تأصيل العمل الخيري في الإسلام عبر التأريخ، وخصوصية شهر رمضان – د. سهل بن رفاع العتيبي

بسم الله الرحمن الرحيم

* تأصيل العمل الخيري في الإسلام عبر التأريخ، وخصوصية شهر رمضان – د. سهل بن رفاع العتيبي

لا شك أن الإسلام قد عنى عناية كبيرة بالترغيب في عمل الخيري بشتى صوره وأنواعه. و مما يؤكد عناية الإسلام بعمل الخير أن الله -عز وجل- جعل نوعاً من أنواع عمل الخير ركناً ثالثاً من أركان الإسلام، ألا إتاء الزكاة، قال تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض}، وقال تعالى:{إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله فريضة من الله والله عليم حكيم}.

وعن بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن فقال: (ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؛ فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة؛ فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم ). متفق عليه. [صحيح البخاري (2/505). ومسلم (1/50 ).].

وعن عمرو بن الحارث، عن زينب امرأة عبد الله بمثله سواء قالت : كنت في المسجد فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (تصدقن ولو من حليكن)، وكانت زينب تنفق على عبد الله وأيتام في حجرها، قال: فقالت لعبد الله: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيجزي عني أن أنفق عليك وعلى أيتامي في حجري من الصدقة؟ فقال: سلي أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم! فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجدت امرأة من الأنصار على الباب حاجتها مثل حاجتي، فمر علينا بلال فقلنا : سل النبي صلى الله عليه وسلم أيجزي عني أن أنفق على زوجي وأيتام لي في حجري؟ وقلنا: لا تخبر بنا، فدخل فسأله فقال: من هما؟ قال: زينب، قال : أي الزيانب؟ قال: امرأة عبد الله، قال صلى الله عليه وسلم: (نعم لها أجران أجر القرابة وأجر الصدقة) [صحيح البخاري ج2/ص533، صحيح مسلم ج2/ص694 ].

ومما يؤكد اهتمام الإسلام بعمل الخير أن الله جعله تكفيراً عن الوقوع في الخطأ أو حنث يمين أو غير ذلك، ففي كفارة الظهار يقول الله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا }…إلى قوله تعالى: { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا}.

 وهكذا في كفارة الجماع في نهار رمضان، إذا لم يستطع عتق رقبة، ولا صيام شهرين متتابعين، فإنه يطعم ستين مسكيناً كما جاء في الحديث المتفق عليه.

وفي كفارة اليمين يقول الله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين لله لكم آياته لعلكم تشكرون}.

ثم إن العمل الخيري هدي نبوي، فقد كان صلى الله عليه وسلم يحب الإنفاق في سبيل الله تعالى، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يحب الإنفاق فحسب بل كان صلى الله عليه وسلم يبادر إليه، ولا يترك عنده من المال شيئاً إلا وينفقه في سبيل الله، عن عقبة قال: صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر، فسلم ثم قام مسرعا فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه، ففزع الناس من سرعته! فخرج عليهم فرأى أنهم عجبوا من سرعته فقال: (ذكرت شيئا من تبر عندنا فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته) [صحيح البخاري ج1/ص291 ].

وعن بن عباس قال: ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ) [صحيح البخاري ج1/ص6

وكان جوده صلى الله عليه وسلم شاملاً جميع أنواع الجود, من بذل العلم والمال، وبذل النفس لله تعالى في إظهار دينه وهداية عباده, وإيصال النفع إليهم بكل الطرق, من إطعام جائعهم, ووعظ جاهلهم, وقضاء حوائجهم , ونحو ذلك من أنواع البر والإحسان.

وهكذا كان سلفنا الصالح يحرصون على عمل الخير في سائر أيام السنة، وفي رمضان خاصة. ويقدمون ذلك على كثير من العبادات، ولهم في هذا أخبار مشهورة. لأن من المتقرر عندهم  أن ما نفعه متعدي أفضل مما نفعه قاصر. وأن العمل يتضاعف أجره بشرف الزمان والمكان وشدة الحاجة.

