : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا ، وارزقوهم فيها واكسوهم ) النساء 5 .
وقال تعالى : ( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم ) النساء 6 .
هذه الآيات الثلاث كلها من سورة النساء : الآيات 2و5و6 ، نقلتها في مطلع الكلام لأنها ستساعدنا على الفهم والتفسير .
( ولا تؤتوا ) : لمن الخطاب ؟ لأولياء اليتامى ، للآباء ، للأزواج ، لكل الأولياء ؟
فيه خلاف بين المفسرين حسب الأصناف المذكورين . قال الطبري : ” أضيف ( الخطاب ) إلى الولاة ، لأنهم قوّامها ومدبّروها ” ( تفسير الطبري 4/248 ) . وقال في موضع لاحق : ” لا تؤتوا أيها الناس … ” ( نفسه 4/249 ) ، أي الخطاب للناس عمومًا ، وليس للأولياء خصوصًا . وقال الرازي : ” في الآية قولان : الأول أنها خــــطاب للأولياء ( … ) ، والثاني أنها خطاب للآباء ” ( تفسير الرازي 9/184 ) . وقال البقاعي : ” الخطاب للأزواج والأولياء ” ( نظم الدرر 5/195 ) . وقال ابن عاشور : ” الخطاب في قوله : ( ولا تؤتوا السفهاء ) ، كمثل الخطاب في : ( وآتوا اليتامى ) و ( آتوا النساء ) ، هو لعموم الناس المخاطبين بقوله : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم ) ، ليأخذ كل من يصلح لهذا الحكم حظه من الامتثال ( … ) . وقد أبعد جماعة ( … ) ، وجعلوا الخطاب للأولياء خاصة ” ( تفسير ابن عاشور 4/233 و 235 ) . وذهب ابن عاشور إلى أن فريقًا آخر جعل الخطاب للآباء والأزواج ، وقال : ” هذا أبعد الوجوه ” ( نفسه 4/235 ) .
وقوله : ( ولا تؤتوا ) يفيد الحجر على السفيه ، والحجر إما أن يكون لصغر أو جنون أو تبذير أو سوء تصرف ( نقص عقل أو دين ) أو إفلاس ( تفسير الرازي 9/183 ، وابن كثير 1/452 ) . والقصد من الحجر تحقيق مصلحة القاصر من جهة ، وتحقيق مصلحة المجتمع من جهة أخرى ، وذلك من أجل حفظ المال وتنميته واستثماره وحسن إدارته .
من هو السفيه ؟ الصبي ، المرأة ، كل مبذر :
نقل الطبري أن السفهاء هم الصغار ( اليتامى ) أو النساء أو كلاهما ، ثم رجح أن المعنى عام في كل مبذر يستحق الحجر ، فقال : ” والصواب من القول ( … ) أن الله جل ثناؤه عمَّ ( … ) ، فلم يخصص سفيهًا دون سفيه ( … ) ، صبيًا صغيرًا كان أو رجلاً كبيرًا ، ذكرًا كان أو أنثى ( … ) ، والسفيه ( … ) هو المستحق للحجر ” ( تفسير الطبري 4/247 ) . ثم قال : ” أما قول من قال بأنه عنى بالسفهاء النساء خاصة ، فإنه جعل اللغة على غير وجهها ” ( نفسه 4/248 ) ، ذلك لأن السفهاء جمع سفيه ، وليس جمع سفيهة ، فهذه جمعها سفيهات ( لاحظ هنا صورة مبكرة من صور انتصار العلماء ، الطبري ومن سيأتي ذكره ، للمرأة ، إذ لم يخصوها بالسفه وحدها ، بل أشركوا معها الرجل ) .
