النظام العالمي الجديد، نهاية حرب باردة وبداية حروب جديدة
هايل طشطوش
لقد تغير كثيرا وجه التاريخ منذ بزوغ فجر العقد الأخير من القرن العشرين بل عندما شارف العقد الثامن منه على الانتهاء،لقد بدأ التاريخ دورة جديدة من دوراته وبدأت العلاقات الدولية تدخل مرحله غابت عنها طويلا وبدأت تلوح في الأفق بدايات لعهود جديدة من الاشتعال رغم ما يبدو انه انطفاء.
إنها نهاية عملاق ضخم جثم في أحدى كفتي ميزان العلاقات الدولية ردحا من الزمان محافظا على توازنها من الاختلال وعلى نارها من الاشتعال،لقد انهار العملاق الضخم وسقط جثه هامدة لا حراك فيها لينفرط بذلك العقد الذي يحوي كما هائلا من ترسانة السلاح المتطور الذي يحوي صواريخ عابرة للقارات غاية في الدقة، وأسلحه دمار شامل تحتاج إلى سيطرة وحرص، وعلى طائرات نفاثة عملاقه وعلى الكثير من الأنواع المختلفة من الاسلحة التي تحولت وبسرعة كبيرة إلى ميراث يتقاسمه الأبناء والأحفاد.
ان نقطه التحول هذه هي لحظه تنفس فيها العالم الصعداء والتقط أنفاسه المحبوسة منذ أكثر من خمسين عاما كان يراقب خلالها التسابق المحموم للتسلح والمباراة المستمرة والتي لا تنتهي أشواطها من التسابق السريع لبلوغ الأهداف والتي تتمثل بقدرة كل طرف من أطراف النظام الدولي على إثبات قدرته على سحق الطرف الأخر إذا استدعى الأمر ذلك،في هذه اللحظات اختل ميزان العلاقات الدولية وفرغت الساحة الدولية إلا من لاعب رئيسي واحد يتسلم مقاليد الحكم فيها ويتربع على عرش العالم وينصب نفسه سيدا على النظام العالمي ويعلن بدء نظام عالمي جديد آحادي القطبية ليبدأ يسجل وقائع وأحداث ومجريات شريط المرحلة الجديدة من تاريخ الإنسانية.
لقد كان لهذه المرحلة الجديدة ملامح ومميزات صبغت مجرياتها وشكلت علامات بارزة فيها، وقد كان من أبرزها الأحداث السياسية والعسكرية بالإضافة الى الأحداث الاقتصادية الجديدة التي ظهرت بعد انهيار النظام الاقتصادي الشيوعي الذي كان الاتحاد السوفيتي حاضنه الرئيسي، ويمكن ان نجمل ابرز هذة الملامح بما يلي:
أولا: الأحداث السياسية والعسكرية:
ما أن بدأت الحقبة الجديدة بالظهور على السطح حتى اشتعلت النار في أرجاء مختلفة من العالم،كان أبرزها وأهمها اشتعال نفط الخليج العربي الذي كان اشتعاله بداية لنار يصعب إطفائها وذلك لحساسية المنطقة وأهميتها،وبما ان العالم أصبح له سيد واحد وهو أميركا، لذا فقد نصبت نفسها شرطي العالم وحامي الديمقراطية فيه وان من واجبها هو الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين بعد ان كانت هذه المهمة مناطة بالحكومة العالمية –الأمم المتحدة – باعتبار انها واجب أخلاقي والتزام أدبي يقع على عاتق كل دول العالم الحرة المستقلة،وكذلك نشر قيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وتوفير العيش الكريم لشعوب العالم.
مع نهاية الحرب الباردة بدأت الحرب الساخنة، حيث تحشدت الأساطيل في عرض المحيط وطوله ونزل الآلاف الجنود الى الأرض العربية وتجمعت القوات المتحالفة من كل حدب وصوب في اكبر تحالف تشهده القرون ألحديثه،واشتعلت الحرب في المنطقة مخلفه ورائها أثار سياسيه وأمنيه واقتصاديه واجتماعيه كبيرة طالت كل الدول المجاورة للعراق فقد كان للحصار الاقتصادي والسياسي على العراق اكبر الأثر على اقتصاديات الدول المجاورة التي عانت وما زالت، وكذلك عودة مئات الألوف من العمالة التي كانت آمنه مستقرة في العراق ودول الخليج الى ديارها خاليه الوفاض،بالاضافه الى ما أحدثه هروب مئات الألوف من اللاجئين الى دول الجوار مما احدث طفرات اجتماعيه سلبيه وحمل الدول المستضيفة أعباء اقتصاديه واجتماعيه كان لها اكبر الأثر على استقرار الحياة فيها،أضف الى ذلك كله تداعي الأمن الإقليمي والمحلي لدول المنطقة بأكملها.
لقد كان لهذه الظروف السياسية والعسكرية التي عاشتها العلاقات الدولية منذ نهاية العقد الأخير من القرن العشرين الدور الأكبر في توفير البيئات الخصبة التي أنتجت “الإرهاب ” الذي أصبح ينتشر في الأرض انتشار النار في الهشيم فلم تسلم منه دوله او شعب حتى اميركا نفسها حيث جاءت أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 لتدخل العالم في دوامه جديدة ولتستخرج مفاهيم جديدة من قاموس العلاقات الدولية أهمها مفهوم “الحرب على الإرهاب ” الذي أطلقته الولايات المتحدة والذي قسم العالم من حيث لا يدري الى قسمين، ومن ذلك التاريخ والعالم ما ان يطفئ نار حتى تشتعل أخرى.
