إذا أردت اقتصادًا ناميًا؛ فتـش عـن التعليم! – د. حمد بن سليمان الباز

إذا أردت اقتصادًا ناميًا؛ فتـش عـن التعليم!

د. حمد بن سليمان الباز

يعد العنصر البشري أهم العناصر الإنتاجية التي يمكن أن تساهم في تحقيق التنمية، لكن لن يؤدي هذا العنصر دوره دون تعليم، حيث يسهم التعليم في تراكم رأس المال البشري. وتشير نظريات النمو الاقتصادي إلى أن التقدم التقني يزيد من معدل النمو الاقتصادي طويل الأجل، ويزداد التقدم التقني سرعة عندما تكون قوة العمل أحسن تعليماً، من هنا فإن تراكم رأس المال البشري يساعد في التقدم التقني ويعد مصدراً من مصادر النمو المستدام. ويمكن تقدير أثر التعليم في الإنتاجية من خلال المقارنة بين أجور الأشخاص المتعلمين وغير المتعلمين عبر الزمن، ويطلق على هذا المقياس العائد الاجتماعي للاستثمار في التعليم. كما يؤثر التعليم بشكل غير مباشر على الإنتاجية من خلال التأثير على الصحة، فقد أثبتت الدراسات أن الأمية والجهل يؤثران تأثيراً فعالاً على مستويات الصحة الفردية والعامة، وبشكل عام يساهم التعليم في تحسين الموارد البشرية وتطويرها من خلال رفع الكفاءة والمقدرة الذهنية وسعة الاستيعاب ورفع إنتاجية القطاعات المختلفة للاقتصاد. إلا أن مساهمة التعليم الإيجابية في التنمية تعتمد على نوعية التعليم ومدى ملاءمته لاحتياجات المجتمع في المراحل التنموية المختلفة. يضاف إلى ذلك أن تعليم مهارات الإنتاج الحديثة لمن هم حاصلون على تعليم أساسي جيد أسهل وأقل تكلفة من تدريب غير المتعلمين أو الحاصلين على قدر ضئيل من التعليم. وفي عصر الصناعات المعتمدة على رأس المال البشري، أو ما تسمى بـ«صناعات العقل البشري»، يتطلب أن يكون العمال ذوي مهارات عالية ومتجددة وهذه المهارات ليست عربون نجاح بمفردها بل لابد أن تكون ضمن تنظيمات ناجحة تحسن استخدامها. وتعد طرق التدريس والذي يُدرّس المفتاح لنظام تعليمي كفء، فعلى سبيل المثال، تتميز دول شرق آسيا بالاهتمام بالتعليم على الرغم من الاختلاف بينها إلا أن اهتمامها بالتعليم يمكن أن يكون السمة المشتركة بينها، وينبع هذا الاهتمام من التقاليد الاجتماعية المهتمة بالامتحانات التنافسية واحترام التعليم، ويكمل المنزل ما يتم تعليمه في المدرسة، وتبدو هذه العملية من وجهة نظر التربويين الأجانب وكأنها تلقين ووسيلة للحصول على مهارات تقنية وتحقيق الانسجام أكثر من كونها وسيلة تشجيع للمواهب الفردية، وعلى الرغم من إدراك عدد من المربين لهذه المسألة إلا أن غالبية هؤلاء المربين تؤمن بأن أنماط التعليم في دول شرق آسيا تخلق انسجاماً اجتماعياً وقوة عمل مدربة تدريباً جيداً. ففي تايوان يتم قبول حوالي الثلث فقط ممن يتقدمون للتعليم الجامعي لتأكيد أهمية التعليم الجامعي. كما أن نسب الطلاب الذين يواصلون تعليمهم حتى المرحلة الجامعية في هذه الدول تفوق مثيلاتها في الدول النامية، فعلى سبيل المثال يوجد في كوريا (عدد سكانها 43 مليون نسمة) 1.4 مليون طالب في التعليم الجامعي مقارنة بـ 145 ألف طالب في إيران (سكانها 45 مليون نسمة) و15 ألفاً في أثيوبيا (عدد سكانها 46 مليون نسمة) و159 ألفاً في فيتنام (عدد سكانها 64 مليون نسمة). وفي عام 1980 تخرج من الطلبة المهندسين في الجامعات الكورية عدد يساوي من تخرج في جامعات المملكة المتحدة وألمانيا الغربية والسويد معاً. في حين تقلص الإنفاق الحكومي على التعليم في عدد من الدول الإفريقية (ملاوي، زامبيا، ليسوتو، الصومال) حيث يوجد الآن عدد أقل من الأطفال في المدارس، وإذا