مقال : التورق في البنوك – د. رفيق المصري

التورق في البنوك
هل هو ” مبارك ” أم مشؤوم ؟
هل هو من باب ” التيسير ” والرخص أم من باب الحيل ؟
هل هو مخرج شرعي أم وسيلة إلى الربا الفاحش ؟

بقلم : د. رفيق المصري

تعريف التورق
 التورق : طلب الورق ، والورق ( بكسر الراء ، وقد تفتح ) : الفضة ، أو الدراهم الفضية . والمقصود هنا هو عموم النقود ، لا خصوص النقود الفضية . وفي الاصطلاح : هو أن يشتري سلعة بثمن مؤجل ، ثم يبيعها نقدًا بثمن أقل ، ليحصل على النقد . فإن باعها إلى البائع نفسه فهي العِينة ، وإن باعها إلى غيره فهو التورق . والعينة من العَين ، وهو هنا : الذهب ،  أو الدنانير الذهبية ، أو النقود عمومًا .

مظان بحثه عند الفقهاء
 في الربا ، أو في البيوع الفاسدة ، أو في الحيل ، أو في العينة .

أهمية بحثه
 مطبق اليوم في عدد من المصارف والنوافذ الإسلامية . وربما يدخل ضمنًا في عمليات تأخذ أسماء أخرى ، كالمرابحة والإجارة التمويلية . فالعينة والتورق والمرابحة والإجارة كلها فيها بيعتان : إحداهما مؤجلة ، والأخرى معجلة ، وهو ما عبر عنه الفقهاء ، بقولهم على لسان المتعاملين : اشترِ هذه السلعة بنقد ، حتى أشتريها منك إلى أجل . ولا يعني هذا أن البيع بثمن مؤجل أعلى من المعجل غير جائز ، بل يعني عدم جواز اتخاذ البيوع المؤجلة والمعجلة حيلة إلى الربا . وكثير من الحيل الربوية ترتد بالفحص والتمحيص إلى العينة ، أو إلى القرض الربوي .
كتاباتي السابقة
 عدة كتابات منها : في صحيفة الشرق الأوسط 10 / 11 / 1998م ، و20 / 11 / 1998 م ، وفي صحيفة الحياة 1 / 12 / 1998 م ، وفي مجلة الفتح رجب 1423هـ .

حكم التورق 
هو الجواز عند البعض ، وبدون تفصيل ؛ والمنع عند البعض الآخر . فبعضهم يعدّه ” مباركًا ” و ” تيسيرًا ” ، والبعض الآخر يعده فضيحة .
 
ونسب المجيزون المعاصرون جوازه إلى جمهور الفقهاء القدامى .

المجيزون للتورق من المعاصرين
من الأفراد : يوسف القرضاوي ، لدى دفاعه عن المرابحة المصرفية الملزمة ، وعبد الله المنيع ، ونزيه حماد ، وعلي القره داغي … ومن الهيئات : هيئة كبار العلماء في السعودية ، والمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ، والموسوعة الفقهية . وأكثرهم أعضاء في هيئات الرقابة الشرعية لدى البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية .

المانعون
لايبعد أن بعض فقهاء البنوك الإسلامية سيمنعونه استجابة لرغبات بعض رجال الأعمال والجمهور وضغوطهم ، وضغوط المنافسة بين البنوك ، على طريقة : تورقنا أحسن من مرابحتكم ، وإجارتنا أحسن من تورقكم …

رأيي في التورق هو التفصيل 
1- فالتورق فيه ثلاثة أطراف ، كما بينا ، والمتورق يريد الورق ، أي النقود . فإن لم يعلم الطرفان الآخران بمراده ، فربما يكون هذا هو الذي أجازه جمهور الفقهاء . لماذا أجازه الجمهور ، لا الجميع ؟ ربما لأن أحد الأطراف ، وهو المتورق ، لا يريد السلعة ، بل يريد النقود ، دون أن يصرح بذلك للطرفين الآخرين . وإني أرى أن الحالة الوحيدة التي يكون فيها التورق جائزًا هي أن المضطر إلى المال ، إذا لم يقرضه أحد ، لجأ إلى التورق ، بدون إعلامه الطرفين الآخرين بمقصوده الحقيقي . فهو مضطر ، والضرورات تبيح المحظورات ، ويستطيع أن يلجأ إلى القرض بفائدة ، ولاسيما إذا كان معدل الفائدة على القرض أقل من معدل الفائدة على التورق . ولعل هذه الحالة التي ذكرتها هي أصل التورق الجائز ، حيث الاضطرار ، وحيث لم يوجد من يقرض بلا فائدة ، أو بفائدة أقل ، أي إن التورق في هذه الحالة يجوز عند الضرورة ، كالفائدة . 
 