-كان حماد بن أبي سليمان ذا دنيا متسعة وكان يفطر في رمضان خمس مائة إنسان ويعطيهم بعد العيد لكل واحد مائة درهم. [نزهة الفضلاء 2/598 ].

وكان زين العابدين يحمل الطعام إلى بيوت الفقراء في المدينة، فقد كان ناس يعيشون لا يدرون من أين يأتيهم معاشهم فلما مات فقدوا ذلك الذي كان يأتيهم، ولما غسلوه وجدوا على ظهره أثراً مما كان ينقل الجرب بالليل إلى منازل الأرامل.وكان يعول مائة بيت. [ينظر: نزهة الفضلاء 2/518-519 ].

 

* تقييم الجهود الخيرية المبذولة الآن على الساحة من تلبيتها للحاجة القائمة.

هناك -بحمد الله- في الساحة الإسلامية أعمال خيرية كبيرة مبذولة وتبذل في شتى المجالات، ولكنها في الواقع لا تفي بحاجة المسلمين القائمة، سواء في الداخل أو في الخارج في شتى أقطار المعمورة، مقارنة بالأعمال التي يقوم بها أعداء الإسلام، من المنصرين وغيرهم، وربما تحت مظلة دولية رسمية كما هو الواقع المشاهد.

قد توجد دول إسلامية لا يجود فيها جمعيات خيرية، بينما تجد فيها عشرات الجمعيات التنصيرية في شتى المجالات.

والملاحظ أن هذا الجهود الخيرية الإسلامية رغم قلتها إلا أن نتائجها -بحمد الله- تفوق الجمعيات التصيرية رغم ضخامة ميزانياتيها وقوة إعلامها البراق.

* مناحي القصور في المسيرة الخيرية الرمضانية.. أسباب ومسببات.

في نظري أن مناحي القصور في المسيرة الخيرية الرمضانية له جوانب متعددة وأسباب ومسببات مختلفة، فمنها:

1)   ضعف التنسيق أو عدمه بين الجمعيات الخيرية.

2) ضعف النواحي الإعلانية، فكثير من المشاريع الخيرية الرمضانية، تقام وتنتهي ولا يعلم بها كثير من أهل الخير والعطاء والبذل والإحسان.

3) عدم التنسيق المسبق لاستغلال هذا الموسم، بل الغالب على كثير من الجمعيات الارتجالية في طرح المشاريع الخيرية. ولا أقول الكل.

4) الاجتهادات الفردية من بعض منسوبي هذه الجمعيات الخيرية أو من بعض المتعاونيين معها الذين لم يكن عنهدهم تأهيل للعمل الخيري، وهذا الاجتهاد قد يسبب حرجاً للجمعية أو أعضاءها.

* هل تطابقت آليت عمل الجمعيات الخيرية في رمضان مع النهج الشرعي من ناحية، والنهج العلمي المدروس من ناحية أخرى؟

الغالب بحمد الله هو التطابق والتوافق، ولكن قد يوجد قصور عند بعض الجمعيات، بسبب قصور في العلم الشرعي أحياناً، أو بسبب اختلاف في مسألة الشرعية وإختلاف الفتاوى، أو التساهل والغفلة من جانب آخر.

فعلى سبيل المثال: قد تجد من بعض الجمعيات من تجمع من المحسنيين أموالاً لتفطير صائم، تم تقوم بصرفها في مشاريع خيرية أخرى. وقد تجمع زكات الفطر من رمضان، فيخرج رمضان وشوال وهذه الزكوات لم تصرف بعد.

ومن ذلك أيضاً: الخلط بين كفارات اليمين وزكوات المال والدقات وزكاة الفطر، ومن المعلوم شرعاً أن هذه الأموال لها مخارج خاصة لا يجوز الخلط بينها.