وقال الجصاص أيضًا بأن السفيه : ” كل من يستحق صفة سفيه في المال ، من محجور عليه وغيره ” ( أحكام القرآن 2/60 ) . واكتفى الزمخشري بالقول بأن السفهاء هم المبذرون ( الكشاف 1/500 ) . وذكر ابن الجوزي بعد سرد أقوال المفسرين أن المراد به كل سفيه يستحق الحجر ، وأن هذا هو ظاهر الآية ( زاد المسير 2/12 ) . كذلك رجح الرازي : ” أن المراد بهم ( بالسفهاء ) كل من لم يكن له عقل يفي بحفظ المال ” ( تفسـير الرازي 9/184 ) . وقال أبو حيان : ” نزلت في كل من اقتضى الصفة التي شرط الله من السفه كائنًا من كان ( … ) ، والسفهاء هم المبذرون ( … ) . قيل : ويندرج تحتها الجاهل بأحكام البيع . فقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : من لم يتفقه في الدين فلا يتجر في أسواقنا ” ( البحر المحيط 3/515 ) .
وقال محمد عبده كذلك بأن الآية : ” عامة في كل سفيه ، من صغير وكبير ، وذكر وأنثى ، وهو أحسن الأقوال ” ( المنار 4/379 ) . وقال ابن عاشور بأن المراد : ” مطلق من ثبت له السفه ، سواء أكان عن صغر أم عن اختلال تصرف ، فتكون الآية قد تعرضت للحجر على السفيه الكبير استطرادًا للمناسبة ، وهذا هو الأظهر ، لأنه أوفر معنى وأوسع تشريعًا ” ( تفسير ابن عاشور 4/234 ) .
ما معنى السفه ؟ التبذير ، سوء التصرف بالمال ، الجهل بالتصرفات الرابحة ، خفة العقل :
ذكر الطبري أن السفه هو تضييع المال وسوء التدبير ( تفسير الطبري 4/247 ) . وبين الزمخشري أن السفه هو تبذير المال ، بإنفاقه فيما لا ينبغي ( الكشاف 1/500 ) . وذهب الرازي إلى أن السفه هو خفة العقل ( تفسير الرازي 9/184 ) . وأوضح ابن العربي أن السفه هو التناهي في ضعف العقل وفساده ( أحكام القرآن 1/250 ) . وأضاف أبو حيان أن السفه يندرج تحته الجهل بأحكام البيع ( البحر المحيط 3/515 ) . وقال بعض العلماء بأن السفه هو الغفلة ، والغفلة هي الغبن أو الخديعة ( الخِلابة ) في المعاملات المالية ، وعدم الاهتداء إلى التصرفات الرابحة .
ويمكن القول بأن السفه خفة وطيش في العقل يؤدي إلى سوء التصرف في المال ، بالإسراف والتبذير ، وسوء الإدارة والتدبير . وسيأتي تعريف الرشد بأنه صلاح في العقل يؤدي إلى صلاح المال ، وبناءً عليه يمكن تعريف السفه بأنه فساد في العقل يؤدي إلى فساد المال ، نتيجة الإسراف أو قلة الخبرة .
الرشد ( الرشاد ) :
الرشد هو عكس السفه ، والرشد عند جمهور علماء الأصول والفقه هو صلاح المال ، وعند الإمام الشافعي هو صلاح المال والدين معًا .
ويبدو من تعريف الجمهور أن اهتمام المسلم بحسن إدارة ماله ، وبالتصرفات الرابحة ، والسعي في مصالحه المادية والشـخصية ، وفي تنمية أمواله وتثميرها ، أمر مشروع ، بل مطلوب لأنه من باب الرشد وحسن التدبير . ويعرف الاقتصاديون علم الاقتصاد بتعاريف مختلفة ، منها أنه علم المصلحة المادية الشخصية . ولا تقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة إلا عند التعارض . والسعي في المصلحة الخاصة لا يتنافى مع المصلحة العامة ، بل إنه يعززها ، وهو ما يعرف باليد الخفية .
