مقال: عبد الرزاق السنهوري في الربا – رفيق يونس المصري

مقــــــــــــــــــــــــــــــال:

عبد الرزاق السنهوري في الربا

أ.د رفيق يونس المصري

المصدر: الموقع الشخصي للكاتب
الرابط المباشر للمقال: أنقر هنـــــــــــــا

عبد الرزاق السنهوري ( 1895-1971م ) رجل القانون الشهير عربيًا وإسلاميًا ودوليًا، واضع الدساتير والقوانين المدنية العربية ( مصر، العراق، ليبيا، الكويت )، وصاحب المقدرة العالية على الكتابة السريعة والواضحة، والمثل المحتذى في ذلك من رجال الفقه والقانون. حصل على الثانوية عام 1913م، وكان ترتيبه الثاني في مصر. كما حصل على ليسانس الحقوق عام 1917م، وجاء ترتيبه الأول، على الرغم من أن كان يجمع بين الدراسة والوظيفة في وزارة المالية. وحصل على الدكتوراه عام 1926م. انتخب عميدًا لكلية القانون عام 1937م. صار عضوًا في مجمع اللغة العربية عام 1946م. وأسهم في وضع الكثير من المصطلحات القانونية العربية. شغل منصب وزير المعارف أربع مرات في الفترة 1945-1949م. عيّن رئيسًا لمجلس الدولة في الفترة 1949-1954م. كلفته وزارة العدل المصرية بوضع مشروع القانون المدني، فأنجزه ورفض الحصول على أي مكافأة مالية. سافر إلى ليبيا بعد استقلالها ووضع لها قانونها المدني الذي صدر عام 1953م، دون مقابل أيضًا. اضطر للعمل بالمحاماة بالرغم من عدم محبته لها. له بنت وحيدة الدكتورة نادية هي زوجة توفيق الشاوي. هو الذي ابتكر قوانين الكفالة في دول الخليج ! اعتزل الحياة العامة، بعد خلافه مع عبد الناصر، في الفترة 1954-1971م، وأنجز فيها عددًا من مؤلفاته. من كتبه :
  • الوسيط في شرح القانون المدني 10 أجزاء، ولا يزال يطبع ويباع ويرجع الناس إليه.
  • مصادر الحق في الفقه الإسلامي، مجلدان.
  • نظرية العقد، جزءان.
  • فقه الخلافة.
  • عقد الإيجار.
في كتابه ” مصادر الحق في الفقه الإسلامي : دراسة مقارنة بالفقه الغربي “، نشر دار إحياء التراث العربي، د.ت، وأصله محاضرات ألقاها على طلبة قسم الدراسات القانونية 1953-1954م، تعرض فيه لمسألة الربا في 74 صفحة.
المزايا :
  • نقل عن شكري قرداحي في كتابه ” القانون والأخلاق ” ( بالفرنسية ) كيف تدرّج الغربيون في إباحة الربا عن طريق الاستثناءات أولاً، ثم عن طريق الحيل : استرداد المصاريف، التعويض عما يلحق المقرض من خسارة، التعويض عما يفوته من ربح، التعويض عن المخاطر، الشرط الجزائي ( فوائد التأخير )، للمقرض حق في الربح، وفي الفائدة يتنازل عن جزء من ربحه كنوع من التأمين من الخسارة، العِينة التي سمّوها Mohatra وهي كلمة إسبانية مستمدة من اللفظ العربي : المخاطرة، وأخيرًا وصلوا إلى الفائدة وقنّنوها بعد الثورة الفرنسية. بذلك ضاقت منطقة الربا في المسيحية شيئًا فشيئًا، تحت ضغط العوامل الاقتصادية. وظهرت نظريات  لتبرير الفائدة : النقود منتجة وليست عقيمة، بل هي عنصر من عناصر الإنتاج.
  • التفرقة بين ربا القروض وربا البيوع ( ربا الفضل حسب تعبير السنهوري )، ولا بأس في القول باختلاف درجة التحريم بينهما، فما حرم لذاته تحريم المقاصد لا يباح إلا لضرورة، وما حرم لغيره تحريم الوسائل ( الذرائع ) لا يباح إلا لحاجة، حسب رأي ابن القيم.