2- أما إذا علم الطرفان الآخران ، في صورة تواطؤ أو اتفاق أو لائحة أو نظام ( كما هي الحال في المصارف والنوافذ الإسلامية ) ، فإن أحدًا لا يجيزه ، لأنه يصبح في حكم العينة ، وحتى الإمام الشافعي لا يمكن أن يجيزه . نعم أجاز العينة قضاءً ، ولكن لم يجزها ديانةً . فإذا صرح المتورق بمراده امتنع التورق قضاءً وديانةً ، عند الشافعي وغيره . وإذا وجدت هنا ضرورة ، إلا أنها لا تبرر قيام المصارف على أساسها ، إذ في حال الضرورة يستباح المحظور ، فائدة أو تورقًا . فإذا وجدت الفائدة ، فماذا يضيف التورق في هذه الحالة ، إلا الحيلة والكلفة ؟ فالذين يجيزون التورق في مثل هذه الحالات ، عليهم أن يجيزوا الفائدة من باب أولى .

فالعينة والتورق كلاهما فيه بيعتان ، وكلاهما فيه بيعة مؤجلة وأخرى معجلة ، وكلاهما فيه سلعة وسيطة لاغية ، غير مقصودة حقيقة ، تقبض ثم تعاد ، وربما لا يتم تقابضها بالمرة ، وقد لا تتحرك من أرضها ، وقد لا يكون لها وجود أصلاً ( سلعة افتراضية ) . والفارق بين العينة والتورق هو أن في العينة طرفين ، وفي التورق ثلاثة ، ولكن علم الأطراف الثلاثة يجعل التورق عينة بلا ريب ، ويكون الاختلاف بينهما عندئذ ، في عدد الأطراف ، شكليًا لا أثر له في الحكم .

هل يمكن الاحتجاج لجواز التورق بحديث : ( بعِ الجمع بالدراهم ) ؟ 
حديث :  ( بع الجمع بالدراهم ، ثم ابتع بالـدراهم جنيبًا ) حديث صحيح ، ومتفق عليه . لكن لا يمكن الاحتجاج به للتورق ، لأن الغرض من الحديث هو الخروج من الربا ، والغرض من التورق هو الدخول في الربا . كما أن بائع الجمع ليس ملزمًا بالشراء من بائع الجنيب . فالبيعتان في الحديث مستقلتان إحداهما عن الأخرى ، وليس كذلك التورق المتفق عليه بين أطرافه الثلاثة .

هل يمكن الاحتجاج للتورق بأن ليس فيه إكراه
ولا اضطرار ولا استغلال لضعف أو حاجـة ؟
يمكن الاحتجاج بهذا في القرض الحسن الخالي من الفائدة ، لا في التورق الذي تزيد فائدته على معدل فائدة القرض الصريح . وبمثل هذه الحجج احتج أنصار الفائدة ، لإباحة الفائدة على القروض الإنتاجية ، أو القروض الاستهلاكية الممنوحة إلى الأغنياء . وقد رفضها هؤلاء العلماء أنفسهم ، فكيف يعودون للاحتجاج بها في التورق ؟
هل الأصل في التورق الجواز ؟
لا يمكن أن يقال ذلك لأن للتورق صلة بالربا والعينة والحيل الربوية ، فصار الأصل فيه هو المنع .

هل أجازه جمهور الفقهاء ؟
ادعى بعض الباحثين أن التورق أجازه جمهور الفقهاء ، وهذا في معرض استدلالهم لجواز التورق المصرفي ، مع أن هذا التورق كما قلنا هو تورق منظم ومعلوم لأطرافه الثلاثة ، ولا يمكن أن يجيزه فقيه قديم أو معاصر ، يُعوّل على فقهه .

قد يصبح التورق عينة
بينا أن التورق عندما يكون معلومًا لأطرافه الثلاثة ، فهو في حكم العينة ، حتى إن جمهور الفقهاء ، عدا الحنابلة ، بحثوه في العينة ، وسموه عينة ، وجعلوه من صورها ، ولم يسموه تورقًا .

