تقييم بعض جوانب اختلالات العلاقة الوظيفية بين البنك المركزي والمصرف الإسلامي – د. ياسر الحوراني

تقييم بعض جوانب اختلالات العلاقة الوظيفية بين البنك المركزي والمصرف الإسلامي – د. ياسر عبد الكريم الحوراني

 

 ملخص
فقد تركز البحث على معالجة أهم الأدوار الوظيفية المنوطة بأداء البنك المركزي في نطاق تعامله مع المصرف الإسلامي. وقد حاول البحث الوقوف على طبيعة الاختلالات المؤثرة في جانب سلطة البنك المركزي النقدية والرقابية على المصرف الإسلامي، واقتصر الحديث على منشأ العلاقة بينهما ووظائف البنك المركزي العامة، وبعض الأمور الجانبية المرتبطة بها، مثل: وظيفة الحد الأدنى لمتطلبات الاحتياطي القانوني، وارتباطه بالزكاة، واستحقاق الفائدة، إلى جانب الوظائف الأخرى، مثل: وظيفة البنك المركزي كمقرض أخير، وسياسة سعر الخصم، وعمليات السوق المفتوحة، وتقييم هذه الوظائف حسب آليات جهاز المصرف الإسلامي.
وقد انتهى البحث إلى نتيجة هامة تتمثل بضرورة تكييف البنك المركزي لبعض الآليات والأدوات المصرفية المستخدمة لتنسجم مع معطيات الشريعة، ومنها إبدال الفائض الربوي المستحق بأشكال مقبولة لدى المصرف الإسلامي كالمشاركة والمضاربة ونحو ذلك، إلى جانب ضرورة إسهام المصرف الإسلامي لحل بعض الإشكاليات وفق آلية العمل المصرفي الإسلامي الجماعي، أي عبر قنوات مصرفية دولية خارج إطار الإقليم الواحد، وذلك للحد من لجوئه واعتماده على البنك المركزي داخل الإقليم ما أمكن ذلك.

تقييم بعض جوانب اختلالات العلاقة الوظيفية بين البنك المركزي والمصرف الإسلامي
المقدمة
يلعب البنك المركزي دوراً مهماً في تمثيل الدولة وسيادتها على أنشطة الحياة الاقتصادية، وذلك من خلال التحكم باتجاهات التعامل النقدي في السوق، وضبط السياسة النقدية، وتوجيه الموارد ومجالات الإنتاج نحو الاستخدام الأمثل، وإصدار الأوراق النقدية، والمحافظة على مستويات الدخول والأسعار، ومراقبة أسعار الصرف، واتخاذ التدابير اللازمة لاستقرار الحياة الاقتصادية، إلى غير ذلك من المهام والوظائف الكثيرة.
غير أن البنك المركزي يزاول وظائفه عامة ومباشرة لضبط عرض النقد والتحكم بالقاعدة النقدية، وأهمها متطلبات الحد الأدنى للاحتياطي، وتطبيق آلية سعر الخصم، ودور المقرض الأخير، وعمليات السوق المفتوحة، وبالرغم من أهمية الأدوار الوظيفية التي ينهض بها البنك المركزي من خلال تحمله لأعباء المسؤولية القانونية فإن ثمة اختلالات وإشكالات جوهرية يواجهها في إطار علاقته مع الجهاز المصرفي الإسلامي الذي يعتمد آلية التعامل المصرفي الخالي من الربا.
وتنحصر مشكلة البحث في التناقض الواضح بين مهام الرقابة القانونية للبنك المركزي المستمدة من أحكام وتشريعات وضعية وبين مهام الرقابة الشرعية للمصرف الإسلامي المستمدة من أحكام الشريعة وقوانين الفقه الإسلامي، ويشكل الفائض الربوي جوهر المفارقة بين الرقابتين وبالتالي يشكل جوهر المشكلة التي يتمحور حولها مدار البحث.
ومن هنا فإن البحث يفترض أن التعامل المصرفي الخالي من الربا هو المعيار الموضوعي السليم والأكثر ملاءمة لبلورة علاقات جديدة بين البنك المركزي والمصرف الإسلامي، تتضمن أشكال الاستثمار الشرعي لرأس المال النقدي، وتستوعب كافة أنماط التبادل الأخرى الخالية من الربا. ونتيجة لذلك فقد جاء البحث مشتملاً على المحاور الأساسية لاختلالات العلاقة في ثلاثة مباحث هي:
المبحث الأول: بعنوان: نشأة وتطور العلاقة بين البنك المركزي والمصرف الإسلامي، ويندرج تحته نشأة البنك المركزي، ونشأة وتطور البنى الوظيفية والبحثية في المصرف الإسلامي، وتطور العلاقة بين البنك المركزي والمصرف الإسلامي، ومنشأ اختلال العلاقة القانونية بينهما.
المبحث الثاني: بعنوان: متطلبات الحد الأدنى للاحتياطي النقدي. ويندرج تحته مفهوم وطبيعة اختلال العلاقة للاحتياطي النقدي، وعلاقة الاحتياطي النقدي بالزكاة، والفائدة المستحقة.
المبحث الثالث: بعنوان: وظيفة المقرض الأخير وسياسة سعر الخصم وعمليات السوق المفتوحة.
المبحث الأول
(نشأة وتطور العلاقة بين البنك المركزي والمصرف الإسلامي)
نشأة البنك المركزي
ظهرت فكرة إنشاء البنك المركزي بصيغته التنظيمية المعاصرة مع نشوء الدولة الحديثة وسيادة القانون فيها. وتحولت الأعمال والواجبات المنوطة بالبنك المركزي من الحالة التقليدية الأولة التي لم تخضع لمفاهيم ومبادىء واضحة ومحددة إلى حالة وظيفية أخرى تقوم على مبدأ العلم والفن في آن واحد، معتمدة على مبادىء واضحة في سياسة التدخل في الحياة الاقتصادية تحقيقاً لأهداف المصلحة العامة والعدالة الاجتماعية والتخطيط الاقتصادي (البنك المركزي الأردني، 1989، ص1).
والواقع أنه حتى نشوء الدولة المعاصرة لم تظهر أهمية وجود بنك مركزي أو سلطة مالية ومصرفية تابعة لكيان الدولة إلا في سياق أزمة تجارية وقعت في أمريكا عام 1907م، وقد أفصحت هذه الأزمة عن أهمية قصوى لوجود هيئة مصرفية تشرف على النشاط المصرفي برمته وتتمتع بسلطات حقيقة ممنوحة من الدولة نفسها، فكان إنشاء أول بنك مركزي في أمريكا عام 1920 تخضع له في أعمال الرقابة والإشراف سائر المؤسسات المالية والمصرفية (عجمية، 1975م، ص197- 198).
ومع أن تبرير الواقع لممارسة البنك المركزي لمسؤولياته المصرفية يدخل في نطاق واجبات الدولة ومسؤولياتها المباشرة في حفظ الأمن الاقتصادي وعدم حدوث أية اختلالات تضر بمصالح الأفراد، فإنه يبقى مثار جدل إلى أي مدى يمكن أن تطغى تدخلات الدولة تحت ذريعة المحافظة الأمنية المتعلقة بسياسة المال على حرية الأفراد والجماعات وممارسة حقها وحريتها في استخدمات الودائع وتوجيه الاستثمار. ولربما تصبح هذه الرؤية أكثر مصداقية وقبولاً من إمكان رفضها أو عدم الاكتراث بالنظر إليها إذا علم أن البنك المركزي ما زال يواجه اختلالات مالية واقتصادية في ظل رقابته الصارمة على مؤسسات المال ونشاط البنوك، وحتى أن نظام الاحتياط الفيدرالي (Federal Reserve System)، الذي يقوم بمهمة الإشراف على البنوك والنظام النقدي في أمريكا قد حقق فشلاً ذريعاً في معالجة ثلاث أزمات اقتصادية عنيفة متتالية أدت إلى تراجع كبير في الاقتصاد الأمريكي، يقول “فريدمان” أحد مشاهير المدرسة النقدية في الاقتصاد المعاصر حول مسألة تدخل الحكومة عن طريق نظام الاحتياط الفيدرالي إن الحكومة “تحملت هذه المسؤولية بشكل غير بارع بحيث أنها أحالت ما كان يمكن أن يكون ركوداً اقتصادياً معتدلاً إلى كارثة اقتصادية كبيرة” (فيردمان، 1987م، ص39).
ولكن في الوجه المقابل لم يكن تدخل الدولة في الإسلام في نشاطات الأفراد مرهوناً بإرادة مطلقة، ولم تكتسب حق التدخل إلا في إطار قواعد وضمانات محددة، مثل: تحقيق أهداف المصلحة العامة، والالتزام بالمقاصد الشرعية، وعدم التعسف في أسلوب التدخل (النبهان، 1981م، ص122- 125)، لأن الفرد هو محور اهتمام الشريعة في تقنين الأحكام، وأن إطلاق إرادة الفرد لتنمية شخصيته لا تنطبق إلا من مبدأ الحرية التي رعاها الإسلام في تنظيماته لشؤون الحياة.