  • نقل قول عبادة بن الصامت في حق معاوية : لنحدثنَّ بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنْ كره معاوية، ما أبالي ألا أصحبه في جنده ليلة سوداء. أقول : هذا يدل على أهمية الأحكام الشرعية، وتفضيل الحق على الرجال، لاسيما في الربا، وهو كبيرة الكبائر !
  • نقل ما قاله سعيد الخدري لابن عباس : ” والله لا آواني وإياك ظلّ بيت ما دمتَ على هذا القول “، أي القول بحرمة ربا النسيئة فقط، وإنكار حرمة ربا الفضل ( وربما ربا البيوع : ربا الفضل وربا النَّساء ). وهذا فيه دلالة كالسابق.
  • ذهب إلى أن الضرورة في إباحة ربا القروض ” لا يمكن تصورها، وحتى إذا أمكن تصورها في حق المدين بأن كان في حاجة إلى المال لحفظ حياته، ولم يجد من يقرضه إلا على هذا الشرط، فإنه لا يمكن تصورها في حق الدائن. فما هذه الضرورة الملحّة التي تدفع الدائن إلى هذا الاستغلال، إن لم يكن الطمع والجشع “!
  • قال : ” تحريم الربا هو الحكم الذي يتمشى مع كل العصور وجميع الحضارات : لا نشك في أن الواجب، في كل العصور، وفي جميع الحضارات، أن يحرم الربا كمبدأ عام، وقد تضافر القرآن الكريم والحديث الشريف على تقرير تحريم الربا كأصل عام من أصول التشريع الإسلامي “.
  • قال أيضًا : ” في نظام اقتصادي رأسمالي كالنظام القائم في الوقت الحاضر في كثير من البلاد (…) القروض فيه هي الوسيلة الأولى للحصول على رؤوس الأموال (…)، والمقترض هنا هو الجانب القوي، والمقرض هو الجانب الضعيف الذي تجب له الحماية، فإن فائدة رأس المال في الحدود المذكورة تكون جائزة استثناءً من أصل التحريم (…). فإن الحاجة إلى الفائدة لا تقوم كما قدمنا إلا في نظام رأسمالي كالنظام القائم. فإذا تغيّر النظام، ويبدو أنه في سبيله إلى التغيّر، وأصبح نظامًا اشتراكيًا، رؤوس الأموال فيه بيد الدولة لا بيد الأفراد، عند ذلك يعاد النظر في تقدير الحاجة. فقد لا تقوم الحاجة في ظل النظام الاشتراكي، فيعود الربا إلى أصله من التحريم “. ويقول في آخر بحثه عن الربا : ” هذا هو موقف التقنينات المدنية العربية، ومعها التقنين المدني المصري، من الفوائد في العصر الحاضر، والموقف كما ترى موقف معتدل، ولم تُغالِ هذه التقنينات في إباحة الفوائد، بل أحاطتها بقيود كثيرة. وزمام الموقف بيد المشرع على كل حال. فإذا كان المشرع العربي قد أباح الفوائد في هذه الحدود الضيقة، مسايرًا في ذلك مقتضيات النظام الاقتصادي الرأسمالي القائم في البلاد العربية، فهو إنما يخضع للحاجة، وبقدر ما تقتضيه هذه الحاجة. فإذا ما تغير النظام القائم، وارتفعت الحاجة في النظام الذي يستجدّ، فلا شك في أن الواجب هو أن تعود الفوائد إلى أصلها من التحريم. وتحريم الربا أصل من أصول الشرائع تحجبه الحاجة، فإذا ما ارتفعت عاد إلى الظهور “. بهذا ختم رجل القانون الشهير بحثه عن الربا، ولعل هذا أقصى ما كان يستطيعه، والله أعلم.
  • كلامه عن كتاب بداية المجتهد لابن رشد بأنه ” من أجلّ المصنفات في الفقه الإسلامي “، وعن صاحبه بأنه ” تعوّد العناية بأصل المسائل عناية فائقة مع الإيجاز والإجمال، وعنده أن الفقيه ليس الذي يُكثر من حفظ المسائل، بل هو الذي يردّها إلى أصولها، ثم يخرّج عليها مسائل جديدة “.
