ورقة معالي الشيخ عبدالله بن بيـّه “الرقابة الشرعية”

ورقة معالي الشيخ عبدالله بن بيـّه

“الرقابة الشرعية”

 04-11-2009

أيها السادة الكرام

ها هو التشريع الإسلامي وبخاصة في مجال المعاملات المالية يتقدم اليوم للوساطة بين الغرب والعالم الإسلامي، لقد كانت الرياضيات مع الخوارزمي والفلسفة الإسلامية –ويجوز أن أقول اليونانية بأيد إسلامية- مع ابن رشد تقوم بالوساطة بين العالمين وبين عدوتي البحر الأبيض المتوسط، ولعل ابن رشد يحيا مرة أخرى مع كتابه البديع والذي يعتبر فقها مقارناً في التشريع الإسلامي وبخاصة في الأبواب التي خصصها للمعاملات المالية والذي بدأه بأنواع الخلل الشرعي الذي يعتري العقود حيث قسمها إلى خمسة في تقنين رائع يستمد من نصوص الكتاب والسنة ومن نتائج العقول والتجارب ومراعاة مصالح الناس.  

وهنا قد يكون من المناسب أن أقول كلمة عن الشريعة الإسلامية، التي يمكن أن توصف بأنها: سلسلة من القواعد والضوابط والمبادئ والأحكام التفصيلية مغطية الأخلاق والسلوك والمعاملات في كل أبعادها، فكانت إيماناً وعبادات مقرونة بالعمل الصالح مما جعل القيم أساساً لقوانين المعاملات، والتكافل والتضامن أساس العلاقات الإنسانية. 

ولهذا فإن الفقه الإسلامي الذي يعتمد على نصوص ومبادئ من الوحي: الكتاب والسنة ويعتمد كذلك على الاجتهاد البشري –على مر القرون- مستعملا أفضل الوسائل لتفسير النصوص وليس تفسيرا هيرمينوطيقياً للكتب المقدسة بالوسائل اللغوية والألسنية، وإنما هو تعامل بالوسائل الأرسطية المعقدة أحيانا من خلال القياس الاقتراني Déduction والاستقراء Induction والقياس التمثيلي Analogie.وكل الأدوات العقلية.  فقد أدمج الفقهاء في القرن الثامن الميلادي الموروث اليوناني بأصول الفقه وكان للجدليات الفلسفة مكانها واعتبار مصالح العباد واعراف الأقوام وعوامل الجغرافيا مما جعل الفقه يصل إلى مدونات تمثل جهدا قانونياً رائعاً، وأوجد موسوعة محكمة مختلفة اختلاف المذاهب؛ لكن أصولها ترجع إلى المبادئ والقيم الدينية والخلقية بدون إهمال لضرورات الحياة وحاجات الناس.

إن التشريع الإسلامي بوضوح مبادئه وصرامة معاملاته وانفتاحه ومرونته في نفس الوقت ،، يوفر رديفاً ينافس منافسة جيدة الاقتصاد الوضعي لأنه يتكامل معه. ومن تلك المنطلقات تنطلق الرقابة الشرعية التي يمكن أن ينظر إليها من خلال ثلاث مراحل أو في ثلاث مستويات:

يمكن أن يعبر عنها برقابة قبلية سابقة، ورقابة مرافقة، ورقابة لاحقة.

أهداف الرقابة هي:

 أولا: المحافظة على التزام المصارف والهيئات بأحكام الشريعة طبقا الخيارات المعتمدة لدى تلك الجهات.

ثانياً: اشعار المتعاملين بأن معاملاتهم شرعية كسباً لثقتهم بالمؤسسة.

ثالثاً: إيجاد وسائل ترفع عن المؤسسة الحرج في استعمال أدوات الاستثمار وخلق منتجات جديدة.

الرقابة تعتمد اللوائح والنظم التي تحكم المؤسسة، وتشترك في وضع سياسات المؤسسة.

وليست هذه الهيئات اختيارية أو ترفاً فإن المؤسسات التي تنص قوانيها على الالتزام بالشريعة لا بد أن تعتمد على مرجعية شرعية سواء سميناها رقابة أو فتوى لتجسيد هذا الالتزام.

