إن اكتناز المال وحجبه عن التداول هو من المرفوضات في اقتصاد إسلامي يهدف إلى إنعاش الواقع الاقتصادي ويتصدى للركود والكساد حيث تحث النظرية الاقتصادية الإسلامية على تحريك المال واستغلاله في الفعل الاقتصادي وذلك من خلال قنوات كثيرة وأدوات عديدة وذلك حتى لا يبقى المال دولة بين الأغنياء ويحرم منه الفقراء ، وقد قامت النظرية الاقتصادية الإسلامية بالتنظير لذلك من خلال تعبئة كافة الموارد والطاقات المتاحة في الطبيعة من مالية وبشرية وطبيعية …، ومن المعلوم إن هذه التعبئة لا تتم إلا من خلال الاستثمار والاستغلال الحقيقي لكل ما هو متاح من موارد أمام الإنسان المسلم متوسما بذلك رضا الخالق جل وعلا ومبتغيا المنفعة الدنيوية ليتقرب بها إلى الله من خلال أبعاد ايثاريه ومقاصد أخروية يضعها نصب عينية ، والاستثمار في الاقتصاد الإسلامي يحتل جانبا عظيما من الأهمية حيث كان هو الغاية الأولى التي قامت من اجلها المصارف الإسلامية حيث كانت أدواتها الأصيلة والأصلية لاستثمار المال هي صيغ التمويل الإسلامي المعروفة كالمضاربة والمشاركة والاستصناع والتأجير والمرابحة وذلك حتى لا يصبح المال منحازاً لطرف على حساب طرف آخر فالتشارك في الربح والخسارة وتحمل المخاطرة وإتباع قاعدة الغنم بالغرم هي ثوابت الاستثمار الإسلامي السليم ، وتحمل المخاطرة أمر هام في استثمار المال لأنه الدافع الرئيس للبذل والعطاء وحسن الإدارة والتفاني في العمل والإخلاص فيه ومن المفيد هنا تعريف المخاطرة والتي قال عنها الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «المخاطرة مخاطرتان: مخاطرة التجارة، وهو أن يشتري السلعة بقصد أن يبيعها ويربح ويتوكل على الله في ذلك، والخطر الثاني: المَيْسِر الذي يتضمن أكل المال بالباطل…” ، وأما المخاطرة في المعنى الاقتصادي فهي توقع اختلافات في العائد بين المخطَّط، والمطلوب، والمتوقَّع حدوثه وكذلك فإنها تعني احتمالية الخسارة من قِبَل المستثمر ، ومن النافع هنا أن نعرف الاستثمار فالاستثمار في المفهوم الاقتصادي له عدة معاني كما أوردها كثير من الباحثين الاقتصاديين حيث انه ” التنازل عن السيولة التي يمتلكها الفرد في لحظة معينة ولفترة معينة من الزمن؛ قد تطول أو تقصر، وربطها بأصل أو أكثر من الأصول التي يحتفظ بها لتلك الفترة الزمنية بقصد الحصول على تدفقات مالية مستقبلية.وهو كذلك يعني توظيف للنقود لأي أجل في أي أصل أو حق ملكية أو ممتلكات أو مشاركات محتفظ بها للمحافظة على المال أو تنميته، سواء بأرباح دورية أو بزيادات في قيمة الأموال في نهاية المدة أو بمنافع غير مادية. وأما الاستثمار من منظور إسلامي فانه يمكن أن يعـــرَّف بأنه ” توظيف المسلم ماله أو جهده في نشاط اقتصادي مشروع، بهدف الحصول على نفع يعود عليه أو على غيره في الحال أو المال”.
إن مبدأ المخاطرة في الاستثمار يؤدي وبغير شك إلى تحقيق العدل بين العمل والجزاء وبين الحقوق والالتزامات وبين المغانم والمغارم. فاستحقاق الربح في أي عملية استثمارية إنما منشؤه تحمل المجازفة والمخاطره من خلال بذل الجهد والعمل الذي يحقق نماءً ذا قيمة اقتصادية. والعمل المخاطر كذلك يتميز باستعداد المستثمر لتحمُّل نتائج الاستثمار ربحاً أو خسارة، ولولا هذا الاستعداد لتحمُّل عبء المخاطرة لما قام الاستثمار من الأصل ومن ثم لما نشأ الربح؛ فالاستعداد لتحمُّل المخاطرة شرط ضروري للسلامة الشرعية كي يطيب الربح في أي عملية استثمارية.
إن صيغ الاستثمار القائمة على المضاربة والمشاركة أصبحت اليوم نادرة الحدوث في المصارف الإسلامية وذلك لأنها تتطلب مقومات عديدة يجب توافرها في العملاء كالصدق والامانه والإخلاص في العمل وحسن الإدارة والإفصاح والشفافية والحرص على تنمية الإرباح وغيرها من الصفات الأخلاقية التي أصبح عدم توافرها لدى غالبية العملاء يشكل عائقا هاما من عوائق الاستثمار الحقيقي في المصارف الإسلامية ، إن هذا الواقع جعل الاستثمار من خلال المصارف الإسلامية يقتصر فقط على الأساليب التي تضمن هامشا محددا من الربح وهو ما يتوفر في صيغة بيع المرابحة للآمر بالشراء والتقليل من صيغ التمويل الاستثماري التي تعتمد على المخاطرة والتشارك في الربح والخسارة ، وتتعالى الأصوات الاقتصادية الإسلامية اليوم داعية إلى العودة إلى صيغ التمويل الإسلامية الحقيقية كالمضاربة والمشاركة وذلك تحقيقا للغاية الأولى التي قامت عليها المصارف الإسلامية حتى لا يفتح المجال للمشككين وادعائهم بزوال الفرق بين المصارف الإسلامية والتقليدية في هذا الإطار .
نشرت في السبيل العدد 1128تاريخ 29/1/2010
أحدث التعليقات