مقال: منهج الفتوى في المعاملات المعاصرة بين التدرج والصورية

مقال:

منهج الفتوى في المعاملات المعاصرة بين التدرج والصورية

سامي السويلم

موقع المجلس العام للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية

الرابط: http://www.cibafi.org/NewsCenter/Details.aspx?Id=11350&Cat=12&RetId=0

نجحت المؤسسات الإسلامية في تقديم عدد من الحلول المالية للمعاملات المعاصرة. لكنها في خضم المنافسة وتحت ضغط الواقع لجأت إلى معاملات تندرج ضمن الحيل الفقهية التي تعتمد على صورية المعاملة دون النتيجة والهدف المقصود منها.

ومبررات الأخذ بالحيل عند القائلين بها تنتهي إلى أنه لا يوجد بديل للحيلة سوى الوقوع في الربا الصريح، وهو في نظرهم شرٌ من الحيلة، لأن الحيلة تحتفظ بجزء من المشروعية ولو كان صورياً، أما الربا فهو فاقد للمشروعية تماماً. والبحث عن البديل يتطلب وقتاً، وقد يوجد وقد لا يوجد، والمؤسسات الإسلامية لا تستطيع الانتظار إلى حين التوصل للبديل لأنها إن فعلت اكتسحها تيار الرأسمالية الجارف.

فالأخذ بالحيل ينتهي إلى الواقعية في إصدار الأحكام والاستجابة لضغوط الواقع بإيجابية. ولكن هل هذا هو المنهج الوحيد للتعامل مع ضغوط الواقع؟ ألا يوجد بديل أفضل؟
التدرج في التطبيق هو الجواب عن هذا السؤال. فهو منهجٌ قد عمل به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وطبقه الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز  وأقره عليه علماء عصره، فكان إجماعاً منهم على مشروعية التدرج عند الحاجة إليه. وإذا كان عمر بن عبد العزيز احتاج للتدرج وهو في عصر التابعين، فكيف بنا في هذا العصر؟

أما الحيل فهي تخالف ما أجمع عليه الصحابة  من تحريم الحيل وذمها، وتتابع على ذلك الأئمة بحسب اجتهادهم، ومن أبرزهم الإمام أحمد بن حنبل، حتى قال الإمام ابن قدامة في المغني: “ثبت من مذهب أحمد أن الحيل كلها باطلة”. فكيف يُنسب بعد ذلك للإمام أحمد من الحيل ما لا يستسيغه ذو فطرة سليمة؟

موازنة بين المنهجين
والمقارنة بين التدرج والحيل تكشف جملة من الفروق الجوهرية بينهما:
١. فالتدرج تمسك بالأهداف وثبات على الغايات النبيلة للاقتصاد الإسلامي، مع مرونة مرحلية في الوسائل والإجراءات. أما الأخذ بالحيل فهو يجعل الإجراءات واجبة التنفيذ في الحال، أما الأهداف فهي مغيبة، أو على أحسن الأحوال مؤجلة إلى أجل غير مسمى.
والصعوبات في الواقع ليست في جانب الأهداف وإنما في جانب الإجراءات والمتطلبات الفنية التي قد يتعذر استكمالها في الظروف الحالية. فالحاجة للمرونة قائمة في جانب التطبيق وليس في جانب الأهداف. وهذا يعني أن الأخذ بالحيل قلبٌ للأمور، لأنه يشدد في الإجراءات ويتساهل في الأهداف، على عكس متطلبات الواقع.

2. والتدرج يعتمد في نجاحه على الحافز الذاتي للأفراد، لأنه يخاطب العقل والضمير قبل أن ينتقل إلى الإجراءات الشكلية. أما الحيل فهي قائمة على اعتبار الشكل والصورة دون الحقيقة والغاية، ولذلك يتوقف نجاحها على وجود السلطة الرقابية وليس الوازع الداخلي.
ولذلك لا تنتشر الحيل إلا بعد ظهور التمويل الإسلامي وسيادته وليس قبل ذلك. وهذا يكشف وجه التناقض في منطق الحيل. ففي حين يتم تبرير الحيل بضعف المؤسسات الإسلامية وحاجتها إلى الدعم، نجد أن المؤسسات التي أنشئت قبل ٣٠ عاماً، حين كانت في أضعف حالاتها، كانت أكثر التزاماً بالمبادئ وأبعد عن الحيل مما هي عليه اليوم. والسبب أنها كانت تخوض معركة وجود ضد نظام الفائدة السائد، وكان سلاحها في ذلك هو مبادئ الاقتصاد الإسلامي التي يتميز بها عن النظام الربوي. ثم بعد أن حسمت المعركة لصالح التمويل الإسلامي واكتسب الاعتراف الجماهيري والرسمي، أطلّت الحيل برأسها وشرعت في الظهور المنظم، وبدأ التراجع عن المبادئ نفسها التي كانت هي مصدر النجاح ابتداء.

3. والتدرج يفترض أن الضعف والانحراف في المجتمع الإسلامي طارئ ومؤقت، وأن الخير باق في أمة محمد صلى الله عليه وسلم. أما الحيل فهي تفترض أن الانحراف مستمر والاستعداد للإصلاح ضعيف، وأن “فساد الذمم” يتطلب دائماً اللجؤ للحيل. ولا يزال المدافعون عن الحيل يحتجون بفساد الذمم منذ القرن الثاني الهجري إلى اليوم، مع أن النبي  قال: “إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم”.

والواقع أن الحيل من أهم أسباب فساد الذمم وليس العكس. فالحيلة تعلم المرء إظهار ما يخالف الواقع والقول المناقض للعمل. فالعميل يريد الحصول على النقد حالاً ليدفع أكثر منه مؤجلاً، فيقال له: لا تقل أريد نقداً ولكن قل: أريد سلعة، لتحصل بعد ذلك على النقد. مع أن العميل ليس له غرض في السلعة ولا يريدها أصلاً. فكانت النتيجة هي غرس بذور الانحراف الأخلاقي وتغييب الشفافية، باسم الشريعة الإسلامية لبالغ الأسف. فمن يبرر الحيل بفساد الذمم ينطبق عليه قول القائل:

نعيـب زماننا والعيب فينا                               ومـا لزماننا عيب سوانا
ونهجوا ذا الزمان بغير ذنب                             ولو نطق الزمان لنا هجانا

وهو أكثر مرونة وأكثر مصداقية في الوقت نفسه. لكن التدرج يحتاج لرؤية واضحة وتخطيط جاد وعزيمة ماضية، وهو ما تفتقده للأسف كثير من المؤسسات الإسلامية.

د. سامي السويلم
نائب مدير المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب