لا شك أن الغاية التي يطمح لها صاحب رأس المال واضحة جلية لا يستطيع عاقل أن يجهلها او يتجاهلها وهي الرغبة في الحفاظ على ماله في حرز وأمان إضافة إلى رغبة أكيدة في نمائه وازدياده وهذه هي فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ، ولكن وفي ظل المتغيرات الكثيرة التي عصفت وتعصف بالبشرية من الناحية الاقتصادية والتي غالب أسبابها هو البعد عن منهج الله القويم الذي رسم معالمه الله سبحانه وتعالى وأقرته وفصلته السنة النبوية المطهرة وظهر من خلال قواعد اقتصادية إسلامية غاية في الدقة والإحكام والوضوح ، فعندما ابتعدت البشرية عن هذه القواعد وجنحت نحو غايات وأهداف بعيدة كل البعد عن النبل والأخلاق انحرف مسارها الاقتصادي عن الطريق المستقيم فوقعت في الشرك وغرقت في أتون الأزمات التي تعصف بها بين الحين والآخر مدعية أنها (دورة اقتصادية ) لابد منها وان إصلاح الخلل يتم بطرق تلقائية من ذات الأنظمة التي اتخذتها دينا لها .
ظهر في العالم نظم اقتصادية وضعية مختلفة كان أبرزها ما تعايشت معه البشرية ردحا طويلا من الزمن كنظم اقتصادية تحتكم إليها الدول وتسير في فلكها ، وابرز هذه النظم هي النظام الاشتراكي والنظام الرأسمالي ، أما النظام الاشتراكي فقد قام على أسس اختزلت كثيرا من الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها أبرزها رغبته الجامحة وحبة للتملك فقد ألغت الملكية الخاصة ومنعت التملك الفردي واعتبرت كل ما هو فوق الأرض وفي باطنها هو ملك للأمة تتحكم فيه الحكومة المركزية وتقسم عائداته على الأفراد كل حسب حاجته وكل حسب طاقته وفق مراحل زمنية مختلفة يمر من خلالها النظام خلال مسيرة تطوره ونمائه ، وفي هذه الحالة أصبح الإنسان عبارة عن أله تعمل وتكدح وتنتج بلا هدف وبلا غاية وبلا طموح ، فقد قتل الإبداع في نفوس الأفراد وماتت الرغبة في التطور والابتكار وفي هذه الحالة لم يكن للفرد في ظل هذا الواقع حاجة لاقتناء المال فهو ملك للأمة وليس للفرد الحق في الحصول علية إلا بما يقيم أوده ويقضي وطره ليس إلا ، إن هذا الواقع أحدث شرخا كبيرا في داخل النظام ساهم بانفجاره وإعلان وفاته على الفور .
وفي الطرف الآخر النظام الرأسمالي الذي أطلق للحرية الفردية العنان وجعلها تطغى على مصلحة المجتمع فسادت قيم الأنانية وحب التملك والسيطرة وتطور الجشع والطمع في النفوس مما جعل الأفراد يقبلون على جمع المال والثروة وتكديسها بشكل جنوني فسالت أودية المال نحو جيوب فئة قليلة لا تتعدى 1% من المجتمع وحرم منها النسبة العظمى والتي تجاوزت الـ 90% في بعض المجتمعات مما خلق فريقين في المجتمعات احدهما غني ويزداد مع مرور الأيام غنا ، وآخر فقير ويزداد فقراً ، ولكن انفلات الأمور من عقالها وخروج الأمور عن طورها الصحيح وضع العالم على شفير القيامة المالية وخصوصا في الدول التي تعتبر معاقل للرأسمالية ونظام السوق المفتوح ، فشهوة الناس الجامحة في الحصول على السيولة جعلت منابعها تجف وجعلت الناس تعجز عن الوفاء بما عليها من التزامات حينها وقعت الكارثة وبات العالم في حالة انكماش للطلب يعززها نقص السيولة ، وتطور الأمر حتى بات قاب قوسين او أدنى من حالة الكساد التي يزداد فيها عرض الإنتاج ويقل – بل يكاد ينعدم – الطلب مما يؤدي إلى انخفاض الأسعار وبالتالي تحقيق خسائر فادحة في المنشات الإنتاجية مما يجعلها تقع في فخ الإفلاس ويرمي الاقتصاديات بحالة من الركود والخمول التي تنعكس على الفرد المستهلك بالدرجة الأولى وهذا ما حصل فعلا .