ثم إن التورق عندما يطلق يفترض أنه متعلق بحيلة ربوية . نعم هو بيع ، ولكنه بيع في الصورة فقط ، وليس المراد منه السلعة ، إنما المراد منه الحصول على الورِق ، أي النقود . فالتورق طلب الورق ، وفي الحديث : ” لا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل ” ( متفق عليه ) . واليوم يعبر عن الوحدة النقدية في بعض البلدان بأنها ورقة ، أي ورقة من الأوراق النقدية ، فيقال في بلاد الشام : هذه السلعة بـ 100 ورقة ، أي بـ 100 ليرة سورية .

والفقهاء المعاصرون الذين يجيزون التورق هم يمنعون العينة ، فإذا صار التورق كالعينة ، فكيف لا يمنعونه ؟ هل يحكمون على مجرد الألفاظ والصور والمباني ، ولا يريدون لسبب أو لآخر الغوص في المقاصد والحقائق والمعاني ؟

هل التورق من باب التيسير والرخص أم من باب الحيل ؟
 يدعي البعض أن التورق هو من باب التيسير ، أو من باب الرخص ، والصحيح أنه من باب الحيل . ذلك لأن الرخص كالعزائم في الشرع ، بل إن إتيان الرخصة ، في موضعها وبشروطها وبالاستدلال الصحيح عليها ، أفضل من إتيان العزيمة . والمنهي عنه هو تتبع الرخص ، بالتحكم والهوى ، وقد تكون الرخصة حيلة ، وتكون تسميتها بالرخصة من باب الإمعان في الحيلة .

معدلات التورق ومعدلات الفائدة
المصارف والنوافذ الإسلامية ، عند تمويلها للغير بأسلوب التورق ، تستطيع الحصول على معدلات فائدة أعلى من معدلات القرض بفائدة ، لأنهم عند القرض يتحدثون عن فائدة ، وعند التورق يتحدثون عن ربح ، لأن التورق بيع . وعندئذ تفلت معدلات الربح المزعوم من رقابة البنوك المركزية على معدلات الفائدة ، وتحصل بنوك العينة ، أو البنوك ” المتورقة ” ، على معدلات فائدة فاحشة ، لا يستطيع جمهور الناس أن يفطنوا إليها لأنها تتستر عليها في عقودها ، ولا تفصح عنها ، وإن أفصح عنها الموظف المختص فغالبًا ما يلجأ إلى المغالطة ، كأن يصرح بمعدل فائدة بسيطة بدل المركبة ، وكأن العميل يسدد الدين كله دفعة واحدة في نهاية المدة ، ولا يسدده على أقساط دورية ، وربما تكون شهرية !

وهكذا قدم الفقهاء المعاصرون الذين أفتوا بالتورق ذريعة أخرى للبنوك ، لكي تتوصل إلى معدلات ربوية فاحشة ، ولاسيما عند تعاملها مع الأفراد والمستهلكين ، الذين لا يتماثلون معها في المعلومات المتعلقة بالرياضيات المالية والتجارية .

أحسن ما قيل في التورق
قال ابن تيمية : ” المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيه بعينه ، مع زيادة كلفة بشراء السـلعة وبيعها والخسارة فيها . فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى ، وتبيح ما هو أعلى ” . والضرر الأدنى هو الفائدة ، والأعلى هو التورق .

وفعلاً فإن الذي يشتري السلعة تورقًا يخسر نتيجة شرائها وإعادة بيعها . فكيف إذا كان معدل التورق أعلى من معدل الفائدة ؟ فإن الخسارة عندئذ ستكون أكبر بكثير . وعلى هذا فلا يتصور أن يحرم الشارع الفائدة ، ويبيح التورق ، أي إن الفائدة إذا كانت حرامًا ، فالتورق حرام من باب أولى .

قال أيوب السختياني : ” لو أتوا الأمر على وجهه لكان أفضل ” ، أو أقل سوءًا ، أي إن الفائدة أفضل من التورق ، أو أقل سوءًا منه .

وقال ابن عباس : دراهم بدراهم بينهما حريرة ! أي المقصود : دراهم بدراهم أكثر منها ، والبيع صوري ، والسـلعة لغو ، والقرض الربوي هو المقصود .

 المصدر :

موقع الدكتور رفيق المصري