أهمية العمل الخيري والتنافس في ذلك وخاصة في شهر رمضان
د. سعد بن مطر العتيبي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد …
فإن العمل الخيري يشمل كل عمل من أعمال البرّ يقوم به العبد امتثالا لأمر الله _عز وجل_ ، وابتغاء مرضاته .. وإن كان يطلق – عرفا – على عمل البرِّ المنظّم الذي يُهتم فيه بنفع الآخرين ، كالصدقة ، وتعليم العلم ، وتحفيظ القرآن ، وأعمال الإغاثة بشتى صورها ، ونحو ذلك من الأعمال الخيِّرة التي يتعدى أثرها إلى شريحة أو أكثر من شرائح المجتمع الإسلامي ، سواء كان ذلك داخل إطار إقليم معين ودولة محددة ، أو كان أعم من ذلك ، ويكون في الغالب منظماً تنظيما يعين القائمين عليه على ضبط أموره ودقة تنفيذه ..
ولمَّا كان محلَّ العمل الخيري ومجاله أعمال البرّ والخير ، فلا عجب أن يكون جزءاً من عمل المسلم ، وأن تأتي النصوص الشرعية بالدعوة إليه ، والأمر بالمسارعة فيه ، بل جاء الأمر بالدعوة إلى العمل الخيري والدعوة إلى الدعوة إليه ، وذلك في نصوص عديدة ، من مثل قول الله _عز وجل_ : “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” (الحج77)، ففيه الأمر بالصلاة وأنواع العبادة ، وبفعل الخير الذي يصل نفعه للغير ، من صلة الرحم والصدقة ومكارم الأخلاق وغيرها . وقولِه _جل جلاله_ في آية البقرة : “فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ”(البقرة148) ، أي : بادروا بفعل الخيرات ، ومن ذلك تقبل أوامر الله _عز جل_ ، وتنفيذها . و مثله قوله _سبحانه_ في آية المائدة : ” فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ “(المائدة48) ، أي : ابتدروا الأعمال الصالحة وسارعوا إليها .
وبهذا جاءت هداية الرسل الكرام ، ومنه قوله _تعالى_ عن أنبيائه _صلوات ربي وسلامه عليهم_ : “وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ” (الأنبياء73) ، فمن معاني الآية : وجعلناهم أئمة يقتدى بهم ، ويهدون الناس بالوحي ، ويحثّون الناس على فعل الخيرات ، وعلى رأس ذلك فعل الأوامر من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وغيرها . وكانوا قدوة في ذلك بأعمالهم ، فقد وصفهم الله _عز وجل_ بذلك في مواضع منها قوله _سبحانه_ : “فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ “(الأنبياء90) ، أي : إنهم كانوا يبادرون في عمل القربات ، راغبين في رحمتنا راهبين عذابنا . وهو شأن المؤمنين الصادقين ، كما في قوله _سبحانه_ : “أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ “(المؤمنون61) ، فهم يسارعون في نيل خيرات الدارين بفعلهم للأعمال الصالحة مع رغبة شديدة وحب للخير وطيب نفس به ، وهم سابقون لها الخيرات وإليها .
وهذا بعكس أهل النفاق ودعاة الضلالة ، فقد وصف الله _عز وجل_ المنافقين بأنهم ينفرون من العمل الخيري ، ويتضايقون منه ويشحون به : “أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً” (الأحزاب19) ؛ بل بيّن الله _عز وجل_ أن المنافقين يقللون من شأن العمل الخيري ، ويحاربون أهله ويشككون في نواياهم ، ويسخرون منهم ، كما قال الله _عز وجل_ : “الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ” (التوبة79 )، فهم يعيبون المتطوعين بالعمل الخيري التطوعي من أهل الإيمان والصلاح ، فقد كان المنافقون في العهد النبوي يشوهون أهل الخير وينتقصونهم ، فمن بذل خيرا كثيرا قالوا : إنه يعمل ذلك رياءً ، ومن قدم شيئا يسيرا على قدر حاله وجهده ، قالوا عنه : إن الله عني عن صدقته ، وإنه إنما جاء بها ليذكِّر بحاجة نفسه وأنه فقير ليعطى من الصدقات فيما بعد !
و مجالات العمل الخيري كثيرة ، ومما جاء في ذلك من كتاب الله _عز وجل_ قوله _سبحانه_ : “لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ” (البقرة177) .
