التنمية مفهوم حديث معاصر يشير كثير من الباحثين إلى وروده بشكل قليل في كتابات الاقدمين وهو كذلك لم يرد في القران الكريم والسنة المطهرة صراحة وبذات المسمى ، ولكنه مما استجد في عصورنا الحاضرة حيث يشير إلى التقدم والتطور والنهوض والارتفاع وتغيير الواقع بواقع أفضل ويعتبر مصطلح “العمارة “، و”التعمير” من أفضل المصطلحات تعبيراً عن التنمية الاقتصادية في الإسلام .
ومفهوم التنمية في الإسلام كما أشار بعض الباحثين يعني :” ” استغلال المجتمع لخيرات الأرض بالعمل الصالح تنفيزاً لشرط الخلافة والتمكين ، وتحويلها إلى سلع وخدمات لإشباع الضروريات عند حد الكفاية لكافة أفراده عبر تشغيل كامل وتوزيع عادل ” . وبعكس ذلك يكون المجتمع في حالة من التخلف ، وهذه الحاله عرفها بعض أيضا الباحثين بأنها :” عدم قدرة المجتمع (المستخلف) للوفاء بحاجاته الضرورية . مما أدى إلى نقص في حد الكفاية النسبى لأفراده ، بسبب عدم قيامه بواجب الخلافة (عمارة الأرض ) وعزوفه عن استثمار الموارد المتاحة ” ، وقيل هي نقل المجتمع من الوضع الذي لا يرضاه الله، إلى الوضع الذي يرضاه. وقد عد بعض الفقهاء أن التنمية في الإسلام تدخل في إطار الواجبات التي تقع على عاتق المسلم بل واعتبر الإسلام السعي إلى الرزق وخدمة المجتمع وتنميته أفضل ضروب العبادة.
إن التنمية الاقتصادية في الإسلام فريضة وعبادة بل هي من أفضل اشكال العبادة والمسلمون مقربون إلى الله تعالى بقدر تعميرهم لمجتمعهم وأخذهم بأسباب التنمية الاقتصادية وقد لخص سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه نظرة الإسلام إلى الإنتاج والتنمية بقوله (والله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال وجئنا بغير عمل فهم أولى بمحمد منا يوم القيامة). وهذا يشير إلى أهمية التطور والنهوض والرقي في الإسلام ويدل على اهتمامه برفع مستوى الأمة المسلمة ورفعها إلى أرقى المستويات على الصعد كافه ، واستشهد الفقهاء بقول الله عز وجل {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} [هود :61]. على أنها تفيد الوجوب، والطلب المطلق من الله يكون على سبيل الوجوب، وقال بعض العارفين بان في هذه الآية إشارة إلى وجوب عمارة الأرض بالزراعة والغرس والأبنية.
وقد وفر الإسلام الحوافز التي تجعل الإنسان يسعى لتحقيق التنمية من خلال منهجه العظيم في التربية وحث المربين على غرس قيم حب العمارة والنمو في نفوس الأجيال المختلفة حيث ان الله لم يخلق الإنسان في هذه الحياة عبثا بل خلق لرسالة يؤديها هي أن يعمر هذه الأرض بالعبادة والشكر لله عز وجل ليلقى ربه في نهاية المطاف بقلب سليم ونفس مطمئنة. قال تعالى (فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) ويقول صلى الله عليه وسلم (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) وورد في الأثر انه صلى الله عليه وسلم قال لمن اخشوشنت يداه من كثرة العمل (هذه يد يحبها الله ورسوله). ، ووضع أيضا الحوافز الأخروية والروحية، التي ترغب في العمل وتحث عليه، ومن ذلك قول الله تعالى {ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون} [الأحقاف:19]. وقوله تعالى {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا}[الكهف:30. ومن ذلك قول النبي [:«ما من مسلم يغرس غرسًا ، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له به صدقة” . ومن ذلك أيضا قول النبي [:«من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وما أكلت العافية منه له به صدقة”.
لقد وضع الإسلام ركائز وقواعد هامة للتنمية يستند إليها المسلم في أدائه لرسالته في النهوض بأمته ومجتمعه ومنها :
ـ الاستخدام الأمثل للموارد والبيئة والطبيعة التي وهبها الله تعالى للإنسان وسخرها له.
ـ الالتزام بأولويات تنمية الإنتاج، والتي تقوم على توفير الاحتياجات الضرورية الدينية، والمعيشية، لجميع أفراد المجتمع دون إسراف أو تقتير، قبل توجيه الموارد لإنتاج غيرها من السلع.
ـ إن تنمية ثروة المجتمع وسيلة لتحقيق طاعة الله، ورفاهية المجتمع وعدالة التوزيع بين أفراد المجتمع. ومن هنا يتبين الربط المباشر لعملية التنمية بالعبادة، والمستمد من قوله تعالى{هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} [هود:61
ولاشك ان لهذا الفعل العظيم غايات وأهداف سامية قصدها الشارع الحكيم من هذا أبرزها :
1. توظيف واستخدام كافة الموارد التي أودعها الله في الطبيعة لتحقيق السعادة للإنسان في حياته الدنيا تمهيدا لتوظيفها في بلوغ هدفه النهائي وهو رضا الله سبحانه وتعالى . لان ابن آدم محاسب على أفعالة وتصرفاته قال تعالى (ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) الجاثية آية 12.
2. تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي للأمة واستخدام ثمار هذا التقدم ، لنشر مبادئ وقيم الإسلام العظيمة متمثلة في السلام والعدل والعلم والحلم والاحترام …. حيث تعتبر التنمية الاقتصادية ليست عملية اقتصادية قائمة على “إلانتاج فقط” وإنما هي عملية إنسانية تبتغي تنمية الإنسان وتقدمه المادي والروحي معا.
والإسلام، بهذين المرتكزين، يقف موقفًا مغايرًا تمامًا للمرتكزات الوضعية في التنمية، والتي تستمد من فهم الفكر الاقتصادي الوضعي بطبيعة المشكلة الاقتصادية التي ترى أن الأصل هو ندرة الموارد، وان هناك مقابلة غير متكافئة بينها وبين الموارد المتاحة وبالتالي عدم كفايتها لإشباع حاجة الإنسان، بينما نجد الأصل في الإسلام هو وفرة الموارد الطبيعية وكفايتها لتلبية حاجات البشر جميعًا مصداقا لقوله تعالى {وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار* وآتاكم من ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لاتحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} (إبراهيم : الآية 33، 34)
وتمتاز التنمية في الإسلام بمميزات تجعلها تختلف عما تقدمة النظم الوضعيه منها ومن ابرز هذه الخصائص : الشمولية والتوازن والعدالة وتامين الحاجات الضرورية للإنسان ، إن التنمية الاقتصادية في الإسلام غايتها الإنسان أولا وفي النهاية المجتمع ككل ليحيا سعيدا برضا الله ويحقق الغايات والأهداف التي أرادها له الشارع الحكيم .
نشرت في الراي العدد 14401
أحدث التعليقات