المآخذ :
  • الخلط بين ربا النسيئة وربا النَّساء، وهو ما ترتب عليه غموض في العديد من المواضع. وهذا الخلط شائع جدًا، ولعل ابن القيم يحمل مسؤوليته، فإن أكثر الكاتبين المعاصرين في الربا ينقلون عن ابن القيم، وهو صاحب فضل في القول بأن ربا البيوع حرّم سدًا للذريعة. يقول السنهوري  : ” الربا في عرف الشرع نوعان : ربا الفضل، وربا النَّساء أو النسيئة “. وقارئ بحث السنهوري يشعر بأنه يفرّق بين ربا القرض وربا النسيئة ! وهذا التفريق غير صحيح. يقول السنهوري في موضع آخر من كتابه : ” إن هناك أنواعًا ثلاثة من الربا : الأول ربا الجاهلية (…)، الثاني : ربا النسيئة الوارد في الحديث الشريف (…)، الثالث : ربا الفضل الوارد في الحديث الشريف “. والصواب : ربا النسيئة هو نفسه ربا الجاهلية. والوارد في الحديث الشريف هو ربا النَّساء، لا ربا النسيئة.
  • انبنى على هذا الخلط من ابن القيم سؤال للسنهوري : ” إذا كان الربا الجلي عند ابن القيم هو ربا الجاهلية (…)، والربا الخفي هو ربا الفضل (…)، فأين يضع (…) ربا النسيئة الوارد في الحديث الشريف ؟ الظاهر أنه ألحقه دون أن يصرح بذلك بربا الجاهلية “. الصواب : أن الربا الخفي عند ابن القيم هو ربا البيوع بنوعيه : ربا الفضل، وربا النَّساء.
  • الإطالة في ربا البيوع ( أو ربا الفضل حسب تعبيره )، مع أن المقصود في بحثه هو ربا القروض.
  • التفرقة في مصدر التحريم بين ربا محرّم بالقرآن وربا محرّم بالسنّة، بحيث ينبني على ذلك أن درجة التحريم لربا القرآن أعلى. هذا خطأ لأن درجة التحريم عند ابن القيم لم تجد مصدرها في القرآن أو السنة، بل في طبيعة الربا : هل هو محرم تحريم مقاصد فلا يباح إلا لضرورة، أم تحريم وسائل فيباح  للحاجة. يقول السنهوري : ” تمييز ابن القيم فيه تحكّم (…). ففي ربا الجاهلية مصدر التحريم القرآن الكريم، وفي ربا النسيئة مصدر التحريم الحديث الشريف، ثم هو في الوقت ذاته قد فصل ما بين ربا النسيئة وربا الفضل، فجعل الأول جليًا والثاني خفيًا، مع أن مصدر التحريم فيهما واحد وهو الحديث الشريف “. أقول لإزالة هذا اللبس : إن ربا الجاهلية هو الربا المحرم بالقرآن، وهو ربا النسيئة، وهو الربا الجلي عند ابن القيم، أما ربا البيوع ( ربا الفضل وربا النَّساء ) فهو الربا المحرّم بالحديث الشريف، ومن ثم فليس هناك تحكّم ولا تناقض. سبب التناقض عدم تمييز ابن القيم بين ربا النسيئة وربا النَّساء، وعدم تمكّن السنهوري من كشف هذا الخطأ عند ابن القيم.
  • نقل ما نُسب إلى عمر رضي الله عنه : ” خفتُ أن نكون قد زدنا في الربا عشرة أضعافه بمخافته “. أو قوله : ” تركنا تسعة أعشار الحلال مخافة الربا “. أو قوله : ” إنا والله ما ندري لعلنا نأمركم بأمور لا تصلح لكم، ولعلنا ننهاكم عن أمور تصلح لكم، وإنه كان من آخر القرآن نزولاً آيات الربا، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبيّنه لنا، فدعوا ما يَريبكم إلى ما لا يَريبكم “، أو قوله : ” دعوا الربا والريبة “. هذه الأقوال العُمَرية تحتاج إلى فحص من حيث السند أولاً، ثم إنها استُغلت حتى صار الأمر بالعكس. وقد ينقلها البعض للتشكيك في ربا القروض، مع أن الأبواب التي لم يفهمها عمر وآخرون غيره هي أبواب خاصة بربا البيوع، لا ربا القروض.