قال السبكي : ” اعلم أن المخلوق مضطر ( مسيّر ) ، سلط الله عليه الإرادة ، وهيج عليه الدواعي ( الدوافع ) ، وألقى في قلبه أن يعطيك ، فلم يجد بعد ذلك سبيلاً إلى دفعك ، ولا يعطيك والحالة هذه إلا لغرض نفسه ، لا لغرضك . ولو لم يكن له غرض في الإعطاء لما أعطاك . ولو لم يعتقد أن له نفعًا في نفعك لما نفعك . فهو إذّا إنما يطلب نفع نفسه بنفعك ، ويتخذك وسيلة إلى نعمة أخرى يرجوها لنفسه ، وما أنعم عليك إلا الذي سخره لك ، وألقى في قلبه ما حمله على الإحسان إليك ” ( معيد النعم ومبيد النقم ص 5 ) .
وقال الشاطبي : ” فصار يسعى في نفع نفسه ( … ) بنفع غيره ، فحصل الانتفاع للمجموع بالمجموع ، وإن كان كل أحد إنما يسعى في نفع نفسه ” ( الموافقات 2/179 ) .
وقال أيضًا : ” كل عمل كان فيه مصـلحة الغير في طريق مصلحة الإنسان في نفسه ، كالصناعات والحرف العادية كلها . وهذا القسم في الحقيقة راجع إلى مصلحة الإنسان ، واستجلابه حظه ( نفعه ) في خاصة نفسه ، وإنما كان استجلاب المصلحة العامة فيه بالعرَض ” ( نفسه 2/185 ) .
وقال ابن عاشور : ” إن منفعة المال الخاص عائدة إلى المنفعة العامة لثروة الأمة . فالأموال المتداولة بأيدي الأفراد تعود منافعها على أصحابها ، وعلى الأمة كلها ” ( مقاصد الشريعة ص 170 ) .
وكما ورد لفظ السفه في القرآن ، فكذلك لفظ الرشد أو الرشاد . قال تعالى : ( قد تبين الرشد من الغي ) البقرة 256 ، ( وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً ) الأعراف 146 ، ( إنا سمعنا قرآنًا عجبًا يهدي إلى الرشد فآمنا به ) الجن 2 ، ( فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم ) النساء 6 ، ( وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) غافر 29 ، ( أليس منكم رجل رشيد ) هود 78 ، ( يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ، إنك لأنت الحليم الرشيد ) هود 87 . والرشد في هذه الآيات إما عام أو خاص ( بالمعاملات المالية ) ، مثل آية النساء 6 ، وهود 87 .
فالمال يجب أن يمنع عن السفهاء ، ويوضع في أيدي الراشدين ، لقوله تعالى : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ) النساء 5 ، وقوله : ( فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم ) النساء 6 .
اختبار الرشد :
قال تعالى : ( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم ) النساء 6 .
( ابتلوا ) : اختبروا ، امتحنوا . وكيفية الاختبار هي أن يدفع إليه شيئًا من ماله ، يزيده بالتدريج ، ويمتحنه في المماكسة والمساومة ، فإذا آل الأمر إلى العقد عقد الولي ( الحاوي للماوردي 8/16 ، والموسوعة الفقهية 22/215 ) . وهكذا فإن القرآن يأمر أتباعه ويدعوهم إلى تأهيل أولادهم لكي يبلغوا راشدين في تصرفاتهم المالية ، وذلك بإخضاعهم إلى دورة تدريبية أو تأهيلية ، واجتيازهم اختبارًا يسمى ” اختبار الرشد ” ، حتى يصيروا متمرسين وناجحين في مصالحهم المالية الخاصة .
الإنسان الاقتصادي الرشيد :
يمر الإنسان بأربعة أطوار : الطور الأول طور الجنين ، والثاني طور الطفل ، والثالث طور الصبي المميز ، والرابع طور البالغ . وفي الأطوار الثلاثة الأولى ، لا يتصرف ماليًا ، إنما يتصرف عنه وليه ، فإذا أصبح راشدًا تصرف .
وبالنسبة للصبي المميز ( 7 سنوات ) ، يقسم العلماء التصرفات المالية إلى ثلاثة أنواع :
1- تصرفات نافعة له نفعًا محضًا ، كهبة يأخذها ؛
2- تصرفات ضارة به ضررًا محضًا ، كهبة يعطيها ؛
3- تصرفات دائرة بين النفع والضرر ، كالمعاوضات والمشاركات .
