الأزمة المالية العالمية أسباب وحلول من منظور إسلامي
– ورقة قدمت إلى مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي قبل أسبوع من قمة العشرين التي انعقدت في 15/11/2008م.
بقلم : د. رفيق يونس المصري
الربا :
جميع الأديان تحرم الربا، ولكن علماء النظام الرأسمالي استحلوا الربا أو الفائدة، ووضعوا نظريات لتبرير مشروعيتها. لكن كل ما فعلته نظرياتهم هو إثبات أن لرأس المال عائدًا.
لكن العائد قد يكون في صورة فائدة، أو في صورة حصة من الربح، أو في صور أخرى. والإسلام ذهب إلى أن رأس المال لا يجوز له أن يأخذ مبلغًا مقطوعًا، أو نسبة من رأس المال، ويمكن أن يحصل على حصة من الربح. فالقرض في الإسلام يمنح لأغراض البر والمعروف، ولا فائدة عليه، بل يمكن أن يعفى المقترض من سداده بعضه أو كله. أما في البيع الآجل أو بيع التقسيط فقد أجاز الإسلام أن يكون الثمن المؤجل أعلى من المعجل، أو أجازوا أن يكون الثمن المعجل أقل من الثمن المؤجل، وقال الفقهاء : للزمن حصة من الثمن. لكن إذا استحق الثمن المؤجل، وعجز المدين عن السداد لم يجز تحميله فوائد تأخير. وكما أجاز جمهور العلماء الزيادة للتأجيل، أجاز بعض العلماء الحطيطة ( الوضيعة ) للتعجيل.
والخلاصة فإننا نوصي بالإقلاع عن الربا، لأنه محرم في الأديان السماوية، ولأن آثاره الاقتصادية والاجتماعية آثار وخيمة، ويتسبب في حدوث الأزمات المالية.
القمار والغرَر :
القمار أيضًا محرم في الأديان، ولكن النظام الرأسمالي استباحه في مجال اليانصيب والمسابقات وفي مجال البورصات وغير ذلك. وصار يُطلَق على البورصة أنها مجرد ناد ( كازينو) للقمار، بل صار يُطلَق على الرأسمالية أنها رأسمالية الكازينو والقمار. فعمليات البورصة جلها تقوم على أساس المضاربة على الأسعار، وهذه المضاربة من شأنها أن تؤدي إلى تقويم الأسهم في البورصة بأكثر من قيمتها الحقيقية أو أقل بكثير. كما أن عقود البورصة ليس من شأنها أن يسلم البائع ما باع، ولا المشتري ما اشترى، بل هي مجرد مراهنات على الربح من خلال عقود آجلة ومستقبلية، لا تسليم فيها ولا استلام، إنما يتم التحاسب فيها على فروق الأسعار. وبهذا ينشأ اقتصاد وهمي مضاربي بعيد عن الاقتصاد الحقيقي. والمستثمر الصغير يقوم ربحه على أساس الحظ واليانصيب، وليس على أساس التحليل المالي ودراسة الميزانيات، فإنه غير قادر على ذلك، وحتى لو استعان ببعض المحللين، فإن هؤلاء المحللين غير مسؤولين، وقد يغشونه ويدلسون عليه دون أي مسؤولية عليهم. والكبار في البورصة يخدعون الصغار، ويستنزفون مدخراتهم، ويوقعونهم في الإفلاس. وبهذا فإن في البورصة ممارسات غير مشروعة وغير أخلاقية، لابد من تخليص البورصة منها، حتى تكون سوقًا مشروعة لتنضيض ( تسييل ) الأسهم وتمويل المشروعات، دون الدخول في المضاربة والرهان والقمار والغرَر والخداع. وهي كلها عمليات غير منتجة، بل ضارة ومؤذية، وأحسن أحوالها أن ما يربحه فيها أحد يخسره آخر.
المشتقات :
المشتقات DERIVATIVES هي المستقبليات ( العقود المستقبلية ) FUTURES والخيارات OPTIONS والمبادلات SWAPS، أي عقود البورصة، وسميت مشتقات لأن قيمتها مشتقة من غيرها. ويستخدم معظمها في المضاربة على الأسعار. يقول عنها بعض الغربيين بأنها أدوات للتدمير الشامل، أو قنابل موقوتة قابلة للانفجار في كل لحظة، وتشكل أدوات للقمار أو الرهان. وهي تفصل الخطر عن الأصل ذي العلاقة، ومن ثم تصير المخاطرة سلعة يتم المتاجرة بها، الأمر الذي يؤدي إلى تقلبات حادة في الأسواق المالية وإحداث فقاعات وانهيارات وأزمات.
