رد مختصر على مقال دانيال بايبس حول الاقتصاد الإسلامي – بشر محمد موفق
يقول دانيال بايبس:
يرى كوران، الذي يُدرس الآن في جامعة دوك، أن الاقتصاد الإسلامي لا يعود لرسول الإسلام محمد ولكنه “تقليد مُبتكر مخترع” خرج للوجود في الهند في أربعينات القرن العشرين. إن فكرة نظام اقتصادي “إسلامي متميز وواعي بهويته الإسلامية هو أمر حديث جداً.” منذ قرن مضى كنا لنجد أكثر المسلمين علماً سوف يُفاجيء من فكرة “الاقتصاد الإسلامي.”
كانت الفكرة أساساً من بنات أفكار مفكر إسلامي هو أبو العلاء المودودي (1903-1979)، الذي كان يرى في الاقتصاد الإسلامي وسيلة وآلية لنيل العديد من الأهداف: تقليل العلاقات مع غير المسلمين، دعم وتقوية الإحساس الجماعي بالهوية الإسلامية، امتداد الإسلام إلى منطقة جديدة من النشاط الإنساني، والأخذ بأسباب المعاصرة دون تغرّيب (دون السير وراء الغرب أو محاكاته).
وأقول:
يزعم الكاتب أن الاقتصاد الإسلامي هو تقليد مبتكر مخترع، ليس له وجود ولا يعود للرسول (صلى الله عليه وسلم)، ويزعم أنه من ابتكار العالم المسلم أبي الأعلى المودودي قبل أقل من نصف قرن لا أكثر.
ومن المؤسف أن يتكلم بمسألة تاريخية قبل أن يقرأ التاريخ الإسلامي حيث إن من البديهيات أن يقرأ عن رسولنا وقائدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، حيث إنه عندما هاجر إلى المدينة المنورة نظر إلى السوق فوجد اليهود هم المهيمنين على السوق في المدينة ويفرضون الضرائب على من يدخل سوقهم.. فأمر ببناء سوق خاص بالمسلمين ويكون بلا ضرائب ولا أتاوات.. وأظن أن السوق من أهم مؤسسات أي نظام اقتصادي..
فليتنبه الكاتب لذلك.. فضلاً عن الأحداث الاقتصادية التاريخية الكثيرة التالية.
وقال في مقاله:
لقد انطلق الاقتصاد الإسلامي، بوصفه مبحث علمي أكاديمي، في منتصف الستينات؛ واكتسب زخما مؤسساتيا أثناء ارتفاع أسعار النفط في السبعينات، عندما أمد السعوديون ومصدّري النفط المسلمين الآخربن، الذين كانوا ولأول مرة يمتلكون أموالا ضخمة، المشروع “بمساعدة واسعة.”
وأقول:
إن كان يقصد بالمبحثية العلمية الأكاديمية لهذا النظام الاقتصادي، فإن العلوم لا شك أنها تمر بمراحل تربوية وأكاديمية مختلفة حتى النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي ما كان يمثله إلا ثلة متفرقة من الكتاب المفكرين الاقتصاديين من الكلاسيكيين وغيرهم.. في حين سبقهم إلى بحث المسائل الاقتصادية طائفة متكاثرة من فقهاء المسلمين والمفكرين الاقتصاديين المسلمين منذ القرن الثاني الهجري مثل كتاب الخراج لأبي يوسف، وهو مختص بأحكام الخراج والإدارة المالية للدولة المسلمة وقد كان مؤلفه قاضي القضاة في الدولة الإسلامية أي في قمة هرم القيادة التشريعية القانونية في عصره، وكذلك في القرن الثالث الهجري ككتاب الأموال لأبي عبيد، وهو كتاب مختص بأحكام المال وغره من الكتب في نفس الفترة، وكذلك في القرن الخامس الهجري كالإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين والوسيط وغيره، وكذلك القرن الثامن الهجري كالمقريزي وغيره والذي سطَّر دواوينَ كبيرةً تهتم بالمستجدات الاقتصادية وبحثها بشكل تحليل وصفي ثم ناقد، وكذلك كثير من العلماء كابن تيمية والشرواني وابن القيم وغيرهم.
وهذا كله فضلا عن كتب الفقه الإسلامي التي تتعذر عن العد والإحصاء من كثرتها وتفصيلاتها، والتي ضمت تفاصيل أحكام المعاملات والعقود والبيوع.