ويجيزون له التصرفات الأولى دون توقف على إجازة الولي أو الوصي ، والثانية لا تجوز حتى لو أجازها الولي أو الوصي ، والثالثة تكون موقوفة على إجازتهما عند بعض الفقهاء ، وباطلة كالثانية عند آخرين .
فالأصل إذن افتراض الرشد المالي والاقتصادي للإنسان إذا بلغ ، غير ذي سفه ولا غفلة . فإذا كان سفيهًا أو مغفلاً حجر عليه عند جمهور العلماء ( عدا الحنفية ) ، وكذلك يكون محجورًا عليه في طور الطفولة والصغر .
ويفترض أن الرشيد يعرف مصالحه الخاصة ، وهو أدرى بها من غيره ، وأنه ينمي رشده بالتعلم والتجربة والخبرة والاستعانة بالخبراء والمستشارين . ومن لم يكن رشيدًا وُلّي عليه رشيد من أب أو قيم أو وصي ، ولا تكون الولاية للدولة إلا في نهاية المطاف ، فالدولة ولي من لا ولي له ، والولاية الخاصة أقوى من الولاية العامة .
والخلاصة فإن الإنسـان الاقتصادي هو الإنسان الرشيد بنفسه أو بغيره أو بهما معًا . أما الانتقادات الموجهة له فإنها ناشئة من سوء الفهم أو من سوء التطبيق .
ما معنى ( قيامًا ) ؟
( قيامًا ) لكم ولهم ، وقيامًا وقوامًا بمعنى واحد ، قوام معايشكم ، أو قوام عيشكم ( تفسير الطبري 4/249 ، والمنار 4/381 ) ، أي ما يقيم به الناس معايشهم ( الكشاف 1/500 ) .
قال محمد عبده : ” لا يمكن أن يوجد في الكلام ما يقوم مقـام هذه الكلــمة ( قيامًا ) ، ويبلغ ما تصل إليه البلاغة من الحث على الاقتصاد ، وبيان فائدته ومنفعته ، والتنفير عن الإسراف والتبذير ، الذي هو شأن السفهاء ، وبيان غائلته وسوء مغبته ، فكأنه قال إن مصالحكم الخاصة والعامة لا تزال قائمة ثابتة ما دامت أموالكم في أيدي الراشدين المقتصدين منكم ، الذين يحسنون توفيرها وتثميرها ، ولا يتجاوزون حدود المصلحة في إنفاق ما ينفقون منها ( … ) . فهذا الدين هو دين الاقتصاد والاعتدال في الأموال ، وفي الأمور كلها . ولذلك وصف الله تعالى المؤمنين بقوله : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا ) الفرقان 67 ( …) . فماذا جرى لنا نحن المسلمين ، بعد هذه الوصايا والحكم ، حتى صرنا أشد الأمم إسرافًا وتبذيرًا وإضاعة للأموال ، وجهلاً بطرق الاقتصاد فيها وتثميرها ؟ ( … ) . وماذا جـرى لتـلك الأمم ( … ) حتى صارت أبرع الخلق في فنون الثروة والاقتصاد ، وأبعدها عن الإسراف والتبذير ، وسادت بالغنى والثروة على جميع أمم الأرض ” ؟ ( تفسير المنار 4/381) .
يبدو أننا اقتربنا من دينهم فتخلفنا ، واقتربوا من ديننا فتقدموا ، فدينهم يدعوهم إلى الزهد ونبذ الدنيا والمال ، وديننا يدعونا إلى التوازن ، وهو ما عبر عنه محمد عبده بعباراته الخاصة ، في الموضع المشار إليه آنفًا .