أو قد تجمع زكاة المال ثم تنفق في غير الأصناف الثمانية التي حددها الله.

ونحن هنا لا ننكر أن هناك جمعيات خيرية قد أتقنت عملها، وضبطت هذه الأصناف التي تصرف فيها الأموال على الوجه الشرعي، وفرقت بينها بحسابات خاصة، ولكن بعض المحسنين قد لا يفرق هو بين هذه الأصناف، فتجده يضع زكاة ماله في صندوق أو حساب الصدقات العامة. وبالتالي قد تصرف الزكاة في غير مصرفها الشرعي. وبالتالي فهذه الجمعيات بحاجة إلى آلية شرعية محددة ودقيقة، وطلاب علم شرعي لضبط هذه المصروفات في موضعها الشرعي، وهذا موجود ومطبق بحمد الله عند كثير من الجمعيات الخيرية مع وجود بعض القصور في بعض النواحي.

* ما الرابط التنسيقي بين المشاريع الخيرية في الوسط الرمضاني؟

1)   التعاون بين الجمعيات الخيرية.

2)   دعوة المحسنين لافتتاح مشاريعها، وإطلاعهم على جهودها عن كثبت.

3) الصلة الوثيقة بين الجمعيات الخيرية وبين المحسنين عن طريق المراسلات الخاصة أو الوسطاء الموثوق بهم، كأئمة المساجد والقضاة والدعاة ممن لهم قبول عند الناس وجهود مباركة في العمل الخيري.

* كيفية استثمار إقبال الناس على البذل في تفعيل العمل الخيري طوال العام؟

1) إطلاعهم على جهود الجمعيات الخيرية، عن طريق وسائل الأعمال المختلفة، أو عن طريق مجلات ونشرات خاصة بالجمعيات الخيرية.

2) البرامج المفتوحة لمشاركة الناس في دعم الأعمال الخيرية والالتقاء بالمستفيدين من هذه الأعمال من المحتجين، عبر وسائل الإعلام، كما حصل مثلاً في برنامج الرصيد الباقي في قناة المجد الفضائية.

3)   تشجيعهم على الإنفاق في إنشاء أوقاف إسلامية، تكون مصدراً ثابتاً وريعاً مستمراً لهذه الجمعيات الخيرية.

4) مشاركة المتبرعين في افتتاح وإنشاء هذه المشاريع الخيرية لأجل زيادة الثقة في عمل هذه الجمعيات، وتشجيع الآخرين عندما يروون هذه الجهود ملموسة على أرض الواقع.

*هل تخضع مشاريع طباعة النشرات والكتيبات لدراسات تقييمة؟ وهل الجدوى الدعوية لها متوافقة على أرض الواقع؟

أما كونها تخضع فربما يكون ذلك عند بعض الجمعيات الخيرية التي تمتلك كوادر إعلامية وإدارية جيدة ومدربة. ولكن الغالب على كثير من الجمعيات فالعمل فيها لا يخضع لمثل هذه الدراسات التقييمة، بل يقوم على الاجتهادات الفردية.

أما من ناحية الجدوى الدعوية لمشاريع طباعة النشرات والكتيبات، فلا شك في جدواها، والواقع يشهد بهذا، فهذه الكتبيات والنشرات تكلفةا قليلة، وتحمل مادة علمية جيدة تناسب شريحة كبيرة بل هي السواد الأعظم من المسلمين، وتمتاز بأنهها واسعة الانتشار، سهلة الشخن، كثيرة النفع بإذن، ولهذا كتب الله لها القبول والانتشار والنفع، ووصلت إلى شتى أقطار المسلمين وغير المسلمين.

كتبه أخوكم

د/ سهل بن رفاع بن سهيل العتيبي.

أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة المساعد، في جامعة الملك سعود.

كلية التربية، قسم الدراسات الإسلامية.