يجب أن أنبه هنا إلى أن عمل هيئة الرقابة القبلية الذي قد يبدأ في طور إنشاء المؤسسة مهمة دقيقة؛ فعند المبادرة بإنشاء مؤسسة فإن القائمين عليها يفكرون في البحث عن هيئة شرعية ليس فقط لمساعدتهم في إبراز المؤسسة طبقاً للمواصفات الشرعية ولكن أيضا لجذب العديد من المساهمين المحتملين للانضمام إليهم؛ ولهذا فهم يعمدون إلى أسماء فقهاء لهم شهرة في الاستشارات المالية ليعرض عليهم كتابة أسمائهم على ورقة التأسيس وقد يكون هؤلاء ممن تتكرر أسماؤهم في عشرات البنوك والمؤسسات.

وعمليا يتقدم المؤسسون بنماذج لتكون أساس العمل لمؤسسات سابقة وأحياناً نماذج لمؤسسات تقليدية لا صلة لها بالمالية الإسلامية وهنا يبدأ التفاوض مع الهيئة الرقابية وفي الهيئة نفسها حول ما هو مقبول وما ليس بمقبول وحول الشروط التي ينبغي أن تضاف.

وهكذا تبدأ مهمة هيئة الرقابة أو هيئة الإفتاء حسب المسمى الذي يصطلح عليه لترافق المؤسسة حيث تقدم لها شهادة بحسن السلوك وهي نفس الشهادة التي تصدرها في نهاية كل سنة مالية من خلال تقرير سنوي قد يكون مختصرا لكن هذا التقرير الذي يعرض على مجلس إدارة المؤسسة يعتبر ضرورة لتأكيد محافظة المؤسسة على اختياراتها وعدم إخلالها بالتزاماتها الشرعية، فهي تشبه إلى حد ما تقرير محكمة الحسابات الذي تصادق فيه على حسابات خزينة الدولة.

هيئات الرقابة :

1 – هيئة الفتوى والرقابة الشرعية: وهي التي تقوم بالإفتاء والإجابة عن الاستفسارات التي ترد إلى الهيئة من قبل كافة الجهات التابعة للمؤسسة المالية. كما تعنى بالنظر في أعمال المؤسسة وأنشطتها المالية المختلفة وإصدار الرأي الشرعي حيالها، والنظر في العقود وصيغ الاستثمار والمنتجات المالية التي تعلن عنها تلك المؤسسة.

2 – الرقابة الشرعية الداخلية: حسب مفاهيم الرقابة الحديثة فإن الرقابة الشرعية الداخلية تعني أساسا نظام الرقابة الشرعي، وليس الجهاز الإداري أيا كان مستواه قسم أو وحدة إدارية. والمسؤول على وضع هذا النظام هي المؤسسة المالية في المعايير والضوابط التي تعتمدها الهيئة الشرعية. أما ما يمثل جهازا إداريا، وحدة أو قسما ضمن الهيكل التنظيمي للمؤسسة فهي المراجعة الشرعية التي تعتبر أحد مكونات الرقابة الشرعية الداخلية.

ويقصد بالرقابة الشرعية الداخلية في هذه الحالة جهاز يتبع إدارة البنك ويتولى مهمة تطبيق توجيهات هيئة الفتوى والرقابة الشرعية ومتابعة تنفيذ قراراتها وفحص العقود والاتفاقيات والتعهدات التي تنفذها المؤسسة مع عملائها من خلال دليل إجراءات يتم إعداده بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة في البنك وتصادق عليه الهيئة الشرعية.

3-الهيئة العليا للرقابة الشرعية: وهي جهة شرعية عليا تتبع غالباً البنك المركزي وتقوم بالإشراف على المصارف الإسلامية على مستوى الدولة بالتنسيق مع هيئات الرقابة الشرعية لكل مصرف.

وهناك شكل جديد من الرقابة الشرعية للبنوك الإسلامية بدأ في الظهور وهو ينمو شيئا فشيئا وهو ما يعرف بشركات الاستشارات والرقابة الشرعية الخاصة المستقلة عن المؤسسات المالية وعن الجهاز المصرفي الحكومي، وهي شركات لا تزال في خطواتها الأولى، وتعود في نشأتها إلى الخمس سنوات الأخيرة، وتتركز بشكل كبير في منطقة الخليج.

وعلينا أن ننبه على قيام اختلافات فقهية لم يتم تجاوزها على الرغم من ندوات عديدة أسفرت عن جملة غير قليلة من المعايير وبخاصة في البحرين وماليزيا؛ إلا أنه لا يختلف في الموجهات الكبرى المتمثلة في التالي:

المعيار الأول : يجب أن لا تحتوى الأنشطة الأساسية للشركة على الربا -بمعنى الفوائد الناشئة عن ودائع أو عن اقراض نقود يؤدي إلى أن تلد نقود نقوداً دون توسيط سلع أو مواد أخرى-، فيحترز بهذا المعيار من كل ما يجري في المؤسسات المالية التقليدية من أنشطة ربوية كالمصارف التجارية، والشركات المالية.