ويمثل “بيت المال” صورة تطبيقية تقريبية لتدخل الدولة الإسلامية في مجال سياسة المال وبعض وجه النشاط الاقتصادي، ويعد بذلك المؤسسة الاقتصادية الأولى في النظام الاقتصادي الإسلامي من حيث ما يقوم به من أدوار اقتصادية مشابهة إلى حدٍ ما بعض أدوار البنك المركزي، ولكن مع وجود الاختلاف الجوهري عما هو متحقق حالياً من أنشطة اقتصادية واسعة، وتبادلات مصرفية معقدة يقوم بها الجهاز المصرفي بوجه عام.
وفي هذا الصدد يمكن حصر أبرز المسؤوليات المصرفية لبيت المال في الأوجه الآتية (عبد المنان، ص 205):
أولاً: المحافظة على أموال المسلمين المودعة في خزانة الدولة على شكل أمانات تسترد وقت الحاجة إليها من قبل أصحابها.
ثانياً: المسؤولية المباشرة عن الأموال التي تقع ضمن ملكية الدولة، وصرف هذه الأموال في تسديد رواتب الجند وشراء معدات الحرب ورعاية المصالح العامة للبلاد.
ويتضح من ذلك أن نشأة بيت المال من خلال البدايات الأولى لظهور الدولة الإسلامية في المدينة يشكل النواة الحقيقة لفكرة مصرف مركزي إسلامي، وذلك أن من أهم الواجبات الموكولة للبنك المركزي قيامه بتسديد مدفوعات الدولة وحفظ ودائعها ومعالجة جوانب العجز في موازنتها لا سيما في حالة الحروب والأزمات إضافةً إلى دوره في إدارة وتنظيم النقد، والتحكم في آليات العرض النقدي وفقاً لسياسات التوسع والإنكماش الاقتصادي، وحسبما تقتضيه ضرورة المصلحة العامة لمجموع الأفراد.
نشأة وتطور البنى الوظيفية والبحثية في المصرف الإسلامي
أولاً: تطور البنى الوظيفية:
يعد مبدأ تحريم الربا أو ما يسميه البعض إلغاء العائد على رأس المال الحافز الأهم في بلورة فكرة إنشاء المصارف الإسلامية. إلا أن هذه الفكرة لم تظهر إلى حيز الوجود حينما ولدت الدولة الإسلامية في المجتمع المدني الذي أعلن الخروج على المرابين وترسيخ التحريم القاطع لأية زيادة ربوية فوق رأس المال، كما جاء في الآية الكريمة: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ﴾ (البقرة: 279)، ولم تتبلور فكرة وجود مصرف إسلامي إلا بعد ازدياد عمليات التبادل وتعقد أنشطة الحياة الاقتصادية وانتشار أسواق تعتمد كلياً في رواجها وكسادها على أسعار ومعدلات الربا.
ومما لا شك فيه أن الواقع الاقتصادي والاجتماعي أسهم بشكل واضح منذ بدايات هذا القرن بإعادة التفكير وإحياء الإرادة والعزيمة لدى الشعوب الإسلامية بضرورة مقاومة هيمنة الاستعمار الذي اقتسم خيرات الشعوب المسلمة وصنفها إلى دول متخلفة أو نامية تستجدي مؤسسات المال الدولية للحصول على القروض الربوية والمساعدات أو أي شكل من أشكال التبعية. وإنصافاً للحقيقة فإنه يمكن اعتبار الصحوة الإسلامية التي ابتدأت انطلاقتها ما قبل منتصف هذا القرن هي أول من نادى في إطار الفكرة الجماعية الموحدة لاستئصال هيمنة المستعمر وتحرير الشعوب المسلمة من طوق التخلف المفروض عليها(1).
وكانت المحاولة الأولى لبناء الصرح المصرفي الإسلامي في عام 1963م من خلال مشروع “بنوك الإدخار المحلية” الذي باشر أعماله المصرفية التنموية في قرية “ميت غمر” في مصر وفق مبدأ تحريم الربا (ريدي، 1970م، ص30). وبالرغم من قصر الفترة الزمنية التي عاشتها هذه المحاولة والتي لم تتجاوز أربع سنوات فهي تبقى التجسيد الأول للطروحات المصرفية الإسلامية وقدرته على تغيير النمط المؤسسي الغربي في مجال المصارف وتكييفه مع اتجاهات الوسط الاجتماعي الإسلامي المغاير من الناحية الحضارية والنفسية، (رفيق المصري، 1987م، ص 325- 326).
ومع بداية السبعينات دخلت أفكار المصرف الإسلامي في تطبيقات جادة وإسهامات مهمة ابتدأت بانعقاد المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي في مكة المكرمة عام 1976م، ومن بعده المشروع المصرفي لنموذج اقتصادي متكامل لا يعمل بسعر الفائدة قدمه مجلس الفكر الإسلامي في الباكستان، وتوسع بعد ذلك البنيان الوظيفي لجهاز المصرف الإسلامي ليمتد إلى (45) دولة عربية وغير عربية وانتقلت بعض الدول إلى أسلمة النظام المصرفي كاملاً مثل إيران والباكستان والسودان (الخليفة، 1996م، ص 53).
ثانياً: تطور البنى البحثية:
فقد رافق عملية التوسع في إنشاء المصارف الإسلامية اهتمام متزايد في تأصيل الأفكار المصرفية، وفق الشريعة الإسلامية، وتنامى هذا الاهتمام الفكري وبخاصة في عقد الثمانينات حتى كاد أن يغطي مساحة واسعة من أشكال النشاط المصرفي، واشتمل البحث حينئذٍ على عناوين بارزة متنوعة، مثل بيع المرابحة والمضاربة والمشاركة والتأجير التمويلي والإجارة المنتهية بالتمليك، ومناقشة الحكم الشرعي فيما يتعلق بتوزيع العائد على الاستثمار، والاعتمادات المستندية، وخطابات الضمان والأوراق المالية وعمليات المقاصة وشهادات الاستثمار، وكذلك التطرق إلى بعض القضايا المهمة مثل تحليل الجوانب المحاسبية والصعوبات التي تواجه المصارف الإسلامية وكيفية توظيف الموارد واستخداماتها ودور الرقابة الشرعية وعلاقة بعض القيم الإسلامية بأداء عمل المصارف الإسلامية، مثل: علاقة المصرف الإسلامي بالعقيدة والأخلاق والدعوة والزكاة وتنمية المجتمع، وإسهامات هذه المصارف بمنح القرض الحسن وتمويل صغار المنتجين والأسر الفقيرة والمنتجة وقطاعات الحرفيين إلى غير ذلك من المهام الكثيرة.
وتنوعت آليات العمل البحثي عبر أساليب كثيرة منها عقد المؤتمرات والندوات والحلقات في دول كثيرة شارك فيها العديد من فقهاء الشريعة وعلماء الاقتصاد وخرجت بتوصيات لا حصر لها(2). ومنها إصدار الدوريات المتخصصة عن طريق مراكز البحث العلمي وقيام الكثير من المصارف الإسلامية بنشر وإصدار الدوريات المالية والاقتصادية حيث تقدم شروحات نظرية وتطبيقية معاصرة في مجال الاقتصاد الإسلامي(3). ومنها إنشاء مراكز بحث وجميعات وأقسام أكاديمية جامعية في كليات الاقتصاد والشريعة في بلدان كثيرة أسهمت في ازدياد الأهمية الكبيرة لواقع المصرف الإسلامي، وقد نتج عن هذه المراكز والمؤسسات البحثية مناقشة المئات من رسائل الدراسات العليا على مستوى الماجستير والدكتوراه(4).
ولكن مع وجود مثل هذه التغطية شبه الشاملة لقضايا المصرف الإسلامي في مجال البحث العلمي فإنه لا زال هناك مشكلات حقيقية تواجه انطلاقة المصرف الإسلامي في واقع الحياة، ومن المؤكد أن ظهور هذه المؤشرات في سياق الحديث عن نشأة وتطور البنى الوظيفية والبحثية للمصرف الإسلامي لا تعد من قبيل الثغرات الاختلالية إلا بالقدر الذي لا يعكسه جوهر النظام المصرفي الإسلامي على واقع الحياة المعاصرة، وأيضاً بالقدر الذي لا يرقى فيه هذا التطور إلى الطموحات والتطلعات المنشودة، وفي هذا الصدد تعتبر أهداف الرفاه الاجتماعي وتحقيق أغراض التنمية وفق أسس شرعية غير ربوية من أكثر الرؤى قبولاً وأعمقها غوراً في محاولة الإنعتاق من سيطرة الاقتصاد على علاقات الأفراد والدول، وأيضاً علاقات المصرف الإسلامي مع وجوده الشرعي في إطار التعامل مع السلطات المنظمة ممثلة بالبنك المركزي، مما يعني بالتالي تكريس الجهد العلمي لاستنباط علاقات جديدة متميزة وفق التكييف الشرعي للحياة المعاصرة.
تطور العلاقة بين البنك المركزي والمصرف الإسلامي:
تتأثر علاقة البنك المركزي بالمصرف الإسلامي تبعاً لطبيعة العمل المصرفي الملتزم بأحكام الشريعة الإسلامية التي تمثل قانوناً جوهرياً في تقييم أداء المصرف الإسلامي ومعاملاته من حيث الصحة أو البطلان.
