السياسات الاقتصادية.. رؤية إسلامية – عبد الحافظ الصاوي

السياسات الاقتصادية.. رؤية إسلامية

عبدالحافظ الصاوي

اتسم النظام الاقتصادي في الإسلام بثبات مجموعة القواعد الحاكمة للنشاط الاقتصادي (تحريم الربا، فرض الزكاة، الغنم بالغرم، تحريم الاحتكار والغش والتدليس) بينما تركت مساحة واسعة للمصالح المرسلة، من أجل التيسير على أفراد المجتمع (مدار المعاملات الاقتصادية على مصالح العباد، الأصل في المعاملات المالية الإباحة، لا ضر ولا ضرار). ومن هنا يطلق على السياسات الاقتصادية الإسلامية بأنها تجمع بين المرونة والثبات.

وعندما أتيحت الفرصة للسياسات الاقتصادية التقليدية، لتعمل في أرض الواقع، كانت النتائج كما نرى، إما مصادرة لفطرة الإنسان وتجريده من حقه في التمتع بكسب يده، أو إطلاق العنان لنزوات الإنسان وشهواته. فغابت العدالة الاجتماعية، وأهدرت الكفاءة الاقتصادية، وانتشر الفقر والبطالة، وارتفعت معدلات الجريمة، ودارت الدول الفقيرة والنامية في فلك المديونية والتخلف. ولم تعد حاجات الناس ومتطلبات معيشتهم تشكل هدفاً للمنتجين، بقدر ما يشغلهم هدف تعظيم الأرباح، فاختل سلم أولويات الانتاج والاستهلاك، كما غيبت المؤسسات المالية عن دورها، فاستهداف هذه المؤسسات للأرباح جعلها تسعى للمضاربات وتمويل الأنشطة قصيرة الأجل على حساب مشروعات التنمية، التي تخلت عنها الدول بزعم قدرة القطاع الخاص على تحقيقها.

إذاً ما السياسات الاقتصادية التي يقدمها النظام الاقتصادي الإسلامي؟ وللإجابة عن هذا السؤال نتناول ما يلي:

أولاً: الأهداف العامة للسياسات الاقتصادية

تسعى السياسة الاقتصادية في النظام الاقتصادي الإسلامي، لتحقيق مجموعة من الأهداف منها:

< تحقيق المقاصد العامة للشريعة الإسلامية في الأموال. يرى العلامة الطاهر بن عاشور أن للإسلام مقاصد خمسة في الأموال هى: رواجها ووضوحها، وحفظها، وثباتها، والعدل فيها.

< تحقيق حد الكفاية لجميع أفراد المجتمع. هذا المعنى يرتبط بشكل مباشر بالفلسفة العامة للإسلام في رؤيته للمشكلة الاقتصادية، حيث يرى حلها بهدف رفع مستوى المعيشة وتحسينه، لا مجرد توفير الضرورات الأساسية. أما مجالات حد الكفاية فهي خمس ( المأكل والمشرب والملبس والمسكن والدابة)، والبعض يرى أنها تسع (المطعم والملبس والمسكن وأدوات الإنتاج، ووسيلة الانتقال، والتعليم، وقضاء الديون، والزواج، والنزهة).

< تحقيق الاستقرار الاقتصادي

< السعي لتوفير الاستقرار الاقتصادي المحمود – وليس الاستقرار المرتبط بالجمود أو السكون – من خلال تنمية شاملة ومستدامة تنهض بالإنسان وتعمر الكون في إطار من المنافسة الداعية للتعايش وليس الانفجار. وبقصد بالاستقرار، تلك السياسة الاقتصادية التي تؤدي إلى تشغيل العمال وثبات الأسعار وازدياد النمو. مع مراعاة المستجدات الحياتية في الواقع، والدفع إلى اجتهاد يناسب مستجدات العصر.