  • حتى حديث ابن عباس : ” إنما الربا في النسيئة “، وهو صحيح السند، قد استُغلّ لإباحة ربا القرض ! مع أن ربا القرض هو ربا النسيئة ! فربا القرض هو الربا الكامل الذي لا خلاف فيه، ولا يصح إيراد حديث ابن عباس لإثارة البلبلة في ربا القرض.
  • استغلال الخلاف الفقهي في ربا البيوع للوصول إلى خلاف مماثل في ربا القروض، مع أن ربا القروض لا خلاف فيه بين الفقهاء القدامى، وهو في معزل عن كل الجدل الدائر حول ربا البيوع.
  • يقول السنهوري : ” أما الصور الأخرى من الربا : الفائدة البسيطة للقرض وربا النسيئة وربا الفضل فهذه أيضًا محرمة، ولكن التحريم هنا تحريم للوسائل لا تحريم للمقاصد “. أقول : لعل مقصود السنهوري بالفائدة البسيطة : الفائدة اليسيرة، لا عكس الفائدة المركبة. ومقصوده بربا النسيئة هو ربا النَّساء، وإني أوافقه على ربا الفضل وربا النَّساء، ولا أوافقه على ربا القرض.
  • نقل عن بعض الفقهاء القدامى أن ذكر الأصناف الستة في الحديث النبوي ينبئ عن زيادة خطر، وأن الذهب والفضة بهما حياة الأموال، وأن الأصناف الأربعة بها حياة النفوس، وأنها هي الأنفَس من كل نوع، فالقمح أنفس طعام لبني آدم، والشعير أنفس علف للحيوان، والتمر أنفس الفواكه، والملح أنفس التوابل ! هذا كله فيه نظر، فالأصناف الستة أموال مِثْلية قابلة للقرض، ولعلّ الغرض من ورودها في الحديث النبوي هو سدّ الذريعة لربا القرض، خشية أن يتم القرض الربوي باسم البيع، والله أعلم !
  • في الحكمة من تحريم الربا، يقول السنهوري : ” يتبين مما قدمناه من النصوص أن هناك أغراضًا ثلاثة يقصد تحقيقها من وراء تحريم الربا : أولاً : منع احتكار أقوات الناس. ثانيًا : منع التلاعب في العملة حتى لا تتقلب أسعارها، وحتى لا تصبح هي ذاتها سلعة من السلع. ثالثًا : منع الغبن والاستغلال عند التعامل في الجنس الواحد “. ونقل السنهوري عن دراز قوله بأن الحكمة من تحريم الربا هي حماية ” النقود والأطعمة، فهي أهم حاجات الجماعة وأعظم مقومات حياتها، وذلك بمنع وسائل احتكارها، أو إخفائها من الأسواق، أو تعريضها للتقلبات الثمنية ( السعرية ) المفاجئة، وهي من الجهة الأخرى تحرص على حماية الفقراء والأغرار من طرق الغبن والاستغلال التي يتبعها بعض التجار الجشعين “. أقول : هذا كله فيه نظر، لأن الحكمة الأساسية والمقصد الأول هو سدّ الذريعة إلى القرض الربوي، وإذا سلّمنا ببعض هذه الحكم المزعومة فإنها قد لا تزيد على أن تكون آثارًا من الآثار المترتبة على تحريم الربا.
  • اعتماده إلى حد كبير على ما كتبه إبراهيم زكي الدين بدوي عن الربا حسب رأيه القديم، وبدوي كان عضوًا في لجنة تنقيح القانون المدني التي كان يرأسها السنهوري 1939م. وأكثر ما تجلّى هذا الاعتماد في المراجع والمصادر والنقول والشواهد. وقد أحال السنهوري عليه في موضعين من بحثه. ولبدوي كتاب بعنوان : ” نظرية الربا المحرم في الشريعة الإسلامية ” ( 275 صفحة ).