مقال : فـــــي ترشيـــــد الاستهــــــــــلاك: (إني لأبغض أهل بيتٍ ينفقون رزق ايامٍ في يوم واحد) ابو بكر الصديق – الشيخ كمال خطيب

فـــــي ترشيـــــد الاستهــــــــــلاك: (إني لأبغض أهل بيتٍ ينفقون رزق ايامٍ في يوم واحد) ابو بكر الصديق

بقلم : الشيخ كمال خطيب – نائس رئيس الحركة الاسلامية في الداخل الفلسطيني

مباركٌ هو المشروع الذي أطلقته جمعية “إعمار” للتنمية والتطوير الاقتصادي بالاشتراك مع جمعية “سند” لرعاية الأمومة والطفولة، والذي تضمن إقامة عشرات اللقاءات في عشرات القرى والمدن العربية بهدف توجيه الأمهات إلى كيفية ترشيد الاستهلاك للمساهمة في التخفيف والتقليل من آثار الأزمة الاقتصادية العالمية التي راحت تلقي بظلالها وتترك بصماتها في كل بيت وعلى كل أسرة.

ولقد استوقفتني لافتة كبيرة كانت منصوبة على رصيف إحدى الشوارع الرئيسية في المدينة المنورة – خلال رحلة الحج الأخيرة – وعليها كتبت عبارة رائعة أقرأها للمرة الاولى، هي لأبي بكر الصديق، رضي الله عنه، يقول فيها: (إني لأبغض اهل بيتٍ ينفقوا رزق أيام ٍ في يوم واحد)، وهذه العبارة بلا شك تمثل قاعدة من قواعد ترشيد الاستهلاك المنزلي، حيث تُوجِّهُ لضبط الإنفاق وذم وبغض الإسراف وتُوجّه لتقنين الإمكانية والميزانيات والموارد.

عبارة سيدنا ابو بكر الصديق، رضي الله عنه، وسيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الذي قال جملته المشهورة: (أوكلما اشتهيتم اشتريتم؟!!)، هاتان العبارتان المباركتان تمثلان منهجا متكاملا وبرنامجا فعالا وناجحا لضبط وترشيد الاستهلاك.

واذا كان همّ أغلب الاقتصاديين في العالم في الفترة الماضية زيادة الإنتاج، فإن همّهم الآن كيفية استهلاك الإنتاج والانتفاع به، الأمر الذي يلزم ضرورة التربية والتوجيه والإرشاد؛ ماذا يستهلك؟ وكم يستهلك؟ وكيف يستهلك؟ ولِمَ يستهلك؟ ومتى يستهلك؟.

وإذا كان فشل السياسات الاقتصادية العالمية الذي ابتدأ بفشل الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي، وهاهو يكتمل بفشل الرأسمالية في أميركا والدول الغربية، وإذا كان كبار الاقتصاديين في العالم قد بدأوا يتحدثون عن المشروع الاقتصادي الاسلامي وكيفية فهمه وتطبيقه، فإنه وقبل أن تبدأ هذه العاصفة الاقتصادية تزمجر، فقد كتب مفكرونا المسلمون مؤكدين على صحة وسلامة المنهاج الرباني العظيم في كل النواحي الحياتية ومنها الاقتصاد، وكان من هؤلاء العلامة الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه بعنوان “دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي”، والذي منه ومن كتابه الآخر “رعاية البيئة في الإسلام” ألخّص وأقتبس بعض التوجيهات في ترشيد الاستهلاك.
ترشيد الاستهلاك ليس معناه البخل:

لقد أمر الاسلام بالإنفاق على الطيبات في اعتدال، وأنّ تَمَلّكَ المال ليس بغاية في ذاته وإنما هو وسيلة التمتع بزينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، أما أن يملك الانسان المال ليكنزه ويمسكه ويكاثر بجمعه وعدده ويحرم نفسه وأهله من ثمراته ويحرم الجماعة من خيراته – فهذا انحراف عن هدي الله وتنكّر لحق الاستخلاف الذي قرره الله تعالى بقوله: (آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) (آية ٧ سورة الحديد)، وقال سبحانه (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون)(آية ٣٨ سورة الشورى).. الا إن هذه الآيات الكريمة وغيرها لتشير الى ان الإنفاق المطلوب هو مما رزق الله، اي من بعض ما رزق الله، وهذا معناه أن ينفق البعض ويدخر البعض الآخر، ومن انفق بعض ما يكتسب ويدخر البعض فقلما يفتقر، وقد صح ان النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان يدخر لأهله قوت سنتهم، وهذا لا يتنافى مع التوكل على الله تعالى ولا الزهد في الدنيا.. ولكن أن ينفق ما يكتسبه ثم ما يدخره ثم يستدين، ثم يستدين ليسدد دينه الأول في غير تنظيم ولا اعتدال فإنه البلاء على بلاء