ثانياً: السياسيات الاقتصادية في إطار نظام اقتصادي إسلامي

1 – السياسة المالية

تعتمد السياسة المالية في النظام الإسلامي على تقدير إيرادات لها نفقات محددة، وفي حالة عجز الإيرادات عن النفقات، فإن أول ما تلجأ إليه الدولة هو دعوة الأغنياء للتبرع، أو دعوة الأغنياء للمشاركة في الاستثمار بالمشروعات العامة من خلال آليتي المشاركة والمضاربة. فإن لم تجد اتجهت إلى الاقتراض من مواطنيها مع التيقن من القدرة على السداد، فإن لم يتوفر ذلك لجأت الدولة إلى التوظيف في أموال الأغنياء (الضرائب). وهذا الباب له ضوابطه، فلا بد أن تكون الضرائب لسد نفقة بعينها، فإن انتهت الحاجة ألغيت الضريبة. وقد أُشترط في حالة لجوء الدولة لفرض الضرائب أن تتسم بالعدالة الضريبية، وأن تنفق في حاجة عامة ومشروعة، وأن تقر من أهل الاختصاص، وأن تخضع للرقابة الشعبية.

وقد اشترط العز بن عبدالسلام على السلطان قطز لكي يفرض ضرائب على الناس، ألا يبقي منها شيئا في بيت المال، وأن تبيع الدولة ما لديها من كساء مذهب مخصص للسلطان والأمراء والحاشية وأن يبيع الجند ما لديهم من أموال وآلات فاخرة. فولي الأمر ليس معني بالجباية، وإنما معني بعمارة الأرض، أو باصطلاح العصر بالتنمية. وفيما ورد عن الإمام علي رضي الله عنه في هذا المجال إلى وليه في مصر خير بيان:

« ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك إلى استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلاً، ولا يشغلن عليك شيء خففت منه به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعدون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك».

وخلاصة القول في أمر الضرائب إنها متروكة للظروف الاقتصادية والاجتماعية للدولة، تراعى فيها اعتبارات التنمية، وظروف الممولين، أو تكون مرتبطة بخطة تنمية أقرها المجتمع عبر مؤسساته – المعبرة عنه – المعنية بهذا الأمر.

أما الآلية المهمة في أمر الموازنة العامة للدولة فهى الزكاة، بما تمثله من مورد دائم ولكنه يتميز بخصوصية الإيراد وخصوصية النفقة، فالزكاة لها وقت معلوم وإيراد معلوم وتنفق في مصارف معلومة، لا يصح الخروج عنها. يقول الحق تبارك وتعالي: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) التوبة، آية 60. وهي معنية بالقيام بالأعباء الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة في المجتمع من خلال آخذها من الأغنياء وإعطائها للفقراء، كما أنها تعطى للفقير لتحقيق أمرين: لتغنيه، ولتغير وضعه من آخذ للزكاة إلى مخرج لها، أو على الأقل مستكفي بإيرداته لمواجهة احتياجاته، ومن هنا أجاز الفقهاء أن تعطي الزكاة للفقير المحترف في شكل آلات الحرفة ومستلزمات الإنتاج.

ويرى البعض أن الموازنة في النظام الإسلامي يتوافق إعدادها مع نظام الموازنة الصفرية التي أساسها البرامج والتخطيط التأشيري، وكذلك الاعتماد على المحليات في تخصيص إنفاق الإيرادات، بما يؤدي إلي التوازن في تحقيق التنمية وعدم ازدحام المدن والتلوث وما إلى ذلك.

2 -السياسة النقدية

يستلزم وجود سياسة نقدية إسلامية بشكل صحيح أن يتمتع البنك المركزي بالاستقلالية التامة، وأن تتحقق رقابة فعلية من قبل البنك المركزي على البنوك التجارية. كما أن الربا لا مكان له في مكونات وأدوات السياسة النقدية، فهو محرم، ويؤدي إلى تشويه المعاملات الاقتصادية، يقول الحق تبارك وتعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)، البقرة، آية 275. والأصل أن السياسة النقدية الإسلامية تعمل في ظل عدم وجود تضخم لانتفاء أسبابه، وإن وجد عملت الدولة على استئصاله.