ولذا فإن إجراءات المصرف الإسلامي تخضع لثلاثة أشكال من الرقابة وهي:
أولاً: الرقابة الشرعية: ويختص بها فقهاء متمرسون في أحكام المعاملات المالية، ويستند تبرير وجود مثل هذه الرقابة انطلاقاً من التزام المصرف الإسلامي بعدم التعامل بالربا أخذاً وعطاءً.
ثانياً: الرقابة الفردية أو الداخلية: ويقوم بها مجموعة المساهمين لأنهم أصلاً أصحاب رأس مال.
ثالثاً: الرقابة القانونية: وتتولى الدولة مسؤولية القيام بهذه الرقابة من خلال البنك المركزي، وتبرر هذه الرقابة على أساس أن المصرف الإسلامي يمارس نشاطاته المصرفية في إطار دولة يحكمها قانون ودستور وتشريعات خاصة بها.
والواقع أن المصرف الإسلامي يواجه اختلالات في علاقات العمل المصرفي في جميع أشكال الرقابة المفروضة عليه، ففي جانب الرقابة الشرعية مثلاً يواجه صعوبة ازدواجية التخصص لهيئة الرقابة الشرعية، أي عدم وجود فقهاء يحيطون بجوانب العمل المصرفي وإجراءاته المتنوعة بشكل كافٍ، علاوة على الاكتفاء أحياناً بوجود مستشار شرعي بدلاً من وجود هيئة رقابة شرعية متكاملة (ملحم، 1989م، ص257).
وأما في جانب الرقابة القانونية –وهي محل البحث- فإن الاختلالات الوظيفية للمصرف الإسلامي تظهر بوضوح من خلال العلاقات الائتمانية والنقدية مع البنك المركزي على ما سيأتي بيانه، ويكتسب البنك المركزي حقه في فرض الهيمنة والتحكم في السياسة المصرفية للبنوك لأنه يمثل السلطة الفعلية لإرادة الدولة في تطبيق القانون، ومن المعلوم أن الشريعة الإسلامية تمنح الدولة سلطات ومسؤوليات مباشرة في رعاية المصالح العامة، والمصلحة العامة هي كل ما يرفع حرجاً أو يدفع ضرورة قطعية عن سائر الأفراد (الغزالي، 1971م، ص207)، ويستند التكييف الشرعي في جوهره حول هذه المسألة إلى ما يطلق عليها فقهاء الشريعة مصطلح “المقاصد الشرعية”، ويعني حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، حيث اعتبروا أن هذه المقاصد تقع في رتبة الضروريات وأن الوسائل المؤدية إلى صيانتها والمحافظة عليها هي من أقوى المصالح (الغزالي، د.ت، ص 174)، ولذا فإن تدخل البنك المركزي بهذا الوجه يعد ضرورة لحفظ المال ومن ثم فهو مصلحة أكيدة يحث عليها الشرع.
إلا أن تدخل البنك المركزي في هذا المجال ليس مقتصراً على هدف المال وإنما يمتد تأثيره لتحقيق أهداف التنمية الاقتصادية الشاملة من خلال توجيه الاستثمارات في قطاعات محددة واستخدام الأدوات النقدية المناسبة في حالات التوسع والإنكماش الاقتصادي ومراعاة حالات التوازن الاجتماعي بين المستثمرين والمدخرين وما شابه ذلك من إجراءات (النبهان، 1986م، ص101).
ويعود سبب نشوء الاختلالات في علاقات المصرف الإسلامي بالبنك المركزي إلى وجود التناقض الواضح في عملية الرقابة الشرعية المستمدة من أصول الشريعة الإسلامية وعملية الرقابة القانونية للبنك المركزي المستمدة من قوانين وضعية. ولذا فإن إعادة تصويب مثل هذا الواقع الذي نشأت فيه المصارف الإسلامية وهو يفتقر إلى معطيات الشريعة يقتضي النظر الجاد في محاولة استنباط علاقة جديدة بين المصرف الإسلامي والبنك المركزي أكثر ملاءمة لأنظمة ونشاطات المصارف الإسلامية الخالية من الربا (قيلي، 1986م، ص16). ولا شك أن محاولة إيجاد علاقة مصرفية مستنبطة من واقع الحياة المعاصرة في إطار أحكام الشريعة لا يعتمد في نجاحه على إلغاء العائد على رأس المال أو عدم التعامل بالربا فحسب، حيث أن من المعروف أن حركة المصرف الإسلامي تخضع في ممارسة نشاطاتها لأوعية تنظيمية مستوحاة تماماً من هياكل المؤسسات الربوية دون إحداث فحوصات عميقة للفرق الجوهري بين الاتجاهين.
ومن هنا فإنه ينبغي ولو بشكل تدريجي الأخذ بقاعدة التغيير الجوهري وإعادة ترتيب أوضاع المنشأة المصرفية الإسلامية والمؤسسة الشرعية اللاربوية وفق رؤى وأطر وهياكل جديدة تتناسب مع طبيعة الطرح التكاملي والشمولي لمنهج الإسلام (الخليفة، 1996م، ص 56- 57) .
منشأ اختلا العلاقة القانونية بين البنك المركزي والمصرف الإسلامي :
يعود منشأ الاختلال لواقع العلاقة المتبادلة بين البنك المركزي والمصرف الإسلامي إلى عدم وجود صياغة شرعية ملاءمة لطبيعة عمل الجهاز المصرفي الإسلامي. فالتشريعات القانونية السائدة لا تفصل في مبدأ الرقابة بين مصرف إسلامي وآخر غير إسلامي، مما ينتج عن ذلك إخضاع عمليات الجهاز المصرفي الإسلامي لنفس الإجراءات القانونية مع عدم تجانسها وتباينها الواضح مقارنة بالبنوك الأخرى .
فالبنوك بوجه عام إما أن تكون تجارية أو غير تجارية، والينوك التجارية تساهم في إعادة تدوير الأموال وسرعة تسييلها أكثر من البنوك غير التجارية ، لأنها تعتمد بالدرجة الأولى على الودائع تحت الطلب المسحوبة بشيك، وودائع أخرى قصيرة الأجل، ولاشك أن هذه الآلية تؤثر على القاعدة النقدية وعرض النقود مما يدخل مباشرة في إطار اهداف البنك المركزي الرامية لضبط عرض النقد وسياسات الائتمان، وخلافا لذلك فإن البنوك الإسلامية لا تعتبر تجارية بالمعنى الشائع حيث لم تباشر عملياتها المصرفية وفق الأساليب المعتمدة من البنوك التجارية، ولذلك لا تؤثر بنفس الدرجة على العرض النقدي(حسن،1985م،ص29) .
وفي إطار العلاقة غير المتكافئة في فرض التشريعات القانونية بين البنوك العاملة مجتمعة، فإنه ينبغي إعادة المصرف الإسلامي وفق أسس أخرى غير تجارية،لأن المصرف الإسلامي يقوم بكافة العمليات المتخصصة في المجالات الاستثمارية مثل الزراعة والصناعة والمقاولات والتنمية وغيرها، ومن شأنإحداث أية تغييرات جوهرية للرقابة القانونية المفروضة على سياسات المصرف الإسلامي أن تحد من نسب الحد الأدنى للاحتياطي، أو تعيد تكييف هذه النسب بناء على نفس المنطلقات التشريعية التي تهدف إلى حماية ودائع الأفراد،وذلك أن مجال النشاط المصرفي الإسلامي لا يقوم على توظيف ودائع الأفراد على أساس مبادلة النقد وإنما استثمار هذه الودائع وتحملها لمخاطر الاستثمار بين المودع والمصرف الإسلامي واشتراك الطرفين في نتائج الربح والخسارة .
وكذلك فإن إعادة النظر في منشأ الرقابة القانونية ومحاولة تصويبه يسمح بتغييرات جوهرية لاتساق أداء المصارف الإسلامية في نطاق الإقليم الواحد بدلا من تقسيم بعضها إلى بنوك تجارية والبعض الآخر إلى بنوك غير تجارية. ويسمح في نفس الوقت بتوحيد النماذج المخططة من البنك المركزي وفق النشاطات المصرفية الحقيقية التي يمارسها المصرف الإسلامي واعتماد الفتاوى والتعاملات الشرعية التي يلتزم بها مما يؤكد ضرورة إعفاء المصرف الإسلامي من نسب الاحتياطي الثابتة وإعفائه من القيود المفروضة على ممتلكاته من الأصول الثابتة أو المنقولة حيث لا وجود لأخطار محتملة لعدم وجود القروض أصلاً(المصدر نفسه،ص30-32)، وبخاصة أن المصرف الإسلامي أقدر على توظيف الائتمان نحو المناشط المطلوبة بما يحقق أهداف البنك المركزي لأنه شريك مع العميل في مناحي الاستثمار المختلفة (قيلي، 1986م، ص17).