لكن من المؤسف أن الكاتب وقع في نفس خطئه الأول فألقى التهم جُزافاً دون أن يقرأ التاريخ العريق للمسلمين وعلمائهم ودولهم.
وقال في مقاله:
يزعم أنصار الاقتصاد الإسلامي أمرين أساسين: أن النظام الرأسمالي السائد قد فشل وأن الإسلام يقدم الحل والعلاج. لتقييم الزعم الأخير، يكرّس كوران انتباه شديداً لفهم النشاط الوظيفي الفعلي للاقتصاد الإسلامي، ويهتم اهتماما واضحا بإدّعاءاته الرئيسية الثلاثة: أنّه ألغى الربا أو نظام الفائدة، وحقق المساواة الاقتصادية، وأسّس أخلاقيات عمل راقية متفوّقة. ويجد كوران أن الاقتصاد الإسلامي قد فشل فشل كاملا في تحقيق أي منها.
وأقول:
لن أناقش قولك واتهامك بنفسي بل أتركه للاقتصاديين المعاصرين الذين واكبوا علم الاقتصاد الإسلامي في الوقت الراهن وعاصروا نشأة البنوك الإسلامية بصورتها النهائية الحديثة، وعاصروا كذلك الأزمات الاقتصادية ودورات الأعمال التي عصفت بالاقتصادات الرأسمالية، وأسوق طرفاً من كلام هؤلاء الاقتصاديين الرأسماليين، حيث:
1) في افتتاحية مجلة “تشالينجز”، كتب “بوفيس فانسون” رئيس تحريرها موضوعا بعنوان (البابا أو القرآن) أثار موجة عارمة من الجدل وردود الأفعال في الأوساط الاقتصادية.
فقد تساءل الكاتب فيه عن أخلاقية الرأسمالية؟ ودور المسيحية كديانة والكنيسة الكاثوليكية بالذات في تكريس هذا المنزع والتساهل في تبرير الفائدة، مشيرا إلى أن هذا النسل الاقتصادي السيئ أودى بالبشرية إلى الهاوية.
وتساءل الكاتب بأسلوب يقترب من التهكم من موقف الكنيسة ومستسمحا البابا بنديكيت السادس عشر قائلا: “أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن بدلا من الإنجيل لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبقوها ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري؛ لأن النقود لا تلد النقود”.
2) في الإطار ذاته لكن بوضوح وجرأة أكثر طالب رولان لاسكين رئيس تحرير صحيفة “لوجورنال د فينانس” في افتتاحية هذا الأسبوع بضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية في المجال المالي والاقتصادي لوضع حد لهذه الأزمة التي تهز أسواق العالم من جراء التلاعب بقواعد التعامل والإفراط في المضاربات الوهمية غير المشروعة.
وعرض لاسكين في مقاله الذي جاء بعنوان: “هل تأهلت وول ستريت لاعتناق مبادئ الشريعة الإسلامية؟”، المخاطر التي تحدق بالرأسمالية وضرورة الإسراع بالبحث عن خيارات بديلة لإنقاذ الوضع، وقدم سلسلة من المقترحات المثيرة في مقدمتها تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية برغم تعارضها مع التقاليد الغربية ومعتقداتها الدينية.
3) وفي استجابة فرنسية لهذه النداءات، أصدرت الهيئة الفرنسية العليا للرقابة المالية -وهي أعلى هيئة رسمية تعنى بمراقبة نشاطات البنوك- في وقت سابق قرارا يقضي بمنع تداول الصفقات الوهمية والبيوع الرمزية التي يتميز بها النظام الرأسمالي واشتراط التقابض في أجل محدد بثلاثة أيام لا أكثر من إيرام العقد، وهو ما يتطابق مع أحكام الفقه الإسلامي.
4) كما أصدرت نفس الهيئة قرارا يسمح للمؤسسات والمتعاملين في الأسواق المالية بالتعامل مع نظام الصكوك الإسلامي في السوق المنظمة الفرنسية.
والصكوك الإسلامية هي عبارة عن سندات إسلامية مرتبطة بأصول ضامنة بطرق متنوعة تتلاءم مع مقتضيات الشريعة الإسلامية.
وقال في مقاله:
1) “لا يوجد مكان في العالم قد تم تطهير معاملاته الاقتصادية من الفائدة، ولا تتمتع الأسلمة الاقتصادية بتأييد ودعم جماعي في أي مكان في العالم.” إن آليات وتقنيات المشاركة في الربح والخسارة المعقدة والغريبة مثل الإيجارة والمضاربة والمرابحة والمشاركة تتضمّن كلها دفع فوائد يتم إخفاءها بطريقة غير مقنعة.