لقد كان لهذه الظروف الدور الأكبر في ظهور مفاهيم ونظريات جديدة تنادي “بصدام الحضارات” وقطع كل الصلات الحضارية فيما بين الغرب والأخر مما كان لهذه الأفكار الدور الأكبر في تأزيم النفوس وإيقاظ نوازع كامنة في الصدور تدفع الى التطرف والعنف،أضافه الى ظهور نظريه “نهاية التاريخ” التي تنادي بسيادة الحضارة الغربية لأنها أرقى ما ابتكره فكر الإنسان وان لا حضارة بعدها، مما أثار حفيظة المفكرين والعقلاء في هذا العالم وبداء يدفع بهم الى التخفيف من التوتر الذي أحدثته هذة النظريات والدعوة الى الحوار واحترام الأخر والاستماع الى الأطراف المختلفة لان في ذلك حماية ورحمة للإنسانية وحقنا لدماء البشرية،فاشتعلت نيران المؤتمرات والندوات والحوارات والجلسات الساخنة التي تناقش موضوع الحوار واحترام الآخر لعلها تخفف من التأزم الحضاري والفكري الحاصل في أرجاء المعمورة.
إما روسيا فقد ورثت عبئا ثقلا وحملا صعبا تركه الاتحاد السوفيتي تمثل بالأعباء الاقتصادية الثقيلة وتكدس الديون وارتفاع في نسبه العاطلين عن العمل، أضافه الى أنها أصبحت محاطة بحلفاء جدد للولايات المتحدة وهي الجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفيتي والتي ما أن استقلت حتى دخلت في إطار المنظومة الراسمالية العالمية بالاضافة الى دخولها في إطار علاقات ومصالح قويه مع الغرب وتحديدا مع حلف الناتو والولايات المتحدة،ولكن ورغم ذلك كله فقد ورثت روسيا أيضا ترسانة هائلة من الاسلحة النووية والتي تجعلها في مكان بارز من الاهمية في الميزان الدولي كنظير للولايات المتحدة يحسب له حساب،مما دفع الولايات المتحدة الى توقيع اتفاقيه الحد من انتشار الاسلحة النووية معها عام 1999 في باريس.
أما ابرز الأحداث اليوم هو السخونة العالية في العلاقات بين روسيا وأميركا عندما أعلنت الولايات المتحدة أنها ستقوم بنشر درع صاروخي في أوروبا مما دفع بروسيا الى اعتبار ذلك استهداف لها وخاصة ان اميركا ليس لها نظير في الاتجاه الشرقي سوى روسيا مما ينذر باشتعال حرب باردة جديدة في حال ازدياد وتيرة الأحداث.
ثانيا: الظروف الاقتصادية:
لقد كان لسقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار النظام الاشتراكي- كنظام اقتصادي واجتماعي تتخذه كثير من الدول كمذهب اقتصادي لها- كان له الدور الأكبر في ظهور النظام الرأسمالي كمذهب اقتصادي واجتماعي وحيد يتربع على عرش العالم،إن ابرز الأساسيات التي يقوم عليها هذا النظام هي تحقيق الحد الأقصى من الربح في ظل المنافسة التامة بغض النظر عن الوسائل المستخدمة لتحقيق ذلك، كان لها الدور الأكبر في تقسيم دول العالم الى قسمين دول غنية –دول الشمال – تمتلك كل المقومات الاقتصادية وتهيمن على اقتصاد العالم من خلال الأدوات المالية العالمية التي هي رهينة بيدها كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وكذلك من خلال الشركات الكبرى المتعددة الجنسية والتي اغلب مقراتها ومراكزها في هذه الدول ولكنها تستنزف خيرات الدول النامية من خلال فروعها المنتشرة هناك، والقسم الآخر هو دول فقيرة معدمه لا تملك شيء رغم امتلاكها للثروات الهائلة والموارد الاوليه الضخمة والتي تفتقد القرار السيادي المستقل للتحكم بها والاستفادة من عوائدها.
لقد عززت مرحله العولمة التي يعيشها العالم من موقف الدول الكبرى لأنها تهدف الى سيادة نمط واحد من القيم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية في العالم من خلال فتح الأسواق والحدود وأزاله القيود والعوائق سواء كانت عوائق جمركيه او حدود جغرافيه، وفعلا تم لها ما أرادت حيث انفتح العالم على القيم الغربية سواء كانت قيم اقتصاديه-وذلك من خلال انصهار كثير من الدول في إطار المنظومة الاقتصادية الراسماليه -، او قيم اجتماعيه- حيث بدأت الأفكار والعادات الغربية تغزو العالم حتى الدول التي كانت تعتز بقوميتها وتتشدد في ذلك مثل روسيا وإيران والتي بدأت مظاهر العولمة تغزو شبابها وشوارعها وبدأ إيقاع الحياة السريعة يدخل إلى عالمها من أوسع أبوابه، ان مما عزز وسهل اندماج الدول في إطار العولمة هو التطورات التقنية الحديثة التي ترافقت مع بدايه العقود الأخيرة من القرن الماضي وبداية القرن الجديد كانتشار الانترنت والفضائيات ونظم الاتصال والمواصلات الهائلة التقنية والتقدم، مما سهل انفتاح الأجيال على ما يدور في أرجاء المعمورة بكل سهوله ويسر، فاشتعلت حمى الموضة سواء كان ذلك في اللباس او الطعام او الأثاث او السيارات او الهواتف المحمولة….الخ من جوانب الحياة المختلفة.
ان نهاية الحرب الباردة أشعلت حروبا مختلفة ومن أنواع متعددة منها الحروب السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية بل حتى الثقافية والحضارية والتي تفرض على العقلاء في العالم التنادي لضبطها وعدم انفلاتها من عقالها، نعم إنها نهاية حرب واحدة ولكنها بداية حروب كثيرة ومن أنواع مختلفة.
أحدث التعليقات