والغرم على غرم؛ لما قال الشاعر:

اذا ما قضيت الدين بالدين لم يكن – قضاء ولكن كان غُرما كل غُرم
نعم إن ترشيد الاستهلاك ليس معناه البخل والتقتير على النفس حتى يظهر ذلك على مظهر الانسان ولباسه وطعامه، إذ أن هذا يتنافى مع منهج الاسلام الذي يقول: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا وأشربوا ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) (آية ١٣-٣٢ سورة الأعراف)، اذ لا حرج أن يكون المسلم أنيقا في ملبسه ومظهره ويحرص ان يكون ثوبه حسنا جميلا وكذلك حذائه وبيته، وأن يبتغي الجمال في كل شيء، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر”، فقال رجل: إن الرجل يحب ان يكون ثوبه حسنا وفعله حسنا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: “إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس)، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن يرى آثر نعمته على عبده).

* من ترشيد الاستهلاك محاربة السرف والترف:

فإذا كان المنهج الإسلامي قد أوجب على صاحب المال أن ينفق منه على نفسه وأهله في سبيل الله، وحرم عليه التضبيق والتقتير، فإن الشق الثاني من هذا المنهج العادل أنه حرّم الإسراف والتبذير، ذلك انه وضع قيودا وحد حدودا للاستهلاك والإنفاق، فكما أن المسلم مسؤول عن ماله من اين اكتسبه؟ فانه مسؤول عنه ايضا فيمَ أنفقه؟ كما علّمه النبي صلى الله عليه وسلم .

إن ترشيد الإنفاق سنة إسلامية حميدة، سواء في المأكل أو في المشرب أو الملبس أو في المسكن أو في أي جانب من جوانب الحياة، وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم على سعد بن ابي وقاص وهو يتوضأ فقال له: “لا تسرف”، فقال أوَفي الماء سرف يا رسول الله؟ قال: نعم وإن كنت على نهر جار. وهذا الذي روي في الحديث نعرف قيمته في عصرنا حيث تقل المياه ويكثر استهلاكها، وأمست قلتها خطرا يهدد البشرية، حتى أنه يقال إن الحروب القادمة ستكون من اجل الماء.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار كثيرة في بيان فضل الاعتدال في الإنفاق والموازنة والاقتصاد فيه، كقوله صلى الله عليه وسلم: “الاقتصاد نصف المعيشة”، وقوله: “ما عالَ من اقتصد”، اي ما افتقر من أنفق قصدا- أي باعتدال.

ومن روائع ترشيد الاستهلاك ووجوب المحافظة على الموارد قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن أنس بن مالك: “اذا سقطت لقمة احدكم فليمط عنها الأذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان”، قال: وأمرنا ان نُسلِت القصعة، وقال: “إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة”.

فهذا توجيه نبوي كريم الى أدب من آداب الطعام ربما يستنكف منه المترفون والمتكبرون بأن يرفعوا اللقمة او الحاجة اذا سقطت على الأرض وان لا يتركوا في الصحون طعاما زائدا يصبح فضلات تلقى، بل ليضعوا الصحون قدر حاجتهم فيأكلوه ولا يزيدوا عن حاجتهم فيلقى على المزابل، في حين أن هناك ملايين من الناس يحتاجون لكل لقمة بل وأقل منها، واذا قال قائل: ما قيمة اللقمة او بقية طعام في الصحن؟ فإن الجواب يكون حين ننظر الى مستوى الأمة في مشارق الأرض ومغاربها وعلى مستوى ثلاث وجبات في اليوم، لنعرف ان ذلك يساوي عشرات بل مئات ملايين الدولارات. وليس عجيبا ان نسمع اليوم عن كثير من الدول تقوم فيها جمعيات خيرية بوضع أواني في المطاعم توضع فيها انواع الأطعمة – التي تزيد على حاجة الرواد – تجمعها وتوزعها على الفقراء وما اكثرهم، ممن لا يجدون لقمة او نصف لقمة يسدون بها رمقهم.