المهم هنا أن المخاطرة إذا كانت تابعة لمال أو عمل فإنها جائزة في الإسلام وتزيد في العائد، ولكنها إذا استقلَّت عن المال أو العمل لم يجز أن يكون لها عائد. فالمخاطرة مثل الزيادة في الثمن لأجل الزمن تصحّ تابعة ولا تصحّ مستقلة، فالشيء في الإسلام قد يجوز تبعًا ولا يجوز استقلالاً. وقد بينا في موضع آخر أن الزمن والمخاطرة من عوامل الإنتاج التابعة غير المستقلة. ولهذا امتنع الربا في القرض، والقمار في البورصة، لأن الربا تجارة بالزمن المستقل، والقمار تجارة بالخطر المستقل.
التوريق :
التوريق SECURITIZATION تمثيل الأصول بأوراق مالية قابلة للتداول كالأسهم. فلو فرضنا أن هناك سلعة تم توريقها، فإنه يمكن تداول أوراقها المالية بمعزل عنها. ولا ريب أن التوريق يساعد على كثرة التداول، ولكنه يساعد أيضًا على المضاربة على الأسعار، دون تسليم أو استلام للسلعة، بل تبقى السلعة في مكانها، وربما تصبح وهمية أو افتراضية. ولعل أصل التوريق كان يتمثل بأسهم شركات الأموال أو شركات المساهمة، حيث تساعد الأسهم على بيع وشراء الحصص في الشركة، دون حاجة إلى تصفية الشركة، وتساعد أيضًا على تحقيق ثبات رأس مال الشركة، وتحويل الأسهم إلى نقود عند اللزوم. لكن هذه الأسهم يمكن أن تتخذ وسيلة للمضاربة على الأسعار، حتى تصير للسهم قيمة مختلفة عن قيمته الحقيقية التي تعبر في الأصل عن حصة شائعة في الموجودات الصافية للشركة.
المهم هنا أن موجة المبالغة في التوريق لا ريب أنها ساعدت على فصل الاقتصاد المالي عن الاقتصاد الحقيقي، وبلوغه قيمًا عالية جدًا.
بيع الديون :
عمليات البنوك التقليدية تقوم على أساس المتاجرة بالديون ( القروض ) والنقود. فالبنك يقترض بفائدة ويقرض بفائدة أعلى، ويربح الفرق بين الفائدتين. ومن ثم يمكن في النظام الرأسمالي فرض الفائدة على القروض، وتُزاد الفائدة على من يتأخر في الدفع أو السداد، فتُفرض عليه فوائد تأخير أعلى من الفوائد التعويضية المعتادة. ويمكن أيضًا أن يباع الدين إلى شخص ثان وثالث ورابع، فتنشأ بهذا ديون كثيرة متراكمة، بل إن النظام الرأسمالي يقوم كله على أساس جبال ( أو أهرامات ) من الديون، فإذا حدث تأخر في التسديد أو امتناع عنه، أمكن انهيار هذه الجبال، وأمكن وقوع الكوارث والأزمات.
الديون في الإسلام ليست ممنوعة، نعم القرض بفائدة ممنوع، لكن البيع الآجل مسموح، وهو ينطوي على دين، ويمكن كما قلنا أن يُزاد في الثمن لأجل الزمن، لأن البيع تبادل مختلفَيْن، بخلاف القرض، وبعبارة أخرى فإن البيع مستند إلى سلعة، والقرض ليس كذلك. وبهذا يمكن الزيادة للتأجيل مرة واحدة عند البيع، ولا تجوز الزيادة عند العجز عن السداد، لأن المبلغ عند العجز صار في حكم القرض أو الدين، ولم يعد في حكم البيع. كما يمكن في البيع، حيث العلاقة ثنائية بين البائع والمشتري، أن يكون هناك حطيطة ( وضيعة ) للتعجيل في مقابل الزيادة للتأجيل. لكن لو دخل بين الطرفين : البائع والمشتري، شخص ثالث ( وسيط )، وقام بدور الممول فإن دوره يكون دور المقرض، ولا يستطيع أن يقدم القروض بفائدة أيًا كان شكل هذه القروض.