لماذا قال ( أموالكم ) ولم يقل ” أموالهم ” ؟
في هذا أقوال : الأول بمعنى أنكم قوّامها ومدبّروها ، وأنها بأيديكم ، وتتصرفون فيها ، لا بمعنى أنكم مالكوها ، فنسبت إليهم اتساعًا أو مجازًا ( تفسير الطبري 4/248 ، والرازي 9/184 ، والقرطبي 5/29 ، والمنار 4/380 ) ، والثاني بمعنى : لا تؤتوا السفهاء أموالهم ولا أموالكم ( تفسير الطبري 4/249 ) ، والثالث بمعنى أن أموالهم كأنها أموالكم ، فاحرصوا عليها حرصكم على أموالكم ( الطبري 4/249 ، والرازي 9/184 ، ونظم الدرر 5/195 ) ، والرابع بمعنى أن أموالهم كأنها أموالكم جميعًا ( أحكام القرآن لابن العربي 1/319 ، وتفسير القرطبي 5/29 ، وابن عاشور 4/234 ) .
وههنا نجد مرة أخرى ، في الآية نفسها ، أن حرفًا واحدًا ، وهو العدول عن ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب ، عن حرف الهاء إلى حرف الكاف ، كان له إعجاز لغوي اختفى تحته ما رأيت من إعجاز اقتصادي .
تعليق لابن العربي وابن عاشور :
ذكرنا أن المخاطبين بالآية هم : أولياء اليتامى ، أو الآباء ، أو الأزواج ، أو جميع الأولياء . ويبدو أن ابن العربي اختار القول الأخير ، فربما لا يقتصر لفظ ” الأولياء ” على أولياء اليتامى ، بل يمتد إلى جميع الأولياء ، ســواء أكانوا آباءً أم أزواجًا أم أولياء يتامى أم أولياء بالمعنى العام .
قال ابن العربي : ” أضاف الأموال إلى الأولياء لأن الأموال مشتركة بين الخلق ، تنتقل من يد إلى يد ، وتخرج عن ملك إلى ملك ” ( أحكام القرآن 1/319 ).
وقال ابن عاشور : ” إضافة الأموال إلى ضمير المخاطبين ( … ) إشارة بديعة إلى أن المال الرائج بين الناس هو حق لمالكيه المختصين به في ظاهر الأمر ، ولكنه عند التأمل تلوح فيه حقوق الأمة جمعاء ، لأن في حصوله منفعة للأمة كلها ، لأن ما في أيدي بعض أفرادها من الثروة يعود إلى الجميع بالصالحة ( بالمنفعة ) ، فمن تلك الأموال ينفق أربابها ، ويستأجرون ويشترون ويتصدقون ، ثم تورث عنهم إذا ماتوا ، فينتقل المال بذلك من يد إلى غيرها ، فينتفع العاجز والعامل والتاجر والفقير وذو الكفاف . ومتى قلّت الأموال في أيدي الناس تقاربوا في الحاجة والخصاصة ، فأصبحوا في ضنك وبؤس ، واحتاجوا إلى قبيلة أو أمة أخرى ، وذلك من أسباب ابتزاز عزهم ، وامتلاك بلادهم ، وتصيير منافعهم لخدمة غيرهم . فلأجل هاته ( هذه ) الحكمة أضاف الله تعالى الأمـوال إلى جميع المخاطبين ، ليكون لهم الحق في إقامة الأحكام التي تحفظ الأموال والثروة العامة . وهذه إشارة لا أحسب أن حكيمًا من حكماء الاقتصاد سبق القرآن إلى بيانها ( … ) ، وقارب ابن العربي إذ قال ( سبق نصه آنفًا ) ، وبما ذكرته من البيان كان لكلمته هذه شــأن ” ( تفسير ابن عاشور 4/234 ، ومقاصد ابن عاشور ص 170 ) .
لماذا قال ( فيها ) ولم يقل ” منها ” ؟
قال تعالى : ( وارزقوهم فيها ) النساء 5 ، ولم يقل : ” وارزقوهم منها ” ، وجاء في السورة نفسها قوله تعالى : ( فارزقوهم منه ) النساء 8 .