المبحث الثاني
متطلبات الحد الأدنى للاحتياطي النقدي
مفهوم وطبيعة اختلال العلاقة للاحتياطي النقدي:
يشترط البنك المركزي على سائر البنوك التابعة له بوضع حد أدنى من الاحتياطي النقدي في خزائنه لمواجهة الحالات الطارئة، ويتخذ هذا الاحتياطي شكل الرصيد القانوني الفوري لضمان ودائع العملاء. ويلجأ البنك المركزي في العادة لاستخدام هذا الاحتياطي للتأثير في حجم الائتمان وعرض النقد، والواقع أن فرض أية زيادة على متطلبات الاحتياطي القانوني تعني إضعاف القدرة لدى البنوك العاملة على إعطاء القروض، وقد تلجأ بعض البنوك إلى شباك الخصم لتعويض النقص في الاحتياطي حينما تواجه ضغوطاً من جراء شراء السندات في عمليات السوق المفتوحة.
وعلى أية حال فإن البنك المركزي يستطيع استخدام كامل سلطته في تغير نسب الاحتياطي، مثلما يستطيع تماماً أن يمارس صلاحياته في تغيير أو إيقاف نشاطات البنك إذا تعرضت مصالح المودعين أو كادت أو تتعرض لأخطار محققة (عطية، 1405ﻫ، ص 65). وفي حالة تغيير نسب الاحتياطي يتمكن البنك المركزي من تقييد الودائع الآجلة بنسب أقل من الودائع تحت الطلب، لأن الأولى لا تحتمل عنصر المخاطرة مثل الثانية. وأحياناً تفرض نسب احتياطي أعلى على البنوك الكبيرة من البنوك الصغيرة بعدم إحباط شعورها ووجودها المصرفي وبالتالي خروجها من السوق (سيجل، ص 265- 266).
غير أن البنك المركزي يلجأ إلى فرض نسبة زيادة ربوية على حالات العجز للبنوك التي لا تتمكن من تسوية أوضاعها ضمن الحدود الدنيا للاحتياطي القانوني. ولا شك أن فرض هذه الزيادة يشكل اختلالاً واضحاً في علاقة البنك المركزي بالمصرف الإسلامي، لأن الأخير لا تتماشى معاملاته المصرفية خلافاً للطريقة المثلى القائمة على الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية، وأن تقرير أية زيادة ربوية على علاقاته المصرفية تسبب له إحراجاً في ثقة المتعاملين علاوة على خرق القواعد الشرعية التي يلتزم بها.
ومن هنا فإنه لا بد من إعادة تكييف أو تصويب أوضاع الاحتياطي القانوني لينسجم مع معطيات العمل المصرفي الإسلامي، وتبرز أهم الأفكار المطروحة في هذا المجال على النحو الآتي:
1- أن يقوم البنك المركزي بإعفاء الودائع الاستثمارية لدى المصرف الإسلامي من حسابات وقيود الاحتياطي القانوني، لأن هذه الودائع مشروطة على المصرف الإسلامي من قبل العملاء لاستخدامها في مجالات إنتاجية ومشروعات ربحية وليس تعطيل الاستفادة منها لتغطية متطلبات الاحتياطي القانوني (قيلي، 1986م، ص17).
2- عدم إلزام المصرف الإسلامي بأية متطلبات للاحتياطي القانوني إلا في حدود نسب أقل من غيرها من البنوك التقليدية، وذلك بالقياس على إمكانية خفض نسب الاحتياطي للبنوك الصغيرة والودائع لأجل وغير ذلك، وأن يتم هذا الإجراء من خلال فهم قاعدة الغنم بالغرم والآلية التي تنسجم معها، حيث ما زال المصرف الإسلامي لا يتساهل في قبول الفائض الربوي المترتب على مساهماته في الاحتياطي النقدي.
3- عدم تطبيق سعر الفائدة الجزائي على المصرف الإسلامي في حال عدم الوفاء بالحد الأدنى لمتطلبات الاحتياطي القانوني واستبداله بنظام غرامة مرتبط بحجم التجاوز (مجلس الفكر الإسلامي، 1984/، ص 80)، وذلك انسجاماً مع واقع العمل المصرفي الإسلامي الخالي من الربا.
4- إعادة تبويب المصرف الإسلامي في نطاق بنوك إسلامية وليس بنوك تجارية بحيث تأخذ الصيغة الجديدة مفهوم الاتجاه المهني والتنموي والمؤسسي الذي يسهم في مشروعات ذات أهداف متعددة، إلى جانب مراعاة طبيعة العمل المصرفي الذي لا يعتمد المبادلة بالنقد وسياسة القروض قصيرة الأجل والسحب على المكشوف القائم على مبدأ الربا (السالوس، 1983م، ص74)، مما يعزز فكرة عدم تأثير المصرف الإسلامي على العرض النقدي مثل غيره من البنوك التجارية التي تعتمد مبدأ الربح السريع وتدوير النقد وسرعة تسييله والتأثير على القاعدة النقدية والعرض النقدي بشكل مباشر، وبالتالي فإن إعادة التبويب وتصنيف المصرف الإسلامي وفق هذه المعطيات يساعد في إيجاد تسهيلات للتعامل معه في تطبيق سياسة الاحتياطي القانوني لضعف علاقته وتأثيره على العرض النقدي.
5- أن يسهم المصرف الإسلامي من جهته بتقنين عملياته المصرفية من حيث حجم الودائع وأنماط الاستثمار لمدة قصيرة أو متوسطة الأجل وظبط سياسة الائتمان والتعامل مع الأسواق المالية وما شابه ذلك وربط جميع هذه المؤشرات بقدرة المصرف على الالتزام القانوني بالحد الأدنى للاحتياطي وذلك للحيلولة دون الوقوع في إشكالات الفائض الربوي.
الاحتياطي النقدي والزكاة:
ينشأ عن تطبيق البنك المركزي لنسبة حد أدنى للاحتياطي القانوني على المصرف الإسلامي علاقة اختلالية بينهما من جهة تعطيل الاحتياطي النقدي عن الانتفاع وتعلقه بحق الزكاة. وذلك أن المصرف الإسلامي لا يتمكن أو على الأقل لا يستعد من الناحية العملية لاستقطاع أية نسبة زكوية عن الاحتياطي النقدي لأنه من قبيل الأموال المحتجزة غير المنتجة والتي لا تحقق عائداً أو مردوداً اقتصادياً لأصحابها، ولربما تعد هذه العملية من وجهة نظر المصرف الإسلامي غير منطقية لأن خصم نسبة الزكاة من الاحتياطي يعني تآكل مستمر لرأس المال المعطل، ويفضي هذا الوضع في النهاية إلى خسارة محققة في القيمة الإجمالية لرأس المال، وذلك من وجهين أحدهما أن رأس المال المودع على شكل احتياطي لا يستفاد منه في عمليات المشاركة أو المرابحة أو أية عملية إنتاجية ممكنة، وثانيهما أنه رأس مال معطل عن إمكانية تحقيق ربحية مفترضة من قبل المساهمين والمودعين، ومن أجل ذلك فإن المصرف الإسلامي يلجأ عن طريق آلية الرقابة الشرعية إلى الأخذ بفتاوى مبنية على أساس رخص شرعية أو بالأحرى اتخاذ مواقف متساهلة في هذا الجانب لتجاوز إشكالية العلاقة الاختلالية في مجال دفع الزكاة، ويت ضح هذا المنحى وفق كثير من المبررات أمها (السائح، 1987، ص15):
– الزكاة لا تجب في نصاب مشترك.
– لا يجوز للشريك أن يخرج زكاة عن شريكه إلا بإذنه.
– إن المصرف الإسلامي لا يملك الاحتياطي ملكاً مطلقاً لأنه في حكم الودائع والأمانات المخصصة لغرض خاص.
 حيث ارتأى بعدما تكاثرت الأموال في عصره أنt- حجية تصرف عثمان  تتبعها لاستخراج الزكاة منها يشكل ضرراً بأصحابها ففوض الأداء إليهم بإجماع الصحابة، وصار أرباب الأموال كالوكلاء عن ولي الأمر.
ولكن لا تعد هذه الأدلة والتبريرات سليمة من الوجهة الشرعية بقدر ما هي سليمة من الوجهة التكييفية، حيث ترمي إلى تجسير العلاقة الاختلالية بين الرقابة القانونية والرقابة الشرعية، وهي في رأي الباحث محاولة لتضييق حدة الاختلالات وتأثيراتها بمخارج شرعية ينقصها الإحاطة والشمول، ويمكن توضيح ذلك بالنقاط الموضوعية الآتية:
1- أن الفقهاء ناقشوا وجوبية الزكاة في النصاب المشترك فيما يدخل في موضوع الخلطة، وكان المقصود عندهم بالخلطة الاشتراك في تربية وملكية الأنعام لأكثر من شخص، غير أن الشافعية ذهبوا إلى أبعد من ذلك فقاسوا خلطة الأنعام على خلطة الزروع والثمار والدراهم والدنانير، وقالوا بأن الخلطة تؤثر في الدراهم والدنانير (النووي، 2/172،- 173). وبالتالي فإن دفع الزكاة في المال المشترك يتأثر وفق تغير الأنصبة لأن النصاب المشترك يعامل كوحدة واحدة، وستتبع ذلك أن الشرك يدفع زكاة مال شريكه لأن المال هنا يصب في قناة زكوية واحدة.