ولا يعرف قيمته الشيء وأهميته إلا حين مقارنته بضده ، فالناظر في قواعد الاقتصاد الإسلامي وأسسه ومبادئه يعرف انه نظام يقوم على الأخلاق بالدرجة الأولى وكل ما قام على الأخلاق فليس له إلا الديمومة والاستمرار والبقاء فهو يرفض الغش والخداع والأنانية والجشع والطمع ويرفض الربا( الفائدة) التي هي أساس خراب الأنظمة الاقتصادية ويضع البديل عنها من خلال نظام المضاربة والمشاركة في الربح والخسارة بين الممول وبين المستثمر (المقترض) حينها يبذل الجميع جهده للعمل والجد والاجتهاد بغية تحقيق الربح المشروع والكسب الحلال فيحقق بذلك أهدافا كثيرة أبرزها العمل الذي هو أمر واجب في الإسلام لا يجوز التقاعس عنه أو التكاسل فيه فالعمل بكل ما احل الله هو أمر محبب مرغوب فيه بل حض علية الإسلام وجعله واجب على المسلم القادر ، حيث أمر الله تعالى عباده بالعمل حين قال :” وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ” وحين قال نبيه الكريم :” من أمسى كالا من عملة أمسى مغفورا له ” والآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تحض على العمل كثيرة تكاد لا تعد ولا تحصى .
ومن أساسيات الأمن المالي في الاقتصاد الإسلامي هو تحريم الفائدة والتي تحقق عائدا مسبقا دون تعب أو جهد أو مخاطرة على رأس المال وهذا بحد ذاته دافع نحو التقاعس والخمول والكسل إضافة إلى انه يساهم في أكل أموال الناس بالباطل ويحقق العشوائية في انسياب الأموال وانتفاء قيمة العدالة من المجتمع إضافة إلى ما يحققه من غضب الله على الأمة التي تتعامل به وتتخذه شرعةً ومنهاجا ، وقد أدركت كثير من الدول والحكومات في العالم اليوم أن نظام الفائدة ( الربا) هو سبب دمار اقتصادياتها فقامت تدعو وتصيح إلى تطبيق نظام اقتصادي وفتح نوافذ مالية خالية من الربا وكأنها تقول بحال لسانها يجب تطبيق الاقتصادي الإسلامي وبأسسه ومبادئه كمخلص للعالم من ويلاته ومعاناته المالية والاقتصادية لأنه يحقق العدالة ويدفع نحو النشاط والعمل ويحافظ على التوازن بين مستوى الطلب والعرض مما يحقق الطلب الفعال الذي يرفع من مستوى التوظيف والتشغيل فيحقق حينها هدفا آخر هو العمالة والتوظيف والقضاء على البطالة التي أصبحت مشكلة عالمية تؤرق الحكومات وتقض مضاجع الأمم .
لقد بات العالم اليوم وفي ظل أزمته المالية يدرك أن المخرج هو تطبيق الأخلاقيات في التعامل كالشفافية والوضوح والابتعاد عن الطمع والجشع والاحتكار والغش ونبذ الفائدة وغيرها من القيم التي هي أساسيات الاقتصاد الإسلامي ، ويجب أن تدرك البشرية أن أمنها الاقتصادي والمالي الذي هو أساس الاقتصاد هو بالعودة إلى القيم والمثل والأخلاقيات ليس إلا .
نشرت في السبيل العدد916
أحدث التعليقات