قال الزمخشري : ” أي اتجروا فيها ، وأنفقوا عليهم من الربح ، لا من رأس المال ” ( الكشاف 1/500 ، ومثله في تفسير الرازي 9/186 ، بدون إحالة على الكشاف ، والألوسي 4/203 ) .
وقال ابن عاشور : ” أي أنفقوا عليهم من أصلها ، أو من ثمنها ، أو من ربحها ” ( تفسير ابن عاشور 4/236 ) . وقال أيضًا ” أهمل معظمهم ( معظم المفسرين ) التنبيه على وجه العدول إلى ( في ) ، واهتدى إليه صاحب الكشاف بعض الاهتداء ، فقال : أي اجعلوها مكانًا لرزقهم ، بأن تتجروا فيها وتتربحوا ، حتى تكون نفقتهم من الربح ، لا من صلب المال ” ( نفسه 4/236 ) . واستدرك على قوله : ” لا من صلب المال ” ، ورأى أنه : ” لو كان كما قال لاقتضى نهيًا عن الإنفاق من صلب المال ” ( نفسه ) ، وهو جائز . ويبدو لي أن قول الزمخشري خطوة على الطريق ، وتابعها ابن عاشور ، وقوله أكثر تنقيحًا من قول الزمخشري ، ولكن الزمخشري له فضل السبق بأنه هو الذي شق الطريق .
لاحظ هنا أ ن اختلاف حرف الجر فقط ، بالعدول عن ” من ” إلى ” في ” كيف كان له تأثير على المعنى ، باستثارة معاني خفية ودقيقة وعميقة ، تشحذ الأذهان ، ويظهر فيها الإعجاز اللغوي مقترنًا بالإعجاز الاقتصادي .
أحكام اليتامى :
يلاحظ أن آيات النساء المذكورة أعلاه ، كلها في اليتامى ، الذين ورد ذكرهم في القرآن حوالي 23 مرة . واعتبرت إدارة أموال اليتامى أساسًا لإدارة أموال الأوقاف ، وأموال بيت المال . قال عمر رضي الله عنه : ” إنما أنا ومالكم كولي اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت بالمعروف ” ، وهو معنى قوله تعالى في ولي اليتيم : ( ومن كان غنيًا فليستعفف ، ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف ) النساء 6 . فهذه الصيغة من صيغ الأجور تصلح لولي اليتيم ، وناظر الوقف ، ورئيس الدولة
لقد علمتنا آيات اليتيم كثيرًا من الأحكام والمبادئ في الإدارة المالية والأجور والتدريب والاختبار والرشد والسفه وتعظيم الأرباح والمنافع . فقد تكلم الماوردي ، في مجال تصرف الوصي بمال اليتيم ، عن : ” الاجتهاد في توفير ( تعظيم ) الثمن حسب الإمكان ، فإن باعه بثمن هو قادر على الزيادة فيه لم يجز ، سواء كان بيعه بثمن المثل أو أقل أو أكثر ، لأن ترك الزيادة مع القدرة عليها عدول عن الحظ ( النفع ) لليتيم ” ( الحاوي 6/446 و 7/234 ) . فآيات اليتامى تشكل منجمًا غنيًا بالمبادئ الاقتصادية والإدارية .
خاتمة :
وهكذا جاء القرآن بالرشد ، ونهى عن السفه والإسراف والتبذير ، وأباح السعي للمصلحة الخاصة ، وأمر بترشيد سلوك الأبناء وإعدادهم باجتياز اختبار الرشد ، وصولاً إلى الإنسان الاقتصادي الرشيد ، وسمح بتعظيم المنافع والأرباح ، وأوصى بالإنفاق من الربح للمحافظة على رأس المال ، ودعى إلى إصلاح المال وحسن إدارته واستثماره وتنميته … كل ذلك قبل ظهور علم الاقتصاد بقرون طويلة ، فمن علّم النبي الأمي أصول علم الاقتصاد ؟
أحدث التعليقات