2- والقول بأن الاحتياطي يدخل في باب الأمانات للغير وأنه غير مملوك على إطلاقه للمصرف الإسلامي هو قول غير سديد لأن الاحتياطي يسهم من وجهة النظر الائتمانية في ضمان تغطية نقدية لأية مخاطر محتملة ضد ودائع الأفراد، أي أنه يقوم بدور وظيفي لمصلحة النشاط المصرفي لسائر العمليات المنوطة به. وإذا فرض جدلاً أن الاحتياطي من قبيل الأمانات فهي أمانات نقدية معطلة عن الانتفاع بها في مجالات إنتاجية غير تغطية الائتمان، وتدخل في حيز الاكتناز وحبس الأموال التي نهى الإسلام عنها وحث على إخراج الزكاة فيها من أجل تسريع تداولها والاستفادة من تثميرها وتشغيلها بدلاً من حبسها(5)، فالمعلوم أن الثروة المعطلة تفقد (25%) من قيمتها الإجمالية عند دفع الزكاة في مدة (12) سنة، وتفقد (90%) من قيمتها الإجمالية في (100) سنة (قحف، 1979م، ص118). ويستفاد من ذلك أن على المصرف الإسلامي أن يحاول وضع أسس منهجية نحو إعادة صيغة التعاقد مع البنك المركزي حول قانونية التصرف بالاحتياطي وفق أشكال الاستثمار المختلفة، والاعتراف ضمنياً بعدم جدوى حبس أموال الغير وتعطيل الانتفاع بها مما يعزز من تضافر الجهود لحل مشكلة مطروحة واختلال قائم بدلاً من التماس مخارج تكيفية لهذه الغاية.
3- وأما الاحتجاج بتصرف عثمان رضي الله تعالى عنه بأنه لم يتتبع زكاة الأموال النقدية في عهده بسبب كثرتها وما تحدثه من حرج وضرر يعود على أصحابها، فإن مثل هذا الاحتجاج لا يعتد به في هذا الزمان لأن الضرر المحتمل الوقوع على أصحاب الأموال حين زكاتها في ذلك الزمان غير ممكن وقوعه في هذا الزمان بفضل دقة الإجراءات المحاسبية وسهولة الوصول إلى القيود المالية لكل من وجبت عليه الزكاة في المكان والوقت المناسب. والأهم أنه إذا جاز قبول تصرف عثمان في زمنه فإنما يعود إلى ثقته بأن الناس سيقومون بدفع الزكاة عن خاطرهم لأنهم علموا أولاً موقف الإسلام من مانعي الزكاة وبخاصة في عهد الخليفة أبي بكر رضي الله تعالى عنه حينما أشهر السيف في وجوه الممتنعين عن أداء الزكاة وقال قولته المشهورة: “والله لو منعوني عناقاً- وفي رواية عقالاً- كانوا يؤدونها لرسول الله لقاتلتهم على منعها” (الشوكاني، 4/119) وهم ثانياً يحملون ضمائر حية مركوزة في أنفسهم أصح من ضمائر الناس في هذا الزمن لالتزامهم بتطبيق شعائر الإسلام وأحكامه وقربهم من عهد الرسول ، ومع ذلك فإن عثمان رضي الله تعالى عنه لم يترك هذه المسألة إطلاقاً وإنما فرقe بين الأموال الباطنة والظاهرة ولم يوكل جباية الأمواغل الظاهرة لضمائر الناس إذ لم تكن جبايتها أمراً عسيراً، ويظل تصرف عثمان رضي الله تعالى عنه اجتهاداً قائماً بذاته يصلح لذلك العصر.
ونتيجةً لذلك فإنه ينبغي على المصرف الإسلامي إعادة النظر في مسألة الزكاة المتعلقة بالاحتياطات المحتجزة، وأن يباشر وفق آلية اقتصادية مناسبة لاقتطاع نسبة الزكاة المقررة (عبد السميع المصري، 1988م، ص97) علماً بأن توزيع مقادير الزكاة المتحصلة تخضع للأسس المعمول بها في صندوق الزكاة التابع للمصرف الإسلامي أو أية جهة أخرى مؤتمنة، ويجوز أن تخضع أموال الزكاة لأوجه الاستثمار الشرعية في ظل رقابة وإشراف المصرف الإسلامي وأن توظف في مشاريع إنتاجية واسعة النطاق لتقليل التكلفة وتحقيق عوائد أعلى لمصلحة المستحقين حسب حصصهم أو الأسهم المستحقة لهم أو أية أطر هيكلية مناسبة لهذه الغاية.
الاحتياطي النقدي والفائدة المستحقة:
يترتب في أغلب الأحيان على وجود الاحتياطي النقدي لدى البنك المركزي استحقاق فائض ربوي لمصلحة المصرف الإسلامي، والمعروف أن المصرف الإسلامي لا يتعاطى الربا أخذاً ولا عطاءً، ولذا فإنه يمتنع عن تحصيل هذا الفائض ويتخذ موقف الرفض القطعي من قبوله أو استخدامه في أي وجه من وجوه الانتفاع. والسؤال المطروح في هذا الجانب هو إلى أي مدى يمكن اعتبار مثل هذا الاتجاه سليماً؟ وهل ينسجم ذلك مع أهداف المصرف الإسلامي في تحقيق التنمية وبخاصة التنمية الاجتماعية التي محورها الإنسان؟ وأيهما أفضل استخدام هذا الفائض في تطويق مشكلات المجتمع وأهمها الفقر وفق نظرة فقهية معاصرة أم الاكتفاء بالوقوف عند ظواهر النصوص دون تتبع الجوانب الأخرى المحيطة بها؟
والواقع أن تكييف هذه المسألة وفق الأوضاع الاجتماعية المعاصرة يحتاج إلى المزيد من الاعتبارات الشرعية الشاملة ويتطلب جهداً علمياً يناط بمسؤوليات هيئات الرقابة الشرعية التابعة لجهاز المصرف الإسلامي، وأن مسألة أخذ الربا وتوزيعه في مجالات المصلحة أو عدم أخذه يخضع للكثير من الأسس، والمعايير ولعل من أهمها:
أولاً: أن تناول الحرام حينما يكون ملزماً لصاحبه، ولا مندوحة للكف عنه، وينسجم مع رعاية المقاصد الشرعية وتحقيق المصالح فلا بأس به ويمكن التصرف فيه. وفي هذا السياق يقول الإمام الغزالي في شفاء الغليل: فإن قال قائل: لو طبق الحرام طبقة الأرض أو خطة ناحية وعسر الانتقال منها… ودعت المصلحة إليه، فهل يسلطون – أي الناس- على تناول قدر الحاجة من الحرام لأجل المصلحة؟… قلنا: إن اتفق ذلك… فيجوز لكل واحد أن يزيد على قدر الضرورة، ويترقى إلى قدر الحاجة في الأقوات والملابس والمساكن؛ لأنهم لو اقتصروا على سد الرمق: لتعطلت المكاسب، وانبتر النظام، ولم يزل الخلق في مقاساة ذلك إلى أن يهلكوا. وفيه خراب أمر الدين وسقوط شعائر الإسلام… فهذه مصلحة ظاهرة بعمومها وملائمتها لنظر الشرع، لا مرية فيه” (الغزالي، 1971م، ص 246).
ثانياً: مراعاة الأخذ بالقواعد الشرعية الكلية، ومحاولة تطبيقها في إطار الوقائع والقرائن المعتبرة والتي تعود بالنفع والخير على أفراد المجتمع مثل: “التصرف على الرعية منوط بالمصلحة”، “الضرر يزال”، “الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف”، “الضروروات تبيح المحظورات”، “الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة أو خاصة”، وما شابه ذلك من القواعد الكلية (زيدان، 1986م، ص 97- 100).
ثالثاً: مراعاة الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في إطار الإقليم الواحد، فالمعلوم أن البنك المركزي يمثل سلطة رقابية تابعة للدولة أو الكيان السياسي السائد، ومن ثم فإن موقف المصرف الإسلامي المتضمن رفض الفائض الربوي المستحق على ودائعه الاحتياطية يقضي بتحويل هذا الفائض تلقائياً إلى الخزينة العامة للدولة، ومن جانب آخر فإنه يقع على مسؤولية الدولة تأمين الحد الأدنى للفقراء من القوت واللباس والمسكن (ابن حزم، 6/156) وما شابه ذلك من الضروريات مثل تأمين الرعاية الصحية والتعليمية والأمنية، فإذا كان الفقير مسلوباً في حقوقه من قبل القائمين على الأمر فليس من أدنى شك أن تصرف المصرف الإسلامي بتحويل الفائض الربوي إلى الدولة التي تنتزع حق الفقير أصلاً بدلاً من تحويله إلى المظلوم إنما هو تكريس لمبدأ الظلم وإعانة للظالم على ظلمه وحرمان للفقير.