وجد هذا النظام فإنه لا يتعدى المرحلة الثانوية حيث وجد في أنجولا على سبيل المثال 2.4 مليون طالب في المدارس الابتدائية لكن 153 ألفاً فقط يتعلمون في المدارس الثانوية. وتفيد دراسات البنك الدولي أن التعليم مجال مربح للاستثمار، وتفيد الدراسات التي أجريت على دول شرق آسيا أن التعليم الابتدائي يعد المساهم الأكبر في النمو الاقتصادي الإجمالي لهذه الدول وفي النمو الاقتصادي عبر الأقاليم داخل الدولة الواحدة. فقد استثمرت دول شرق آسيا بقوة في التعليم الابتدائي والثانوي من أجل تحسين نوعية العمالة. وتلاحظ الدراسات أن معدل النمو الاقتصادي يرتفع في الدولة التي تزداد فيها نسبة التعليم، وباستعراض نسب المقيدين في مراحل التعليم الابتدائي والثانوي نلاحظ أن هذه النسب ترتفع في الدول ذات الأداء الاقتصادي الجيد، فقد بلغت نسبة المقيدين بالتعليم الابتدائي في اليابان في أوساط الذكور والإناث 100% للذكور والإناث وفي كوريا 100% للذكور وللإناث وفي ماليزيا 93% للإناث وللذكور. أما في المملكة فقد بلغت هذه النسبة 73% للإناث في سن التعليم مقيدات في الابتدائي و78% من الذكور عام 1993 (مرتفعة من 49% للإناث ومن 74% للذكور عام 1980)، أما في التعليم الثانوي فقد بلغت النسبة 43% للإناث و54% للذكور (مرتفعة من 23% للإناث ومن 36% للذكور عام 1980)، في حين بلغت هذه النسبة في اليابان 97% للإناث و95% للذكور، وفي كوريا 92% للإناث و93% للذكور. ويوجد 14% من إجمالي المقيدين بالتعليم في المملكة في مرحلة التعليم العالي عام 1993 (مرتفعة من 7% عام 1980)، في حين تصل هذه النسبة في اليابان 30%، و45% في هونج كونج و48% في كوريا، وفي إثيوبيا وتشاد 1% عام 1993. وقد وصلت نسبة 93% من الذكور والإناث إلى الصف الرابع الابتدائي في المملكة عام 1993، في حين تصل هذه النسبة 100% في اليابان و100% في كوريا، وتصل هذه النسبة في تشاد إلى 66% للإناث و74% للذكور وفي راوندا 75% للإناث و73% للذكور. أما التعليم العالي فيساهم في النمو الاقتصادي المستدام من خلال تأثير الخريجين على نشر المعرفة، كما تساهم مؤسسات التعليم العالي في إنتاج المعارف العلمية والتقنية الجديدة من خلال البحث العلمي والتدريب المتقدم، كما تخدم كقنوات لنقل ونشر المعارف المولدة في الخارج. ويقدر العائد على التعليم العالي بنحو 10% أو أكثر في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط مما يشير إلى أن الاستثمار في هذا النوع من التعليم يساهم في رفع إنتاجية العمل والنمو الاقتصادي طويل الأجل. وقد حاول الكثير من الاقتصاديين قياس العائد الناجم عن التركيب النوعي لأفراد المجتمع، أو بمعنى آخر العائد الناجم عن التعليم، ومن أوائل الدراسات في هذا المجال دراسة شولتز (1971) التي تبعتها دراسات متعددة أوضحت أن الاستثمار في الإنسان يؤدي إلى فروق ملحوظة بين دخول العمال المتعلمين وغير المتعلمين، وقد عزا شولتز هذه الفروق إلى التباين في الوضع الصحي والتعليمي بين الأفراد. وقد قدر شولتز معدل العائد الاستثماري في التعليم الابتدائي بنسبة 35%، وفي التعليم الثانوي بنسبة 20%، أما العائد الاستثماري للتعليم الجامعي والبحث العلمي فقد قدر بـ 15%، وقد استنتج شولتز أن زيادة نوعية العنصر البشري وتطورها قد حسّنا بصورة ملحوظة من نوعية العمل كعنصر من عناصر الإنتاج القومي، كما وجد عدد من الباحثين أن العائد الحدي للعامل (ما يضيفه العامل الواحد للإنتاج) يزداد كلما قارب تحصيل العامل إتمام المرحلة الثانوية، ثم