فمكونات السياسة النقدية من العرض والطلب على النقود، حدد النظام الإسلام موقفه منها، فجعل محرك عرض النقود المصلحة العامة للأمة، والربح للمؤسسات والأفراد، أما الطلب على النقود فمحركه الوظيفة الأساسية للنقود من كونها وسيلة للتبادل، ويُحجم النظام الإسلامي اكتناز النقود بفرض الزكاة. ومن هنا تعتمد السياسة النقدية على عائد المشاركة، وليس سعر الفائدة المحرم. وتتمثل المحاور التي تعمل السياسة النقدية الإسلامية في إطارها ما يلي:

1 – الاستقرار النقدي، من خلال استقرار سعر العملة الوطنية، وعدم تعرضها لتقلبات القوة الشرائية.

2 – حماية المجتمع من شرور الاكتناز، أي الحد من الطلب غير الطبيعي على النقود، وتكون هذه الحماية من خلال وسائل لا تحرم الفرد من الاستمتاع بحقوق الملكية، أو الاحتفاظ بنوع الأصول التي يرغب فيها.

3 – تحرير المجتمع من الربا

4 – منع المقامرة أو المضاربة في أسواق النقد أو أسواق الأوراق المالية، من أجل عدم العبث بأصول المجتمع، وضياع الأموال.

توفير المناخ المناسب للاستثمار الحقيقي، القائم على التنمية والإبداع، والتضييق على الأنشطة الطفيلية.

3 – السياسة التجارية

يتم تنظيم السياسات التجارية في ضوء المنافسة العادلة، التي تراعي وجود صغار المنتجين والتجار، دون محاباة للأغنياء أو تضييع الفرصة عليهم. كما أن التجارة الخارجية تكون في إطار المعاملة بالمثل، ولا يترتب عليها وقوع الضرر على المنتجين الوطنيين أو غيرهم، في ظل تبني سياسات تقوي من موقفهم التنافسي سواء على الصعيد المحلي أو الدولي. وتهدف السياسة التجارية المنبثقة من نظام إسلامي إلى تحقيق الآتي:

1 – جعل التنافسية في السوق تعاونية، والمقصود بالتعاونية إقامتها على قوله تعالى: “وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان”، فهى سوق مبنية على منظومة الأخلاق في الإسلام في البيع والشراء، المسامحة والصدق وعدم تعمد وقوع الضرر بالغير.

2 – القضاء على الاحتكار، مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يحتكر إلا خاطئ”، وللدولة أن تحقق هذا الهدف بالنصح والإرشاد، أو إجبار البائع على ثمن المثل، أو تشجيع جلب السلع والمنتجات وإن قامت هي بذلك سواء عن طريق الاستيراد أو الإنتاج، أو اللجوء إلى التسعير عند الضرورة، وعلى الدولة أيضاً أن تمنع وقوع إغراق يضر بالتجار في السوق.

3 – منع البيوع المنهي عنها، مثل البيوع القائمة على الربا، أو بيوع الغرر.

4 – استخدام نظام عشور التجارة (الجمارك) في الحد من الاستهلاك الترفي، أو حماية لصناعات محلية يؤمل نهوضها وقدرتها على المنافسة في المستقبل.

5 – المعاملة في شأن التجارة الخارجية في إطار المعاملة بالمثل، أو حسب ما تقتضيه المصلحة العامة.

يبقى التأكيد في النهاية على أن السياسة الاقتصادية برمتها، هى مجرد آليات دعم للعملية الاقتصادية، لتسرع من حركتها، وتزيل العقبات التي تنشأ في طريقها. ومن أجل ذلك لا بد أن تتفق والمكون العقدي للمجتمع. فمن أكبر أسباب فشل السياسات الاقتصادية المطبق في العديد من الدول الإسلامية، أنها كانت مستوردة من تجارب وثقافات دول أخرى، تعبر عن هويتة وأيديولوجية تلك الدول .

* باحث في المصرفية الإسلامية