ويقاس على الحكم الشرعي المتعلق بالفائض الربوي المستحق على الاحتياطي القانوني أية فوائض ربوية أخرى مستحقة للمصرف الإسلامي مثل الفائض الربوي المستحق على الأمانات النقدية التي يستودعها المصرف الإسلامي لدى البنك المركزي، حيث تنشأ هذه العملية حينما يواجه المصرف الإسلامي فائض سيولة أو ودائع إضافية لا تستوعبها قنوات الاستثمار المتاحة فيلجأ إلى استيداعها على شكل أمانات في خزائن البنك المركزي الذي يقوم بدوره بتوظيفها كونها سيولة تدخل بحر الودائع فيترتب عليها فوائض ربوية مستحقة لمصلحة المصرف الإسلامي، ويمكن في هذا الجانب أن يلعب المصرف الإسلامي دوراً ريادياً وفعالاً في حل إشكالية العلاقة بينه وبين البنك المركزي من جهة استحقاق الفائض الربوي من جهة، وأن يسهم في حل مشكلات المجتمع وقضايا التنمية الإنسانية وأهمها تخليص الإنسان من براثن الفقر.
المبحث الثالث
وظيفة المقرض الأخير وسياسة سعر الخصم وعمليات السوق المفتوحة
وظيفة المقرض الأخير:
يمارس البنك المركزي دور المقرض الأخير وفق ما يسمى “شباك الحسم” فيلجأ إلى رفع أو خفض نسبة الحسم على القروض الممنوحة بما يتماشى مع اتجاهه نحو تشجيع نشاط الاستدانة المصرفية (لي، 1988م، ص 83). وفي الغالب يتدخل البنك المركزي كمقرض أخير من أجل تصويب بعض أشكال العجز التمويلي حينما تخرج السياسة المصرفية لبعض البنوك عن سيطرتها، ويسمح هذا النوع من القروض الطارئة طويلة الأجل بتدفق كمية احتياطيات إضافية مناسبة لمواجهة العجوزات المتحققة أو الأخطار المحتملة (سيجل، ص 257).
وثمة اختلالات واضحة يواجهها المصرف الإسلامي في إطار علاقته المصرفية بالبنك المركزي كمقرض أخير، حيث لا يتمكن من تدعيم مواقفه الصعبة في مجال السيولة والائتمان بالاستفادة من القروض الممنوحة بسبب ارتباطها بنسبة حسم ربوية، ويترتب على هذه الأشكال إجراءات مصرفية انكماشية يقوم بها المصرف الإسلامي لمواجهة أية أخطار محتملة أو انعكاسات سلبية مختلفة، ومن أهم هذه الإجراءات (شحادة، 1987م، ص28):
أولاً: توجيه سياسات الاستثمار وتوظيف الودائع في نطاق فترات تمويل قصيرة ومتوسطة الأجل.
ثانياً: الإبقاء على نسبة عالية من السيولة الجاهزة لمواجهة الطوارىء خلافاً لإمكانية الاستفادة منها في مجالات الاستثمار المنتجة وتحقيق عوائد عالية عليها تعود لمصلحة المودعين.
ثالثاً: الحد من الاتجاه التمويلي في مجال الاستثمارات المتنوعة، والاكتفاء غالباً بأساليب الاستثمارات على شكل مرابحة بسبب ما تحققه من سرعة في التسييل ووضوح في العائد والتدفق النقدي.
إلا أنه وفي ضوء ضرورة تكييف واقع العمل المصرفي الإسلامي لينسجم مع آليات البنك المركزي، فإنه بمقدور المصرف الإسلامي لحل إشكالية المقرض الأخير تتبع طرق تمويلية أخرى غير قائمة على مبدأ الحسم الربوي، ومن هذه الطرق:
أولاً: مساهمة المصارف ومؤسسات التمويل الإسلامية بنسبة معينة من ودائعها لدى البنك المركزي، فتشكل هذه المساهمة وديعة مصرفية واحدة يمنحها البنك المركزي لأي مصرف إسلامي يواجه أخطار ومشاكل محققة (حسن، 1985م، ص33)، ويمكن أن تخضع حزمة الودائع الموحدة لمشاركات المصارف الإسلامية في نطاق الإقليم الواحد ويمكن أن تتسع لتشمل مصارف أخرى خارج الإقليم الواحد حسب آلية العمل وفرصة المساهمة والجدوى الاقتصادية الممكنة.
ثانياً: أن يتبنى البنك المركزي أسلوب المشاركة في الربح والخسارة (متولي، 1983م، ص87)، وأن ينتهج في تطبيقه هذه الآلية مسلك الأخذ بنسبة المشاركة التفضيلية للقطاعات ذات الأولوية بدلاً من أسعار الحسم التفضيلية (قيلي، 1986م، ص19)، وإلى جانب ذلك ينبغي على البنك المركزي التعامل مع المصرف الإسلامي وفق الأساليب الشرعية الممكنة وحسبما تقتضيه مصلحة العمل، ومن هذه الأساليب صيغة المضاربة (حسن، 1985م، ص33) حيث يمثل البنك المركزي باستخدام هذه الصيغة دور صاحب رأس المال ويمثل المصرف الإسلامي دور المضارب.
وعلى أن المصرف الإسلامي لا يتمكن من العمل بنفسه لأنه يمثل وسيطاً مالياً في الأصل، فيمكنه في هذه الحالة أن يلعب دور “المضارب الوسيط”، وقد أجاز الفقهاء نيابة المضارب كوسيط مالي بتحويل رأس المال إلى مضارب آخر، واشترطوا لصحة هذا الإجراء لكي يتمكن المضارب الأول (المصرف الإسلامي) من تمثيل دور وسيط أن يحصل على تفويض عام أو إذن خاص صريح من رب المال (الكاساني، 7/95).
ثالثاً: إحلال مصرف إسلامي عالمي أو مركزي للقيام بدور المقرض الأخير وفق أحكام الشريعة الإسلامية وذلك من خلال عضوية المصارف الإسلامية حيثما وجدت، ودون النظر إلى امتيازات الإقليم الواحد، حيث تحقق هذه الآلية بعض الإيجابيات الهامة مثل:
– تعميق الروابط بين المصارف الإسلامية وتجسير الفجوات فيما بينها، بحيث تتكون من خلال مبدأ العضوبة لدى المصرف الإسلامي العالمي فوائض سيولة ضخمة تعجز أجهزة الاستثمار في بعض البنوك عن استيعابها فتسد مواقع الخلل وحالات العجز الطارئة عند المصارف الأخرى (زعير، 1984م، ص2-3).
– مراقبة السياسة الائتمانية في جميع مناطق الاستثمار التابعة للمصارف الإسلامية مما يساعد في تجنبها الوقوع في إشكالات العجز التمويلي أو تنفيذ سياسات ائتمانية خاطئة (حمزة، 1985م، ص4).
– بناء كتلة مالية ذات ثقل مصرفي على المستوى الدولي، وقد تسهم المصارف الإسلامية في هذه الحالة في ضبط انسياب الأموال بين البلدان الإسلامية وفق رؤية شمولية، ولربما يفتح هذا المجال فرصاً ذات أهمية قصوى للمصارف الإسلامية تلعب من خلالها أدوار مصرفية شبيهة بالأدوار التي تقوم بها كتلة الدول العشر الغنية التابعة للدول الغربية، والتي تتحكم بموجبها في نشاطات الأسواق المالية العالمية (المصدر نفسه، نفس الصفحة).
سياسة سعر الخصم:
يسمح مبدأ سعر الخصم بوجود فرص حقيقية للبنوك التقليدية للحصول على القروض من البنك المركزي، وبخاصة حينما تواجه هذه البنوك خسارة غير متوقعة في الاحتياطيات أو زيادة مفاجئة على شباك الائتمان أو عدم القدرة على تحصيل سيولة ضرورية في سوق النقد. وتتم آلية سعر الخصم في إطار رقابة البنك المركزي وسيطرته المطلقة على القاعدة النقدية، ولذا يحتاط البنك المركزي للقيام بهذا الإجراء بمعرفة خلفية البنك المقترض ومديونيته واحتياطاته وأية عوامل أخرى تؤثر على مكانته النقدية (سيجل، ص256- 257).
ومن جانب آخر، يقوم البنك المركزي بتطبيق آلية سعر الخصم تبعاً لحال السوق فمثلاً يرضى البنك المركزي بهامش فائدة بسيطة أثناء التوسع الاقتصادي، وتعتبر مثل هذه الإجراءات مقبولة ومنطقية في ظل المزايا والمردود المنتظر على مستوى الاقتصاد الوطني.
وفي إطار علاقة المصرف الإسلامي بالبنك المركزي فليس ثمة منفعة مقبولة تعود عليه من وراء تطبيق سياسة سعر الخصم، فلو فرض أن هذه السياسة مثلاً اتجهت نحو تكييف الاستثمار في قطاعات محددة أو تشجيع التصدير في سلع معينة أو توجيه الإنتاج لاستقطاب العملة الصعبة، فإن المصرف الإسلامي لن يستفيد من التسهيلات الممنوحة من خلال سياسة سعر الخصم لتحقيق هذه الأهداف، لأن سياسة سعر الخصم تجري من خلال قنوات ربوية، وينعكس ذلك سلبياً على المصرف الإسلامي والبنك المركزي سواء بسواء، فالمصرف الإسلامي لا يتمكن من القيام بمهمة تصدير البضائع والسلع إلا بتكاليف جديدة مضاعفة على العملاء (شحادة، 1987م، ص27) مما يقلل من فرص المنافسة الحقيقية في مواجهة البنوك التقليدية، وأما بالنسبة للبنك المركزي فإن اعتماده على مبدأ الفائض الربوي في سياسة الخصم من شأنه أن يحد من الاستخدام الأمثل لأدوات السياسة النقدية لأن المصرف الإسلامي يمثل في الغالب قوة مالية ونقدية فاعلة ومؤثرة على مستوى الجهاز المصرفي ككل، وذلك بفضل ما لديه من فائض سيولة لا تسمح سياسة الفائض الربوي باستخدامها أو الانتفاع بها.