ومن أهم صور العمل الخيري وأشهرها : النفقة في الخير ، قال الله _تعالى_ : “يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ “(البقرة215) ، وبيّن الله _عز وجل_ فضل ذلك بعامة، في مثل قوله _سبحانه_ : “مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ “(البقرة261).
وبين _سبحانه_ بعض آداب النفقة والإحسان في مثل قوله : “لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ “آل عمران92
أنه قال: ” ما نقص مال من صدقة” وفي الحديث الصحيح عن رسول الله “وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه ” رواه مسلم ، : ( ما نقصت صدقة من مال ) وجهين ، “وذكر النووي -رحمه الله- في معنى قوله أحدهما : معناه أنه يبارك فيه ويدفع عنه المضرات ، فينجبر نقص الصورة بالبركة الخفية ، وهذا مدرك بالحس والعادة . والثاني : أنّه وإن نقصت صورته كان في الثواب المرتب عليه جبر لنقصه ، وزيادة إلى أضعاف كثيرة ” (شرح النووي لصحيح مسلم :16/141) .
أيضاً أنه قال: (ما من يوم يصبح فيه الناس إلا وينزل فيه ملكان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، والثاني يقول: اللهم أعط ممسكا تلفا” رواه الشيخان ؛ قال النووي _رحمه الله_ في معنى الحديث : ” قال العلماء : هذا في الإنفاق في الطاعات ومكارم الأخلاق وعلى العيال والضيفان والصدقات ، ونحو ذلك ، بحيث لا يُذم ولا يسمى سرفا ، والإمساك المذموم هو الإمساك عن هذا ” (شرح النووي لصحيح مسلم :7/95) .
والآيات والأحاديث في فضل النفقة في وجوه الخير والصدقة على ذوي الحاجة كثيرة جدا .
و ثواب العمل الخيري يعظم ، وترتفع درجات أهله في بعض الأحوال والظروف والأوقات والأزمان أكثر منه في سواها .. فهو في أوقات الأزمات وفي ظل التضييق على العمل الخيري مع شدّة الحاجة إليه ، وقلّة من يقوم به وقلّة النصير لأهله – أعظم أجراً ، قال الله _عز وجل_ : “وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ “(الحديد10)
والعمل الخيري في الأوقات الفاضلة والأزمنة المباركة أعظم أجراً منه في غيرها ، فالعمل الخيري في رمضان ليس كالعمل الخيري في سواه ، وهو في الأمكنة الفاضلة كمكة أكثر أجراً منه في غيرها ؛ لفضيلة الزمان في الأول ، وفضيلة المكان في الثاني ؛ فإذا اجتمع الفاضلان : الزمان و المكان ، كان الفضل مضاعفاً بكل منهما ، والله ذو الفضل العظيم ..
وللعمل الخيري في شهر رمضان طعم آخر .. فمع كونه أعظم أجراً ، فللنّفوس في رمضان إقبال على الخير ، لا يكون في غيره في العادة ، ومن لم يوفق للعمل فيه فله نصيب من الحرمان _والعياذ بالله_ .. فهنيئا لمن تزود فيه من العمل الصالح ما يقربه إلى الله _سبحانه وتعالى_ ويكسبه مرضاته في ليله أو نهاره . فقد جاء عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أنَّه كان يقول للصحابة _رضوان الله عليهم_ في أول رمضان: ” أتاكم شهر رمضان ، شهر مبارك ، كتب الله عليكم صيامه ، تُفْتح فيه أبواب الجنة ، وتُغْلَق أبواب الجحيم ، وتُغَلّ مردة الشياطين ، فيه ليلة هي خير من ألف شهر ، من حرم خيرها فقد حرم ” رواه أحمد والنسائي وغيرهما وصححه الألباني _رحمه الله_ . وفي الحديث الآخر : ” رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له ” رواه مسلم
و قد ورد عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أنَّه قال : ” إذا كانت أول ليلة من رمضان صُفِّدَتِ الشياطين ومردة الجن وَغُلِّقَتْ أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب ونادى مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أَقْصِرْ ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة ” رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني _رحمه الله_ .
ويكفي باغي الخير أن يتذكر أن له في رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أسوة حسنة ؛ فقد كان _صلوات ربي وسلامه عليه_ يقود العمل الخيري بفعله قبل قوله ، فقد (( كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن ، فلرسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أجود بالخير من الريح المرسلة )) رواه الشيخان .
والله تعالى أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
أحدث التعليقات