ينخفض هذا العائد كلما تقدم التحصيل العلمي نحو المرحلة الجامعية. وقد قام بيكر بحساب العائد على رأس المال البشري بطريقة الفروق بين الدخول لفرد متعلم وآخر غير متعلم، وقد تبين من الدراسة أن متوسط العائد الاستثماري للفرد الأمريكي الذي يصل في تحصيله العلمي إلى المرحلة الجامعية هو 10% إلى 12% سنوياً، ويعتبر هذا العائد مرتفعاً نسبياً إذا ما قورن بعوائد رأس المال المادي بأنواعه. كما بين دينيسون أن 30% من النمو في الناتج الكلي للفرد ما بين 1929 و1982 في الولايات المتحدة كان بسبب زيادة المستوى التعليمي للعامل يرى روبرت بارو في دراسة لنسب الأطفال المسجلين في المدارس الابتدائية والثانوية في 76 دولة أن النمو السريع الذي تحقق في دول شرق آسيا في الآونة الأخيرة يعود إلى زيادة أعداد الطلاب المسجلين في المرحلة الثانوية، كما أن ضعف النمو المتحقق في دول شبه الصحراء الإفريقية يعود إلى قلة أعداد الطلاب المسجلين في المرحلة الثانوية. ويلاحظ من إحصاءات البنك الدولي ارتباط معدل نمو الدخل ومن ثم الدخل الفردي بالمستوى التعليمي في الدولة مقاساً بمستوى الأمية الإجمالي (ذكوراً وإناثاً)، فالدول الأفقر مثل راوندا التي تأتي في المرتبة الأولى لأقل الدول دخلاً في العالم تبلغ نسبة الأمية فيها 40% وفي إثيوبيا التي تأتي في المرتبة الثالثة من حيث الدخل تبلغ نسبة الأمية فيها 65% في حين تأتي الدول المتقدمة في ترتيب الدخل بمستوى أمية أقل من 5%، وفي مصر حيث الترتيب 48 تبلغ نسبة الأمية فيها 0.49%، وجمهورية كوريا بترتيب الدخل تأتي في المرتبة 108 وبنسبة أمية أقل من 5%. وبإجراء تحليل الارتباط بين الموقع على سلم ترتيب الدخل في العالم ومعدل الأمية وجد أن هناك ارتباطاً سلبياً قوياً بلغ -0.79، فالدول التي تسود فيها معدلات تعليم منخفضة جداً (ترتفع فيها نسبة الأمية) تتصف بانخفاض شديد في مجمل الناتج القومي، كما أن الدول التي تتميز بمعدلات تعليم مرتفعة (تقل فيها نسبة الأمية) تتصف بارتفاع شديد في مجمل الناتج القومي، لكن تفيد تجربة بعض الدول – مثل دول الخليج حيث نسبة التعليم أقل من دول أخرى مثل كوستاريكا وبولندا وأوروغواي، إلا أن دول الخليج تتميز بارتفاع الدخل مقارنة بهذه الدول – أن ارتفاع معدلات التعليم ضرورية لكنها غير كافية وحدها كشرط لتحقيق النمو الاقتصادي. كما يتضح من تحليل الارتباط وجود علاقة عكسية بين معدل نمو نصيب الفرد من الناتج القومي ونسبة الأمية، حيث بلغ معامل الارتباط -47.0. كما أوضحت الدراسات علاقة موجبة للخبرة بالمستوى التعليمي، فعائد الخبرة يعتمد أساساً على مستوى التعليم الرسمي الذي وصل إليه الشخص، وهذه نتيجة بديهية، حيث تتطلب بعض أنواع التدريب المهني حدا أدنى من التعليم، وإذا لم يتوافر هذا الحد فسيكون التدريب المهني مستحيلاً، أو على الأقل تزيد تكلفته بشدة، فالتعليم والخبرة معاً يعطيان نتائج أفضل من نتائج كل واحد منهما على حدة. كما يساهم التعليم في تضييق التفاوت في الدخول بين الأفراد. لكن هذا لا يعني وجود علاقة طردية آلية بين التعليم والنمو الاقتصادي، لأن التعليم وحده ليس شرطاً كافياً للنمو وإن كان شرطاً ضرورياً، فمساهمة التعليم في النمو الاقتصادي لا تعتمد على توفر المهارات فقط، بل تعتمد أيضاً على مدى استخدام هذه المهارات وعلى طبيعة النظام الاقتصادي. ويعود السبب في اختلاف العائد على التعليم بين الدول إلى مدى توافر العوامل المكملة للتعليم، فالتعليم سيؤدي إلى تحسين الإنتاجية فقط، إذا كان