إلا أنه يستطيع البنك المركزي أن يتبنى بدلاً من آلية سعر الخصم صيغة ملائمة لأحكام العمل المصرفي الإسلامي كالمشاركة في الربح والخسارة، وعن طريق تطبيق هذه الصيغة الجديدة يستبدل الحد الأدنى والأعلى لأسعار الفائدة بالحد الأدنى والأعلى لنسب الأرباح والخسارة، وتخضع بذلك جميع أشكال السلف والودائع والتحويلات الممنوحة للمصرف الإسلامي لآلية العمل الاستثماري الذي بدوره يخضع للربح والخسارة (مجلس الفكر الإسلامي، 1984م، ص82، 84)، ويمكن توزيع الأرباح في عمليات المشاركة على أساس التحكم في حجم علاوة الإدارة، ويقصد بهذه العلاوة أن الأرباح الموزعة في اتفاق المشاركة بين البنك المركزي والمصرف الإسلامي يتم تجنيب نسبة منها كمكافأة عن إدارة نشاط الأعمال أو ما يسمى الوظيفة الاستثمارية، ويتم تخصيص الجزء المتبقي لتوزيعه بين الطرفين حسب رأس المال (الهندي، 1989م، ص29).
ويمكن أن يتحدد شكل مشاركة البنك المركزي في إطار الصيغة الشرعية على نمط مماثل للتأثير الذي يحدثه التغير في سعر الفائدة، فيقوم البنك المركزي باعتماد سياسة تغيير نسب المشاركة في الأرباح للتمويلات الممنوحة بما يتماشى مع أهدافه الرامية لضبط الائتمان وتنظيم الطلب على التمويل المصرفي بوجه عام (قيلي، 1986م، ص18- 19)، فحينما يهدف البنك المركزي إلى توسيع مظلة الائتمان تتوقف مشاركته على تحقيق هامش ربح أقل وبعكس ذلك يزيد من هامش الربح، وتبعاً لذلك يتأثر الهامش الصافي للربح الذي يحققه المصرف الإسلامي مما يسهم في ضبط تمويلاته ومجال مشاركته في إحداث الائتمان المرغوب(6)، كما يمكن للبنك المركزي في هذه الحالة التكيف مع السياسة الائتمانية من خلال مراعاة مبدأ المشاركة التفضيلية لقطاعات محددة وكذلك الحد من انسياب التمويل لقطاعات غير مرغوب فيها حسبما تقتضيه متطلبات ضبط الائتمان والتحكم بنسب السيولة التمويلية.
ومن جهة أخرى يستطيع البنك المركزي أن يدخل في صيغة المضاربة بدلاً من سياسة سعر الخصم مع المصرف الإسلامي، وفي هذه الحالة إذا أراد خفض حجم الائتمان يزيد من حصة المصرف الإسلامي في أرباح المضاربة، والعكس صحيح في حالة قيام البنك المركزي بزيادة حجم الائتمان (الهندي، 1989م، ص29).
عمليات السوق المفتوحة:
تعد عمليات السوق المفتوحة واحدة من أهم أدوات السياسة النقدية للبنك المركزي، ويقصد بهذه الأداة لجوء البنك المركزي لبيع وشراء الأوراق المالية وأهمها السندات الحكومية بهدف التأثير على حجم عرض النقد تبعاً للأوضاع الاقتصادية السائدة.
ففي حالة التضخم التي تمثل ارتفاعاً متزايداً في الأسعار يلجأ البنك المركزي إلى بيع السندات لاحتقان العملة الوطنية وامتصاصها من القاعدة النقدية مما يترتب عليه ارتفاع معدلات الفائدة وتقليص الائتمان وبالتالي تحريك منحنى الطلب بالاتجاه الذي يضغط مستوى الأسعار نحو الأسفل، وفي حالة البطالة تحدث هذه العملية بطريقة عكسية فيلجأ البنك المركزي إلى شراء السندات فيزيد من عرض النقود وتنخفض معدلات الفائدة ويتحرك منحنى الطلب بالاتجاه الذي يحقق معدلات أعلى في الأسعار (مانسفيلد، 1988م، ص254)، وبذلك يتمكن البنك المركزي من تصويب أوضاع النقد من خلال الاستجابات السريعة في مؤشرات عمليات السوق.
وليس من أدنى شك أن أهداف البنك المركزي ترمي من جراء استخدام عمليات السوق المفتوحة إلى ضبط سوق النقد ومراعاة ظروف الاقتصاد وحال السوق بوجه عام. ومن جهة أخرى فإن هذه العمليات تنسجم مع السياسة الكلية للدولة من حيث تحقيق مستويات الرفاه المطلوبة والرخاء المخطط للأفراد ضمن أهداف التوسع والانتعاش أو الانكماش الاقتصادي.
غير أن عمليات السوق المفتوحة تخرج عن الإطار المبدئي الذي لا يخالف معطيات الشريعة إلى إطار آخر قائم على آلية التبادل بالسندات وهي آلية بطبيعة الحال مخالفة لأحكام الشريعة لأن السندات تمثل صورة من صور عقد القرض، وتحمل فائدة ثابتة (فائض ربوي) من قيمتها الإسمية، فتتحول بهذا الشكل إلى أحد أشكال القروض الربوية، مما يعني بطلان العقد وعدم جواز الإصدار والتبادل بها بيعاً وشراءً (السالوس، 1983م، ص 85- 86).
وعلى أساس عدم جواز التعامل بالسندات لما تحمل من فائض ربوي يصبح موقف المصرف الإسلامي وعلاقته ب البنك المركزي في هذا الإطار غير سليمة من الوجهة الشرعية، لأن أساليب المصرف الإسلامي قائمة على عدم التعامل بالربا أخذاً وعطاءً، ولذا فإن هذه الأداة النقدية تدخل في مجال الاختلالات المصرفية في نطاق العلاقة المشار إليها، ويتعين في نفس الوقت إيجاد البديل الشرعي الملائم عوضاً عنها.
ومن أهم البدائل المطروحة في جانب معالجة اختلال التعامل بالسندات أن يقوم البنك المركزي بإصدار أوراق مالية مختلفة تعتمد مبدأ المشاركة في الأرباح والخسائر، وتكون على شكل قسائم تحمل نسب أرباح متغيرة بدلاً من السندات التي تحمل فائض ربوي ثابت (مجلس الفكر الإسلامي، 1984م، ص92)، وتتيح فرصة تغيير فوائد السندات الثابتة بأرباح القسائم المتغيرة مشاركة أفضل للمصرف الإسلامي في إجراءات البنك المركزي وأهداف السياسة النقدية لأن المصرف الإسلامي يتمتع بفائض سيولة مرتفع في معظم الأحيان بفضل ما لديه من احتياطيات وودائع كبيرة، فيمكنه وضعه النقدي وسلامة مركزه المالي من لعب دور مهم في اتجاهات التعامل في عمليات السوق وتحقيق قدر أفضل من أهداف السياسة النقدية.
وعن طريق آلية القسائم للأرباح المتغيرة يستطيع البنك المركزي أن يحقق أهدافه النقدية ويضبط حجم العرض النقدي حسب هذه الأهداف، ففي حالة سياسته الرامية لتخفيض مستوى العرض النقدي يتعين على البنك المركزي أن يحدد نسب أرباح أقل في بيع القسائم، فتكون مشاركته أقل وقدرته أكبر على امتصاص المدخرات ومن ثم خفض العرض النقدي، وفي حالة الشراء يمكنه تحديد نسب أرباح أعلى عن طريق مشاركة أكبر مما يوسع ويزيد من حجم العرض النقدي ويحقق مجالات أوسع للائتمان، وعن طريق هذه الآلية يسهم البنك المركزي معالجة ثغرة واضحة في فائض السيولة لدى المصرف الإسلامي وتهيئة مناخ مصرفي أكثر إيجابية لجميع مراكز النقد والمؤسسات المالية في السوق إلى جانب إتاحة مجال مثمر وفعال للمصرف الإسلامي لممارسة عملياته المصرفية حسب الأحكام الشرعية التي يلتزم بها وأن يأخذ وضعه الطبيعي ويؤكد دوره ووجوده في السوق.
الخلاصة:
فبعد مناقشة أهم القضايا المتعلقة بواقع اختلالات العلاقة الوظيفية بين البنك المركزي والمصرف الإسلامي ومحاولة تكييف هذه العلاقة وفق نماذج العمل المصرفي الإسلامي، يمكن استخلاص جملة من النتائج، أهمها:
1. لا يعتبر تدخل البنك المركزي في نشاطات البنوك تجاوزاً على حرية الأفراد وحقهم في توجيه استثماراته وودائعهم إلا بالقدر الذي يخرج فيه عن الالتزام بالقواعد والضمانات الشرعية أو عدم قدرته على تكييف علاقته الوظيفية بالمصرف الإسلامي وفق الآليات الشرعية الخالية من الربا.
