لقد وضعت الشريعة السمحة الضوابط والقيود على التحركات الإنسانية والأفعال البشرية وذلك بما يعود بالنفع والفائدة على بني الإنسان وبما يضمن لهم الحياة السعيدة والنتيجة الحسنة لهذه الأفعال والتصرفات والتي توفر لهم رغد العيش وراحة البال ولكنهم عندما انحرفوا عن الطريق وحادوا عن جادة الصواب أصابهم غضب من الله في أموالهم وأجسامهم وأنفسهم التي بين جنبيهم ، لان مخالفة شرع الله ليس لها إلا نتيجة واحدة أثبتها القران الكريم بقوله تعالى :” ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ” ، فظهور المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية إنما هو نتيجة حتمية للإعراض عن ذكر الله ، ومن ابرز التحليلات المنطقية للازمات الاقتصادية المعاصرة التي تترنح البشرية تحت وطأتها هو مخالفه قواعد وأحكام الاقتصاد في الإسلام التي بينها الشارع الحكيم ومنها المضاربة بالنقود وتحويلها إلى سلعه وأداه والابتعاد في ذلك عن قواعد الصرف التي وضعها الإسلام والتي تحكم التعامل بالنقود .
لقد أصبحت المضاربة على العملات من أكثر الممارسات شيوعًا في هذه الأيام داخل أسواق المال ، ولعل المضاربة بأبسط معانيها المالية هي شراء عملة يتوقع المضاربون أن يرتفع سعرها حيث يبيعونها وقت ارتفاع سعرها، أو بيع عملة يتوقع هبوط في سعرها أو توقع مزيد من الهبوط في سعرها تفاديًا للخسارة أو تقليلا منها، وأكثر المضاربة على العملات إنما تتم بنظام الهامش ، حيث يتاح للمستثمر أن يضارب بعشرات أضعاف ما يملك من أموال مقترضًا هذه الأضعاف المضاعفة من جهات مختلفة كالسمسار مثلا أي انه يضارب بأموال لا يملكها .
لقد أصبحت المضاربة في الأموال في عالم اليوم من اكبر وابرز وسائل التلاعب بالأسعار, وطريقة من طرائق نهب الأموال وغصبها وقد أصبحت المضاربة الجشعه في الأموال من وسائل رفع الأسعار وإحداث الانهيارات المالية بل تطور الأمر حتى غدت وسيلة من وسائل السيطرة على اقتصاديات الدول وبالتالي ابتزازها بل وتدميرها سياسيا واقتصاديا إذا اقتضى الأمر .
من اجل ذلك كله وضع الإسلام ضوابط كثيرة تحول دون التلاعب بالنقود واستخدامها كسلعه تباع وتشترى أو اتخاذها أداة من أدوات التحكم والابتزاز أو أداة هيمنة وسيطرة مالية ، حيث إن شريعتنا الغراء ومن خلال النصوص الكثيرة حرمت ومنعت ورفضت كل ما من شانه الأضرار بالآخرين أو غشهم أو خداعهم وقد جاء في الحديث الشريف: “لا ضرر, ولا ضرار”, وتحريم الغش والتغرير، كما في الحديث النبوي الشريف القائل :” من غشّ فليس منا”, وديننا الحنيف مشحون أيضاً بالأدلة الشرعية، والقواعد الكلية, الدالة على حرمة المال, وعدم جواز التعدي عليه بأي أسلوب ….، هذا فيما يتعلق بعموم المعاملات أما فيما يتعلق بموضوع الصرف فقد حدد الإسلام قواعد الصرف والتي يعتبر الإخلال بها خروجا عن طريق الحق وإتباع هوى الشيطان وتدمير لبنية الاقتصاد والإضرار بالأمة والقواعد الرئيسية في الصرف الاسلامي الصحيح هي : التقابض الفوري في مجلس العقد والتماثل عند اتحاد الجنس ، وهذه القواعد الحاكمة لتبادل العملات بينها حديث عبادة بن الصامت: حيث قال: “سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عينًا بعين فمن زاد أو ازداد فقد أربى”. رواه مسلم وغيره.وكذلك حديث عمر بن الخطاب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء” أي إلا يدًا بيد. رواه البخاري ومسلم…. لذا فان جعل العملات مجالا للمضاربة أمر فيه ضرر بالغ باقتصاديات الدول التي يتم المضاربة بعملتها ويظهر هذا الأثر في الغالب جليا على اقتصاديات الدول الفقيرة والنامية والتي تصل أحيانا إلى حد الدمار والهلاك ، وقد تبين لعلماء الاقتصاد والفقه معا أن غالب آثار الاضطرابات في العملات المحلية والدولية لا يأتي إلا من جراء جعل العملات مجالا للمضاربة والتسليع .من اجل ذلك فقد صدرت فتاوى كثيرة من قبل فقهاء وعلماء الاقتصاد الإسلامي تحرم المضاربة بالنقود واتخاذها وسيلة لجني الأرباح الفاحشة والثراء على حساب الآخرين .
نشرت في السبيل العدد1135 تاريخ 5/2/2010
أحدث التعليقات