لم يترك الإسلام الأمور المعاشية التي يتعامل معها الإنسان على عواهنها دون قيود او ضوابط وذلك بهدف التنظيم والترتيب واستقامة الأمور لان النفس البشرية تميل نحو الانفلات والابتعاد عن القيود وفي حال تركت هكذا فانها تتحول إلى نفس بهيمية والعياذ بالله لا تليق بالإنسان كمخلوق مكرم أراد له الله أن يكون خليفتة في هذه الأرض ، يعمرها ويبنيها ويعبد الله فيها براحة وأمان ، لذا فقد وضع الإسلام الضوابط النافعة للحرية بكافة مجالاتها الاجتماعية والسياسية والفكرية والأخلاقية وكذلك الاقتصادية ، وما يهمنا في هذا المقام هو الحرية الاقتصادية المنضبطة .
وعند مقارنه النظام الاقتصادي الإسلامي بغيرة من النظم في هذا المجال نجد أن النظام الرأسمالي أرادها حرية بلا قيود وبلا ضوابط وجعل للفرد الحرية المطلقة بالإنتاج والبيع والتوزيع والكسب والإنفاق دون حدود او قيود او موانع فالأمر يعتمد عنده على (الشطارة ) بغض النظر عن الوسيلة المتبعة في تحقيق الهدف والذي هو جمع المال وتكديسه وتراكمه واستخدامه لاستغلال الآخرين واستعبادهم وإذلالهم وهذا ما لا يستطيع النظام الرأسمالي إنكاره حيث طبقه خير التطبيق عندما استعمرت الرأسمالية العالمية دول العالم الثالث ونهبت خيراتها واستغلت مواردها دون رادع او ضابط وأضعفتها وأنهكتها وعادت لابتزازها من جديد كما نرى اليوم مما أدى إلى ظهور مساوئ كثيرة لهذا النظام أبرزها اختلال التوازن في الثروات بين الأفراد وانقسام المجتمع إلى قسمين أقلية تمللك كل شيء وأكثرية لا تملك شيء ، وأدى ذلك إلى ولادة الأزمات الواحدة تلوى الأخرى كأزمة البطالة والكساد ناهيك عن الأزمات الأخلاقية والاجتماعية كالإدمان والقتل والانتحار والطلاق والاغتصاب وتعاطي المخدرات والمسكرات ….الخ وبالتالي نشؤ الأزمات الكبرى كما هو الحال الآن حيث يعيش العالم أزمة اقتصادية كبرى أدت إلى دمار وانهيار كثير من الشركات الكبرى والبنوك العظمى ، وساهم ذلك أيضا بظهور قيم اجتماعية خسيسة كالرشوة والغش والكذب والتدليس وأعظمها الربا كل ذلك بهدف جمع المال وتكديسه .
وكذلك هي ليست حرية كما أرادها النظام الاشتراكي مصادرة للفطرة الإنسانية ومنعها من التملك الذي هو جزء من طبيعتها البشرية فالإنسان بطبيعته يميل إلى حب امتلاك الأشياء والتمتع بها وكانت نتيجة هذا المنع هو انهيار هذا النظام نتيجة للاحتقانات التي ورثها في نفسية الأفراد الذين ساروا على نهجه واتبعوا هواه حيث أدى ذلك إلى قيام طبقتين متصارعتين هما طبقة العمال الكادحين الذين ليس لهم إلا بقدر حاجتهم وطبقة الحكام وأصحاب الدخول الكبيرة من الاحتكاريين ، لقد ساهم هذا الانقسام بخلق المجاعات وانتشار الرذائل والأمراض الاجتماعية والتي كان لها نتيجة واحدة هي خراب النظام وانهياره .
أما في الاقتصاد الإسلامي فالأمر مختلف فقد انعكس تمام الشريعة وكمالها على الحرية الاقتصادية والنشاط الاقتصادي للإنسان المسلم ، فالإسلام منع مصادرة الإرادة الإنسانية والتأثير عليها بما يضرها ويقيد من دورها في تحقيق المنفعة وهذه المنفعة هي المنفعة الحلال والكسب هو الكسب المشروع الذي من خلاله يتقرب العبد إلى ربة أي انه تجسيد لمعنى العبودية والطاعة لله عز وجل ، وخاصة إذا ما علمنا ان الأصل في الأشياء هو الإباحة فلم يمنع الإسلام الإنسان المسلم من ممارسة أي لون من ألوان النشاط الاقتصادي ألا تلك التي تتعرض مع أهدافه وكذلك تتعارض مع الفطرة الإنسانية السليمة وأيضا تسبب الضرر العام على المجتمع برمته كالربا والاحتكار والغش والغبن والغرر والغصب والإكراه ، وذلك انسجاما مع قاعدة الإسلام العظيمة على لسان نبينا الكريم :” لا ضرر ولا ضرار ” ، مدفوعا بقيم عظيمة كقيمة الإيثار والتعاون ومحبة الآخرين حيث ” لا يؤمن أحدكم إلا بعد أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ” عندها تتهذب نفسه وتصفو سريرته ويعرف أن هذه الضوابط إنما هي لخدمته وخدمة من حوله من إخوانه المسلمين .
عندما يدرك الإنسان المسلم أن ملكية المال في الإسلام هي حالة معينة تسمى الاستخلاف أي انه ليس سوى مؤتمن على هذا المال فانه يعرف أن علية القيام بعبئ هذه الأمانة وأداء ما علية فيها من حقوق وواجبات لكي يرضي خالقه فينال رضاه ومحبته عندها يؤدي زكاة ماله ويدفع الصدقات ويقدم ما يستطيع منه لإخوانه الفقراء والمحتاجين بكل طواعية ورضا مدركا أن في ذلك الأجر والثواب ، وبالمقابل فقد سمح الإسلام بقيام الملكية الجماعية التي تملكها الأمة ممثلة بالدولة والتي تهدف إلى تقديم الخدمات العامة التي تعود بالنفع على الأفراد كالتعليم والصحة والنقل والأمن والدفاع وغيرة .
ومن ضوابط الحرية في الاقتصاد الإسلامي الامتناع عن القيام ببعض التصرفات التي تؤدي إلى ضياع المال وتلفه كالإسراف والتبذير والبذخ والترف ….بالمقابل أمر بعدم البخل والتقتير ، ” ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ” ، وطلب كذلك تحديد الأولويات كالضروريات والحاجيات والتحسينيات فلا يقدم تحسيني على ضروري او حاجي وهكذا ، عندها تستقيم الأمور ويصبح النشاط الإنساني للإنسان المسلم منسجما مبدأ الحلال والحرام غايته رضا الله وخدمة الأمة عامة …… إن ضوابط الحرية الاقتصادية وقيودها في الإسلام تحتاج إلى كثير من البحث والتفصيل وهذا ما سيكون في مقالات قادمة إنشاء الله .
نشرت في السبيل العدد 953 تاريخ 31/7/2009
أحدث التعليقات