ومن ترشيد الاستهلاك التنفير من الاستدانة:

ان على رب الاسرة وعلى الزوجة كذلك الموازنة بين الداخل والخارج بين الايرادات والنفقات حتى لا يضطر الى الاستدانة وذل الاستقراض من الغير، وقد ورد في بعض الآثار المردوية (الدّيْنُ شَيْنُ الدِّين)، اي يُسيء الى دِين الانسان وإيمانه، وقول (الدّيْن هَمّ بالليل ومَذلّة بالنهار)، قال العلماء وإنما كان الدّيْن شينا ومذلة لما فيه شغل القلب والبال، والهمّ اللازم في قضائه، والتذلل للغريم عند لقاءه وتحمل منّته بالتأخير الى حين ادائه، وربما يعد بالسداد والقضاء والوفاء فيخلف، أو يحدث صاحب المال عن سبب التأخير فيكذب او يحلف له فيحنث، ولهذا كان عليه السلام يتعوذ من المأثم والمغرم، وهو الدين، فقيل له يا رسول الله ما اكثر ما تتعوذ من المغرم ؟! فقال: (ان الرجل اذا غرم حدث فكذب ووعد فاخلف).

وليس ان الديون خطر على الفرد حتى انها لتشين دينه وتنغص عليه دنياه؛ وانما الديون خطر على المجتمع والامة، وكم رأينا دولا استمرأت الاستقراض من الآخر من الدول او البنوك العالمية، فسقطت في شباك سياساتهم وخضعت لإملاءاتهم، بل انها تعيش كل العمر تحت سلطتهم حيث ترزح تحت طائل الدّيْن والربا، فتستقرض من هذه الدول الاموال وتُلزم وتجبر بأن نشتري بنفس الاموال من منتوجات تلك الدول وهكذا..

فيجب على رب الأسرة ان يحسن الموازنة بين امكاناته وموارده، بين حاجاته وضروراته، حتى لا يقع تحت طائلة الديون.

ومن ترشيد الاستهلاك المحافظة على الاصول الثابتة:

ان من الناس من لايحسنون الموازنة في استهلاكهم، فلا ينفقون كل ما في ايديهم او يستدينون فحسب؛ بل ان منهم من يذهب بعيدا في التوسع في انفاقه، بحيث يضطر الى بيع ارضه او عقاره من أجل مطالبه الاستهلاكية، ولذلك فيجب الحرص على يسمى الاصول الثابتة، الأراضي، العقارات، البيوت، المصالح.. فلا نبيعها من اجل بطوننا واستهلاكنا اليومي، الا في حالات الاضطرار الشديد، حتى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يبارك في ثمن أرض ولا دار)، حتى ان السنة النبوية لتوجّه المسلم اذا باع شيئا من الاصول الا يضيع ثمنه في المستهلكات والمتطلبات اليومية؛ بل ينبغي عليه ان يجعل ثمنه في شراء اصول مثلها حتى يبارك الله له فيها، وإلا حُرم من البركة، فعن حذيفة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من باع دارا ثم لم يجعل ثمنها في مثلها لم يبارك له فيها)، فكم رأينا وسمعنا عمن باع أرضا من أجل شراء سيارة للرفاهية أو من أجل السفر إلى خارج البلاد للنزهة، او من اجل بطنه ومظهره، وهذا من سوء التدبير وتضيع الموارد.

وغالبا ما يكون هذا بسبب الترف والاغراق في التنعم والتوسع في اسباب الرفاهية والترف، لأنه يشغله بشهوات بطنه وفرجه ويلهيه عن معالي الامور ومكارم الأخلاق، ولانه يقتل فيه روح الجهاد والجد والخشونة ويجعله عبدا لحياة الدعة والرفاهية، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة”.