وأقول:
إن هذه العقود والتي ذكرها الكاتب كالمضاربة والمشاركة والمرابحة وغيرها والتي يرى أنها تتضمن فائدة خفية، فإن هذا يبين ضحالة الكاتب وعدم عمقه في دراسة هذه العقود الاقتصادية الإسلامية المختلفة، حيث إن الفائدة التي يزعم وجودها في هذه العقود ليست فائدة بالمعنى الربوي (intrest) وإنما هي العائد نظير المخاطرة، بخلاف الفائدة التي يأخذها المقرض بدون مخاطرة، سواء كان القرض إنتاجيا أو استهلاكيا يأكله المقترض ثم تتراكم عليه الفوائد، وعليه فإنه يضيق قاعدة المخاطرة بل وينقلها بكاملها إلى كاهل المقترض ويأخذ هذه الفائدة، بخلاف المضاربة والمشاركة اللتان تقتضيان الاشتراك وتوزيع المخاطر.
أما إذا نظر للزيادة في الثمن في البيوع الآجلة فإنها زيادة غير مقصودة لذاتها كالقرض الربوي، وإنما هي تثبت تبعاً لعقد البيع الأصلي، والدليل الواضح الجلي على ذلك أنه لا يجوز للبائع أن يزيد الثمن إذا تأخر المشتري المدين بالسداد عن الوقت المحدد.
وبناء على ذلك نرى الفرق الواضح بين هذه العقود وبين القرض الربوي الذي يعتمد عليه نشاط البنوك الربوية الرأسمالية.
ولكن الكاتب غفل عن ذلك، ولم يقرأ قبل أن يكتب!!
وقال في مقاله:
والبنوك التي تدّعي أنها إسلامية هي في الحقيقة “تبدو مثل المؤسسات المالية الحديثة الأخرى أكثر مما تبدو مثل أيّ شئ في تراث الإسلام.” باختصار، لا يوجد تقريبا أي شيء إسلامي في الأعمال المصرفية الإسلامية – وهو ما يُفسر كيف أن سيتي بانك وغيره من البنوك والمصارف الغربية الكبيرة تحوي ودائع متوافقة مع الشريعة الإسلامية بكميات أكبر مما تحوي البنوك والمصارف الإسلامية.
وأقول:
إن هذه البنوك التقليدية الربوية فعلت ذلك نظراً لمحاصصة البنوك الإسلامية، فاضطرت البنوك التقليدية لفتح نوافذ إسلامية من أجل جذب المدخرات لدى المسلمين، بعدما وجدوا النمو المطرد بعجلة تسارُعية في البنوك الإسلامية، وليس لتشابُه أعمالها كما يزعم الكاتب.
وقال في مقاله:
2) لم يتحقق “في أي مكان” هدف تخفيض أو تقليص عدم المساواة عن طريق فرض ضريبة الزكاة. في الحقيقة، يجد كوران أن هذه الضريبة “لا تحوّل الأموال بالضرورة إلى الفقراء، بل هي قد تحولها بعيدا عنهم.” الأسوأ، أن نظام الزكاة في ماليزيا، الذي من المفترض أن يساعد الفقراء، يبدو أنه إنما يستخدم “كغطاء مريح وكذريعة سهلة للتقدم نحو تحقيق أهداف إسلامية عامة وفي تعبئة جيوب المسؤولين الرسميين الدينيين.”
وأقول:
إن العلة ليست في النظام الاقتصادي الإسلامي؛ وإنما في من يطبقونه بشكل خاطئ، وليس من المنطق أن يحمل النظام ما لا يقره أصلاً، وهذا من بديهيات المنطق والحوار.
وخير دليلٍ على أن نظام الزكاة يؤدي إلى تقليل الهوة بين طبقات المجتمع ما حدث في عهد الخليفة الراشد عمر بن العزيز رحمه الله ورضي عنه، حيث فعَّل نظام الزكاة بشكل صحيح وبكل شفافية وموضوعية وحارب الفساد والمحسوبيات، ومما نتج عن ذلك أنه كان يرسل رسله لتوزيع الزكاة على الفقراء فلا يجدون فقيراً يحتاج الزكاة ويأخذها، وذلك في نهاية القرن الأول الهجري، قبل 13 قرناً، حينما كانت الدول الغربية تئن تحت وطأة الطبقية والاستعباد.