والخلاصة فإن من أسباب الأزمة العالمية الحالية هو المتاجرة بالديون، وبيع الديون، والتوسع فيها، ولا ننسى في هذا دور بطاقات الائتمان. فإذا أردنا أن نعالج هذه الأزمة فلا بد من وضع حد لهذه المتاجرة بالديون والقروض وإغراء الناس بها بوسائل مختلفة.
أما المتاجرة بالنقود ففيها تفصيل في الإسلام، فإذا كانت المبادلة نقدًا بنقد، واتفق النقدان، فلا بد من أن تتم المبادلة يدًا بيد، وبدون تفاضل. أما إذا اختلف النقدان فلا بد من أن تتم المبادلة يدًا بيد، ولكن مع إمكان التفاضل، أي إمكان البيع وتحقيق ربح من وراء هذه المبادلة المعجلة التي تشكل عمليات المصارفة. أما مبادلة نقد بنقد، أحدهما معجل والآخر مؤجل، أو كلاهما مؤجل ( كالئ بكالئ )، فهذه المبادلة غير جائزة، لأنها تشكل ذريعة إلى الربا : ربا النسيئة أو ربا النَّساء. وربا النَّساء جائز في القرض غير جائز في البيع. ففي القرض الحسن، يُرْبي المقترض على المقرض، وهو جائز لأنه في مجال المعروف أو الإحسان، أما في البيع القائم على العدل فلا يجوز أن يحصل أحدهما على المبلغ معجلاً، والآخر يكون مبلغه مؤجلاً، لأن المعجل أكبر قيمة من المؤجل، ولأن الذي يقبض البدل المعجل يكون قد أربى على من يقبض البدل المؤجل. هذا في مبادلات نقد بنقد. أما مبادلة نقد بسلعة فيجوز فيها البيع والتفاضل والتأجيل، والزيادة لأجل التأجيل، والحطيطة لأجل التعجيل، ما دامت العلاقة ثنائية بين البائع والمشتري، كما قلنا.
خلق النقود :
البنوك التجارية تزاحم الدولة في إصدار النقود، فالدولة تصدر النقود الأساسية : الورقية والمعدنية. والبنوك تخلق النقود المصرفية الائتمانية ( الكتابية ) أو نقود الودائع. لو كانت البنوك تحتفظ بالودائع ولا تقرضها لما كان هناك أي خلق للنقود المصرفية، ولكان معنى هذا أن البنوك تحتفظ باحتياطي نقدي كامل 100%. ولكن الواقع أن هذه البنوك تحتفظ باحتياطي نقدي جزئي غير كامل، وتُقرِض ما يزيد على هذا الاحتياطي. ويستطيع النظام المصرفي مضاعفة الودائع ومضاعفة النقود المصرفية، فيقرض أضعاف أضعاف رأس ماله والودائع التي تلقاها. ويحقق بذلك المزيد من الأرباح والفوائد. وإذا لم تراعِ البنوك القواعد الفنية في منح الائتمان، وتطبق اللوائح، وتتم مراقبتها من البنك المركزي، فإن هناك خطرًا يتمثل في التوسع في خلق النقود والائتمان. وفي السنوات الأخيرة، لوحظ أن البنوك تتجه إلى تشجيع الاستهلاك وبطاقات الائتمان ومنح القروض الشخصية لشراء المنازل والعقارات والمضاربة في البورصات. ولاشك أن هذا التوسع في الائتمان، مع تراخي الرقابة، كان من أهم أسباب وقوع الأزمة.
الرقابة على المصارف :
تقوم البنوك المركزية بالرقابة على المصارف، بواسطة السياسات النقدية والمصرفية، وتحديد نسب الاحتياطي النقدي، ونسب السيولة، ومعدلات الفائدة، والضمانات، وغير ذلك. فإذا استرخت البنوك المركزية في الرقابة والمحاسبة أمكن للبنوك أن تتوسع في منح الائتمان، وأن تخالف قواعد الرقابة ولوائحها، ولعل هذا الأمر هو أيضًا من أهم أسباب وقوع الأزمة الحالية.