المعيار الثاني : أن لا تتعامل الشركة بالقمار في أنشطتها التجارية الأساسية.

المعيار الثالث : يجب أن تكون الأنشطة الرئيسية للشركة لا علاقة لها بالأمور التالية:

1-     إنتاج الخمور وتسويقها أو المخدارت.

2-     توزيع الأطعمة المحرمة شرعاً كالخنزير أو المضرة بالصحة.

3-     تقديم خدمات غير مشروعة مثل إنشاء أو إدارة الأماكن غير الأخلاقية.

المعيار الرابع : أن لا تحتوي الأنشطة التجارية الأساسية للشركة على الغرر الفاحش مثل عقود التأمينات غير التعاونية، وبيع الديون النقدية، ونقل ملكية سلع غير مملوكة للمتعامل لا يمكن تسليمها.

وبصفة عامة يراعي في المعاملات مبدأ الشفافية وأن الغنم بالغرم والاشتراك في الربح والخسارة.

وانطلاقاً من هذه المبادئ تقترح المصرفية الإسلامية جملة من المنتجات المربحة بعناوين: “المشاركة” “المضاربة” “الاستصناع” “الإجارة” “المرابحة” “السلم”. إنها تقترح آليات للتمويل غير تقليدية وربما تكون معقدة بعض الشيء في البداية وربما تنظر إليها بأنها قديمة ولا تتلائم مع حركة ودينامكية الاقتصاد المعاصر وهو انتقاد مفهوم إلا أنها تمثل ملجأ فيه شيء من الأمان لرأس المال الذي لا يربح دائماً في المخاطرة لأنها تعتمد على الاقتصاد الحقيقي ووراءها سيولة نقدية معتبرة؛ ولأنها قد تمثل نوعاً من الكوابح اعترف بعض الخبراء بضرورته لسرعة مذهلة في خلق أوراق مالية بدون أساس في ظل رقابة مسترخية لتسير بالمالية إلى أفق مجهول.

وباختصار:  إن تجربة المالية الإسلامية تستحق أن نعيشها وأن تعيشها فرنسا لتلحق بالذين سبقوها أو تسبقهم.                    

ولعلنا نسمح لأنفسنا بأن نطمع بشراكة حقيقية في العلاقة الجديدة وأن لا تكون فقاعة تغوص في رمال الصحراء عندما تشح الآبار النفطية على الخليج العربي أو تذوب السيولة في الغرب مع جليد جبال البيرينيه عندما تسطع شمس الربيع بل شراكة باقية لتبادل التكنولوجيا والسلع الأخرى والتبادل الثقافي والبشري الدافئ على ضفاف البحيرة الخالدة البحر الأبيض المتوسط.

ولهذا فإنا ندعو الدارسين الغربيين والفرنسيين أن يثروا موضوع المالية الإسلامية بأبحاثهم وتفكيرهم وأن يبذلوا أقصى جهد مع فقهاء الشريعة لصياغة أنظمة المؤسسات الإسلامية صياغة حديثة تتماشى مع أحدث النظم لتطوير أدائها ورفع كفاءتها.

لأنها تعتمد أفضل التقنيات للمعلومات والإدارة والمحاسبة حتى تكون بحق مؤسسات معاصرة وأداة للاستثمار لمصلحة الجميع على أن لا يؤدي ذلك لفقدان هويتها وخصائصها.

وأخيراً:  فإن الاقتصاد الإسلامي يمكن أن يكون رافعة لانهاض الاقتصاد العالمي ومحفزا يسهم في “إعادة تشكيل الاقتصاد الرأسمالي” حسب دعوة الرئيس الفرنسي ساركوزي. إن ذلك يرجع إلى مجهود الجميع.      


شرح بعض المصطلحات:

المشاركة: تعني مشاركة المودع للبنك في الربح مما يعني أن البنك سيكون مشاركاً للمستثمر الذي سيحصل على النقود من البنك لتنفيذ مشروع.

المضاربة: علاقة بين المتاجر في المال وصاحب المال حيث يتشاركا في الربح.

الاستصناع: عقد مع جهة صناعية لصناعة منتج معين.

الإجارة: عقد على منافع عقارية أو منقولة

المرابحة: بيع  يكون غالباً في مقابل في مقابل أجل

السلم: ثمن عاجل في سلعة مؤجلة.

 المصدر: http://mdarik.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1256909681720&pagename=Zone-Arabic-MDarik/MDALayout