وقال في مقاله:
3) “لم يكن لتجديد التأكيد على المبادىء الأخلاقية الاقتصادية أي تأثير يُمكن حسابه على السلوك الإقتصادي.” ذلك لأن هناك “تضارب وصراع بين بعض عناصر جدول الأعمال الاقتصادي الإسلامي وبين الطبيعة البشرية،” وهو أمر شبيه بما كان في الاشتراكية.
وأقول:
هذا يدل على جهل الكاتب بعناصر جدول الأعمال الإسلامي كما يسميه، وجهله بقاعدة الملكية في الشريعة الإسلامية، والتي تحدد الملكية الخاصة والملكية العامة وملكية أصول المنافع، مما يجهله الكاتب عند كتابة هذا المقال.
وقال في مقاله:
يرفض القرآن المفهوم الكامل للاقتصاد الإسلامي. “لا توجد طريقة إسلامية متميزة لبناء سفينة، أو للدفاع عن الوطن، أو لعلاج وباء، أو لتوقعات الطقس،” فلماذا المال؟ يستنتج كوران أنّ أهمية أكاذيب الاقتصاد الإسلامي لا تكمن في الاقتصاد وإنما في الهوية والدين. الخطّة “تروّج لانتشار تيارات الفكر المعادي للحداثة عبر العالم الإسلامي. وهي أيضا تتبنّى وتخلق بيئة باعثة على القتال والجهاد الإسلامي المتطرف.”
وأقول:
على العكس من ذلك فإن الاتجاه المتطرف لا يلتفت للنظام الاقتصادي ولا للمؤسسات الاقتصادية الإسلامية، ولا يؤصِّل لذلك كله، بل قد يشكل خطراً على المسلمين أنفسهم..
أما الأمثلة التهكمية التي ساقها الكاتب كأحوال الطقس وعلاج الوباء فإن الإسلام يشجع على العلم الحديث النافع وكل ما هو مفيد، ويوجب الأخذ به إن كان فيه مصلحة للمسلمين وللبشرية كلها، حيث يقول الله تعالى في القرآن الكريم: “والقمرَ قدرناه منازل لتعلموا عددَ السنين والحساب” وقال تعالى: “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون” وقال أيضاً: “وقل ربِّ زِدْني علماً”.
وقال في مقاله:
في الحقيقة، من المحتمل أن يساهم الاقتصاد الإسلامي في عدم استقرار الاقتصاد العالمي من جراء إعاقة إصلاحات إجتماعية مؤسساتية ضرورية للتنمية الاقتصادية السليمة.” بشكل خاص، إذا قام المسلمون بتحريم دفع أو استلام الفائدة، فإنه يجب نفيهم ودفعهم بعيدا “إلى حافّة وأطراف الاقتصاد الدولي الهامشية.”
باختصار، لا يُمثل الاقتصاد الإسلامي سوى أهمية اقتصادية تافهة لكنه يمثل خطراً سياسياً كبيرا.
وأقول:
لن أرد على الكاتب بل أترك الرد للاقتصاديين الرأسماليين والأنظمة الرأسمالية الغربية حيث شاهدنا قبل قليل أقوال بعضهم واتجاههم للحل الاقتصادي الإسلامي، كما أننا نرى دورات الأعمال تجد حلولَها في النظام الاقتصادي ألإسلامي في حين يعاني منها المذهب الاقتصادي الرأسمالي ومؤسساته المختلفة، وهذا مطَّرِدٌ في المشكلات الاقتصادية المختلفة، وعلى سبيل المثال: لو نظرنا إلى مسأله خلق النقود، فإننا نرى خلال هذا الأسبوع دولاً غربية رأسمالية عديدة تتجه لفرض الاحتياطي الكامل 100% على الودائع الجارية منعاً لخلق النقود وللسيطرة على عرض النقد، ومن هذه الدول خلال هذا الأسبوع إيرلندا وفرنسا وهولندا والنمسا وغيرها.
في حين أن العلماء المسلمين نهوا عن ذلك منذ القرن الثاني الهجري كالإمام الشافعي رحمه الله حين كره ضرب الفلوس التي تؤدي لزيادة عرض النقد، وكره لغير الحاكم أن يصدر النقود أيضاً لما فيه من ارتفاع الأسعار وانقطاع الأجلاب (الاستيراد) وغيرها من مظاهر الأزمات المالية المعاصرة.
أحدث التعليقات