الفساد الإداري :
قد يتمثل هذا الفساد بالرشوة للحصول على القروض، أو للتلاعب في تقويم الضمانات، وتحديد مبالغ القروض وآجال تسديد أقساطها، ومعدلات الفائدة عليها. وقد يقع هذا الفساد بصور أخرى، مثل اختلاس أموال البنك، أو منح بعض المتنفذين قروضًا يتهربون بعد ذلك من سدادها. وبهذا تزداد الديون المشكوك فيها والديون المعدومة، وتتجمد أموال البنوك، وقد تصبح عاجزة عن رد الودائع، وتعلن إفلاسها. فلا بد إذن من رقابة داخلية ورقابة خارجية، لمنع وقوع الرشوة والفساد والاختلاس والسرقات وما شابه ذلك، لاسيما وأن وقوع أحد البنوك في الإفلاس قد يجرّ معه بنوكًا أخرى، فتفلس البنوك واحدًا بعد آخر.
المغالاة في المصالح الخاصة :
يركز النظام الرأسمالي على سعي الفرد وراء مصلحته الخاصة، وبهذا تطغى المصالح الخاصة على المصالح العامة والمصالح الخيرية، بما يؤدي إلى المغالاة والغلو والتطرف ووقوع مخالفات غير مشروعة وغير أخلاقية. والإسلام لا يمنع المصلحة الخاصة، بل يرى أن هذا من الرشد الاقتصادي والمالي للمسلم. ومن لا يدرك مصالحه الخاصة فهو قاصر أو سفيه أو مغفل. ولكن إذا تعارضت المصلحة الخاصة مع المصلحة العامة وجب تقديم المصلحة العامة. وهذا يعني أن على الأفراد والشركات أن يراعوا المصالح العامة، التي يمكن وضعها في شكل قوانين ولوائح، وهم يمارسون مصالحهم الخاصة. ونحن نرى أن الأفراد عندما يمارسون مصالحهم الخاصة المتفقة مع المصالح العامة، أو التي لا تتعارض معها، فهذا يعني أن هناك يدًا خفية من شأنها خدمة المصلحة العامة والتوفيق بين المصلحتين الخاصة والعامة، وقد سبق المسلمون إلى بيان اليد الخفية قبل آدم سميث بقرون. ولا مانع عندنا من تعظيم الأرباح والمنافع في حدود الأحكام والآداب والقيود الإسلامية. ولا صحة لما يراه بعض الاقتصاديين المسلمين من إلغاء المصلحة الخاصة لصالح المصلحة العامة، أوإلغاء مبدأ تعظيم المنافع والأرباح على إطلاقه.
دور رجال العلم والإعلام :
لاشك أن لرجال العلم والإعلام دورًا في الرقابة على السلوك الاقتصادي والإداري. أما إذا تقاضى رجال الإعلام من صحفيين وغيرهم رشاوى في صور ظاهرة أو خفية، فإنهم يميلون بذلك إلى التستر على الأخطاء والانحرافات. فالسكوت والتعمية والتضليل قد يكون في مقابل رشوة، وقد يكون كذلك لأجل الجهل، أو التقصير، أو الخوف. فليس كل العلماء والإعلاميين بقادرين على كشف الأخطاء وبيانها والصدع بها من أجل محاسبة المسؤولين عنها. فبعضهم يؤثر السكوت، وآخرون غير مبالين، وبعضهم يتلعثم، أو يتردد، أو يقول شيئًا مبهمًا أو قليلاً لا يكاد يُفهم عنه، وما إلى ذلك من أمور تؤدي إلى تأخير البيان عن وقت الحاجة ( حسب تعبير رجال الشريعة )، حتى تقع الكارثة. وقد يكون من العجيب أن يخاف الناس من الصدع بالحقائق حتى في البلدان الليبرالية، فلا ينتقد أحدهم انتقادًا إلا إذا كان مستندًا إلى حزب كبير من أحزاب المعارضة، وقد يكون نقده لا بغرض كشف الحقائق، بل لأغراض سياسية، وقد يؤخر هذا النقد عدة سنوات حتى موعد الانتخابات، ليكون مجرد ورقة انتخابية كاذبة ضد خصمه السياسي. فلا بد إذن من اتخاذ الإجراءات المناسبة من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل في حدود اختصاصه ومسؤولياته وعلومه. فعلى كل منا أن ينبه إلى الحريق قبل وقوعه، أو في أول وقوعه على الأقل، وعليه ألا ينتظر أن يلتهم الحريق كل شيء ويأتي على كل شيء، حتى يتكلم ويكثر من كلامه وسكاكينه بعد موت البقرة.
المصدر :
موقع الدكتور رفيق المصري
أحدث التعليقات