ومن ترشيد الاستهلاك الاهتمام بالمال وعدم اتلافه واضاعته:

ان كثيرا من الاموال تكون على شكل مقتنيات، فيجب تعهدها وحفظها وصيانتها، لأن ضياعها واهمالها يعني ضياع اموالنا التي بها اشتريناها، وهذا يضطرنا لشراء غيرها، فيجب الحفاظ عليها، يقول في هذا الدكتور القرضاوي: (ومن أمثلة ذلك: اهمال الحيوانات حتى تهلك من الجوع والمرض، واهمال الزرع حتى تأكله الآفات، واهمال الحبوب والثمار الأطعمة حتى يتلفها السوس، واهمال الثياب حتى تُبليها “العثة”، واهمال المباني والمرافق حتى تهلكها عوادي الزمن، ومن ذلك اضاءة الانوار نهارا حيث لا حاجة لها، وترك صنابير المياه مفتوحة حيث تصب في غير حاجة، والقاء فضلات الطعام في القمامة، وفي الناس من يحتاج الى لقيمات يقمن صلبه، وترك الثياب الصالحة للاستعمال لمجرد خرق صغير بها او مرور زمن عليها، ومن الناس من يحتاج الى خرقة تستر عورته او تقيه الحر والقر).

ويقاس على ذلك شراء كميات من الخضار والفاكهة دون الحاجة اليها، فتفسد وتتعفن ثم تلقى في القمامة، وشراء الخبز بكميات كبيرة وعدم استهلاكه بالشكل المناسب بابقاء كثير من قطع الخبز تلقى مع الفضلات، وغير ذلك من مظاهر اتلاف المال وإضاعته، (ومن اضاعة المال: ترك الارض الصالحة للزراعة دون استغلالها، وترك الوسائل المستطاعة لزيادة انتاجها كما ونوعا، وكذلك اهمال الثروة الحيوانية مع امكان تنميتها وتوسيع نطاق الانتفاع بها بلحومها والبانها وما يستخرج منها، وبما اشار اليه القرآن من جلودها واصوافها واوبارها وأشعارها)، وفي هذا قال النبي صلى عليه وسلم (ان الله كره لكم اضاعة المال)، وقد حمله اكثر العلماء على الاسراف في الانفاق وحمله بعضهم على الانفاق في الحرام.

ولترشيد الاستهلاك اهداف وفوائد منها:

١- انه لون من التربية النفسية الخلقية، فليس من خلق المؤمن التوسع الشديد في المآكل والمشارب الى الحد الذي يجعله من اهل الترف والتنعم ويلحقه بحطب جهنم من الكفار الذين يتمتعون ويأكلون كما تأكل الانعام، ولقد اوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل لما بعث به الى اليمين بقوله (اياك والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين)، والقصود بالتنعم هنا الترف والاسراف والبذخ، ولقد جاء في الأثر: (من الإسراف ان تأكل كل ما اشتهيت)، وقال عمر بن الخطاب جملته المشهورة: (أوكلما اشتهيتم اشتريتم)، وذلك لما رأى في يد جابر بن عبد الله درهما، فقال له ما هذا الدرهم؟ قال: اريد ان اشتري به لاهلي لحما قرموا له – اي اشتدت شهوتهم له – فقال عمر رضي الله عنه: أوكلما اشتهيتم اشتريتم؟!! اين تذهب عنكم هذه الآية: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها)، وفي رواية يقول جابر: فجعل عمر يردد: قرم اهلي قرم اهلي، حتى تمنيت لو ان الدرهم سقط مني ولم ألق عمر.

نعم ان الرغبة في الشراء والتسوق والتبذير في الاستهلاك والتردد على المجمعات التجارية لضرورة او لغير ضرورة أصبحت اليوم موضة وتقليدا، لا بل انني سمعت ان هناك حالات ادمان ليس على المخدرات والخمور وانما على التسوق، بل ان بعض الدول الاوروبية قد عينت لجانا لوضع استراتيجية علاج مدمني التسوق مثلما وضعت خططا لعلاج مدمني المخدرات والكحول.

٢- ان في ترشيد الاستهلاك تربية اجتماعية، لأن بضبط المصروفات والانفاق، خاصة في الكماليات، مرعاة لشعور المحرومين والفقراء الذين يرون الاغنياء والقادرين يتفننون في استهلاك وشراء الكماليات بينما هم غير قادرين على توفير الاساسيات لأبناءهم وبيوتهم، بالتالي سيتحول المجتمع وينقلب الى طبقات متناحرة متحاسدة.
ولقد روي ان عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، قد علم ان قريبا له اشترى خاتما بألف درهم، فكتب اليه مستنكرا: بلغني انك اشتريت خاتما بألف درهم، فإذا جاءك كتابي هذا فبعه واطعم بثمنه ألف جائع واشتر خاتما من حديد واكتب عليه رحم الله امرءا عرف قدر نفسه.

يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي: (وليس هناك شيء اعون على غلاء والاسعار واختفاء السلع من الاسواق وإتاحة الفرصة للمحتكرين والمستغلين من الاستسلام لجموح الرغبة في الثراء والتسابق المجنون على الاستمتاع بأي ثمن كان، كما قال عمر : أوكلما اشتهيتم اشتريتم؟!! حتى يصبح الشراء لذة عند بعض الناس بل غاية ولو لغير حاجة ولغير منفعة، وبعض الناس يصبح شراء الشيء غالي الثمن متعة له بل هدفا ليشبع في نفسه رغبة المفاخرة والمكاثرة وليس شيء اعون على الرخاء وخفض الأسعار من تعوّد القناعة والتعفف وكف النفس عن الشراء وان رغبت، كما قال احد الحكماء، وقد قيل له ان الشيء الفلاني غلا، فقال أرخصوه، قالوا وكيف نرخصه؟ قال: بالترك! وفي هذا قال الشاعر:

واذا غلا علي شيء تركته فأراه أرخص ما يكون اذا غلا

٣- ان في ترشيد الاستهلاك لونا من التربية الاقتصادية للفرد وللأمة المسلمة، فإن الاسراف في الاستهلاك يذهب بكل المحاولات لزيادة الإنتاج ويبدد أموالا كثيرة في الكماليات وتوافه الحياة فضلا عن المحظورات والموبقات، أما اذا اصبح الاعتدال في الانفاق والاقتصاد والاستهلاك خلقا عاما في الأمة فهناك تتوفر اموال ضخمة تتحول من مجال الانفاق الاستهلاكي الى مجال الانفاق الانتاجي، وفي هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من فقه الرجل قصده في معيشته).

٤- وفي ترشيد الاستهلاك لون من التربية الصحية والجسمية: لأن الاسراف في الطعام والشراب يُفضي الى التخمة والسمنة وامراض المعدة والهضم، ولهذا قال القدماء (المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء)، وقال بعض السلف: لقد جمع الله الطب كله نصف آية: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا) (الاعراف ٣١)، وهذا الذي معناه الطب الوقائي، فدرهم وقاية خير من قنطار علاج كما قيل.

وعن جعدة رضي الله عنه، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يشير بيده الى بطن رجل سمين ويقول: “لو كان هذا في غير هذا كان خيرا لك”، فما أرقها وألطفها من نصيحة معبرة بليغة.

ان السمنة المفرطة مباءة للأسقام المتنوعة، فضلا عما فيها من اصابة الجسم بالكهل والترهل والعجز عن اعمال الجهاد وغيرها مما يقتضي مرونة البدن وسرعة حركته.
واذا كان الاسلام ينكر الإسراف في العبادة من صيام النهار وقيام الليل وتلاوة القرآن ونحوها لما في المبالغة فيها من جور على البدن وحظ الانسان في الراحة اللازمة، فما بالكم في الاسراف في المباحات، كما قال صلى الله عليه وسلم: فإن لبدنك عليك حقا في الراحة ولعينيك عليك حقا في النوم ولأهلك عليك حقا في الامتاع والاعفاف، فأعط كل ذي حق حقه.

فلا عجب ان يُعنى الاسلام بصحة الانسان بتوجيهه الى الاعتدال في تناول الطيبات دون اسراف في الحلال ولا تجاوز الى الحرام، وهذا اول الطريق الى حفظ الصحة الذي يُفضي الى حفظ المال والى حفظ الدين، ولهذا جاءت الشريعة الغراء، فإلى الوسطية في كل شيء ايها الآباء والأمهات والأبناء، وليكن شعاركم وصية ونصيحة ابي بكر رضي الله عنه : (إني لأبغض اهل بيت ينفقوا رزق ايام في يوم واحد)، ووصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أوكلما اشتهيتم اشتريتم)؟!.
بل انها وصية رب العزة سبحانه (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا).

رحم الله قارئا دعا لنفسه ولي بالمغفرة
{والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}