2. يمثل بيت المال في صدر الدولة الإسلامية النواة الحقيقية الأولى لفكرة مصرف مركزي إسلامي للتشابه في بعض الواجبات الموكولة بالبنك المركزي بصيغته المعاصرة.
3. يعود جوهر التناقض وحدوث الاختلالات في علاقة المصرف الإسلامي بالبنك المركزي لوجود نوعين من الرقابة أحدهما يمثل الرقابة القانونية للبنك المركزي المستمدة من تشريعات وضعية والآخر يمثل الرقابة الشرعية للمصرف الإسلامي المستمدة من أحكام الشريعة وقوانين الفقه الإسلامي.
4. يحتاج التغيير الجوهري المتعلق بأوضاع المنشأة المصرفية الإسلامية إلى إعادة ترتيب شاملة وفق أطر وهياكل جديدة تنسجم مع طبيعة الطرح التكاملي لمنهج الإسلام واستبعاد الأوعية التنظيمية المستوحاة من هياكل المؤسسات الربوية.
5. ينبغي إعادة تصنيف المصرف الإسلامي لدى البنك المركزي وفق مصارف إسلامية- غير تجارية لأنه يزاول نشاطات مهنية متنوعة ولا يعتمد مبدأ الربح السريع مما يقلل من تأثيره على العرض النقدي.
6. ونتيجةً لضعف تأثير المصرف الإسلامي على حجم العرض النقدي فإن على البنك المركزي أن يحد من اختلال العلاقة في الحد الأدنى للاحتياطي النقدي وذلك من خلال إعفاء الودائع الاستثمارية وتقليل نسبة الاحتياطي وعدم تطبيق سعر فائدة جزائي.
7. ينبغي على المصرف الإسلامي أن يخرج الزكاة على ودائع الاحتياطي القانوني لدى البنك المركزي لأنها من قبيل الأموال المعطلة التي حث الإسلام على استثمارها وأنها تسهم في تغطية ائتمانية وأن يسعى المصرف الإسلامي لإيجاد الحلول الأخرى مع البنك المركزي لتنمية هذه الأموال وعدم اكتنازها وتجميدها عن تحقيق عائد لأصحابها.
8. يمكن للمصرف الإسلامي تحصيل الفائض الربوي المستحق على احتياطياته النقدية وتوزيعها على الفقراء قياساً على أقوال الفقهاء بضرورة رعاية الفقير في متطلبات الحياة الأساسية، ويعزز هذا الرأي أن كفالة الفقير تقع على مسؤولية الدولة وحينما تحرم الدولة الفقير من حقه فلا يصح للمصرف الإسلامي أن يتساهل في قبول الفائض الربوي وتوزيعه على الفقراء لأنه يذهب إلى الدولة التي يمثلها البنك المركزي وفي ذلك إعانة على الظلم والحرمان سواء بسواء.
9. يستطيع المصرف الإسلامي أن يلعب دور المضارب الوسيط كمحاولة لعلاج علاقته بالبنك المركزي كمقرض أخير.
10. يتمكن البنك المركزي من اعتماد مبدأ المشاركة في الربح والخسارة بدلاً من تطبيق آلية سعر الخصم، ويمكنه عن طريق تحديد نسب الأرباح الدنيا والعليا أن يحدث الأثر المطلوب في كمية الائتمان وعرض النقد وذلك بنمط مماثل للتأثير الذي يحدثه التغير في سعر الفائدة.
11. لمواجهة الاختلال القائم بين البنك المركزي والمصرف الإسلامي في مجال عمليات السوق المفتوحة التي يعتمد فيها البنك المركزي على التعامل بالسندات ذات الزيادة الربوية يمكنه الاعتماد على أوراق مالية تحمل قسائم لها أرباح متغيرة ويستطيع البنك المركزي أن يؤثر في السوق النقدية تبعاً لنسبة مشاركته في الربح في حالتي البيع والشراء.

المصادر والمراجع:
1. البنك المركزي الأردني: دائرة الأبحاث والدراسات، عدد خاص، تشرين الأول، 1989م.
2. ابن حزم، علي بن أحمد: المحلى، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي، بيروت، دار الآفاق الجديدة، د.ت.
3. حسن، إسماعيل: ورقة عمل عن علاقة البنك المركزي بالبنوك الإسلامية، الاقتصاد الإسلامي، العدد السادس والأربعون، 1985م.
4. حمزة، محمد فوزي: المنطقة النقدية الإسلامية والمصرف المركزي الإسلامي، الأمة، العدد الرابع والخمسون، 1985م.
5. الخليفة، محمد عثمان: “الأنموذج المصرفي في السودان بين المؤسسة اللاربوية والمؤسسة الإسلامية المتكاملة”، مجلة أبحاث الإيمان، السنة الثانية: العدد الثاني، 1996م.
6. ريدي، رزك: المجتمع العربي في مرحلة التغيير، ترجمة أحمد عبد العزيز النجار، الطبعة الأولى، الدار السودانية، 1970م.
7. زعير، محمد عبد الحكيم: مصرف إسلامي عالمي، الاقتصاد الإسلامي، العدد التاسع والعشرون/ 1984م.
8. زيدان عبد الكريم: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، الطبعة التاسعة، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1986م.
9. السالوس، علي أحمد: معاملات البنوك الحديثة في ضوء الإسلام، الطبعة الأولى، الدوحة، دار الحرمين للطباعة والنشر، 1983م.
10. سيجل، باري: النقود والبنوك والاقتصاد، ترجمة طه منصور ورفيقه، الرياض، دار المريخ، د.ت.
11. السائح، عبد الحميد: الفتاوى الشرعية، الجزء الثاني، البنك الإسلامي الأردني، نشرة إعلامية رقم (6)، 1987م.
12. شحادة، موسى عبد العزيز: “خطة استراتيجية الاستثمار في البنوك الإسلامية”، المؤتمر السنوي السادس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية، 1987م.
13. الشوكاني، محمد بن علي: نيل الأوطار، مصطفى البابي الحلبي، د.ت.
14. عبد المنان، محمد: الاقتصاد الإسلامي بين النظرية والتطبيق، ترجمة منصور إبراهيم التركي، القاهرة، المكتب المصري الحديث، د.ت.
15. عجمية، محمد عبد العزيز ومحمد محروس إسماعيل: التطور الاقتصادي، بيروت، دار النهضة العربية، 1975م.
16. عطية، جمال الدين: البنوك الإسلامية بين النظرية والتطبيق، الأمة، العدد السابع والخمسون، 1405ﻫ.
17. الغزالي، أبو حامد: إحياء علوم الدين، بيروت، دار الكتب العلمية، د.ت.
18. ـــــ: شفاء الغليل، تحقيق حمد الكبيسي، الطبعة الأولى، بغداد، مطبعة الإرشاد، 1971م.
19. فريدمان، ميلتون: الرأسمالية والحرية، ترجمة يوسف عليان، مركز الكتب الأردني، 1987م.
20. قحف، محمد: الاقتصاد الإسلامي، الطبعة الأولى، الكويت، دار القلم، 1979م.
21. قيلي، بابكر محي الدين: علاقة البنك المركزي بالبنوك الإسلامية، المال والاقتصاد، العدد الثالث، 1986م.
22. الكاساني، علاء الدين: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، القاهرة، شركة المطبوعات العلمية، د.ت.
23. لي، سوزان: أبجدية علم الاقتصاد، ترجمة خضر نصار، مركز الكتب الأردني، 1988م.
24. مانسفيلد، إدوين: علم الاقتصاد، مركز الكتب الأردني، 1988م.
25. متولي، أبو بكر الصديق وشوقي إسماعيل شحاته: اقتصاديات النقود في إطار الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى القاهرة، مكتبة وهبة، 1983م.
26. مجلس الفكر الإسلامي في الباكستان: إلغاء الفائدة من الاقتصاد، ترجمة عبد الحليم السيد منسي، الطبعة الثانية، جامعة الملك عبد العزيز، المركز العالمي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي، سلسلة المطبوعات العربية: (7)، 1984م.
27. المصري، عبد السميع: لماذا حرم الله الربا؟، الطبعة الأولى، القاهرة، مكتبة وهبة، 1987م.
28. ـــــ: المصرف الإسلامي علمياً وعملياً، الطبعة الأولى، القاهرة، دار التضامن، 1988م.
29. المصري، رفيق: مصرف التنمية الإسلامي، الطبعة الثالثة، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1987م.
30. ملحم، أحمد سالم عبد الله: بيع المرابحة، الطبعة الأولى، عمان، مكتبة الرسالة، 1989م.
31. النبهان، محمد فاروق: أبحاث في الاقتصاد الإسلامي، الطبعة الأولى، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1986م.
32. النووي، محي الدين يحيى بن شرف: روضة الطالبين، بيروت، المكتب الإسلامي، د.ت.
33. الهندي، عدنان: “العلاقة بين البنوك المركزية والبنوك الإسلامية”، المصارف الإسلامية، بيروت، اتحاد المصارف العربية، 1989م.

المصدر: http://www.eiiit.org/resources/eiiit/eiiit/eiiit_article_read.asp?articleID=651