هناك فرص وظيفية للأفراد ذوي الإنتاجية الأفضل. فالنظام الاقتصادي الذي يسيطر عليه ويقوده القطاع العام يمكن أن تتحسن فيه مستويات التعليم – مثل دول أوروبا الشرقية التي تتصف بنوعية تعليم عالية لا توجد حتى في الدول الرأسمالية المتقدمة – دون أن يكون لذلك أي أثر إيجابي ملحوظ على النمو الاقتصادي. فالنمو الاقتصادي يحدث إما لزيادة التراكم المادي والبشري أو لزيادة إنتاجية العمل ورأس المال أو كليهما. وحسب دراسة فان ايغين (1997) يعود النمو الاقتصادي إلى زيادة التراكم المادي والبشري في حين كانت مساهمة زيادة إنتاجية العمل ورأس المال ضئيلة أو سلبية، كما وجد أن أثر التعليم على إنتاجية الفرد منخفض مما يعني أن معدل النمو الاقتصادي يمكن أن يكون أعلى لو كان هناك استثمار أكثر في رأس المال المادي مقارنة بالاستثمار في رأس المال البشري. وتشير هذه النتيجة إلى أن العمل في القطاع الحكومي والحصول على أجر دون مساهمة في النمو الاقتصادي أدى إلى التشوهات في سوق العمل والانفصال بين الأجر والإنتاجية. وقد بدأت تظهر بوادر هذه الظاهرة في المملكة مما يستدعي سرعة تصميم السياسات المناسبة لذلك مثل تقليص حجم القطاع الحكومي. ولا يقتصر أثر التعليم على تحسين إنتاجية العمل بل يتعدى ذلك إلى التأثير على نوعية الحياة بمفهومها الشامل، فالتعليم يؤثر على السلوك الثقافي والاجتماعي للأفراد، حيث يتبين من علاقة معدل الخصوبة (مقاساً بعدد المواليد لكل امرأة) ونسبة الأمية أن هناك ارتباطاً موجباً بين المتغيرين، فزيادة نسبة الأمية تؤدي إلى زيادة معدل الخصوبة، وارتفاع المستوى التعليمي للمرأة يؤدي إلى انخفاض معدل الخصوبة. فالتعليم يؤثر على الخصوبة من خلال تأخير سن الزواج وزيادة استخدام موانع الحمل. تجدر الإشارة إلى أن معدل الخصوبة يتأثر بعوامل اجتماعية وثقافية متعددة لكن للعامل الاقتصادي (المتمثل في تكلفة الإنجاب وارتفاع تكلفة الفرصة البديلة لوقت الأم) دوراً هاماً في ذلك ويعكس هذا الدور تجربة الدول المتقدمة التي تنخفض فيها معدلات الخصوبة. ويساعد توفر العناصر البشرية المؤهلة الاقتصاد على استيعاب التقنية الأجنبية، فالدولة النامية التي تمتلك رأس مال بشري مناسب تتمكن من النمو بشكل أسرع، نظراً لأنها تستطيع الانتقال إلى رتبة أعلى على سلم التقنية. ويعكس هذه الحقيقة النظر إلى أعداد المشتغلين في البحث العلمي في عدد من الدول المتقدمة والنامية، فقد بلغ عدد العلماء والمهندسين لكل مليون في راوندا 12 عالماً ومهندساً عام 1985، في حين بلغ هذا العدد في اليابان 5677 عالماً ومهندساً عام 1992م، وفي الولايات المتحدة الأمريكية 2685 عالماً ومهندساً لكل مليون، أما في الدول العربية فقد بلغ عدد العلماء والمهندسين 202 لكل مليون عام 1994م، وفي قارة أفريقيا عموماً بلغ هذا العدد 53 عالماً ومهندساً لكل مليون عام 1994م، وفي كوريا الجنوبية وسنغافورة بلغ عدد العلماء والمهندسين 2636 و2512 لكل مليون على التوالي عام 1994م. ويعكس حجم الإنفاق على التعليم وعلى البحث والتطوير الاهتمام الذي يوليه الاقتصاد لامتلاك حصة من المستقبل، فمن المتوقع أن تكون المهارات العالية لقوة العمل هي السلاح التنافسي الرئيس للمستقبل، وبعقد مقارنة لأرقام الإنفاق على التعليم بين عدد من الدول المختارة يتبين التفاوت في هذه الأرقام، وترتبط هذه الأرقام إلى حد بعيد بمعدلات النمو الاقتصادي المتحقق، كما يتبين أن الدول ذات الأداء الاقتصادي الجيد تخصص نسبة أقل للإنفاق الجاري، فقد بلغ الإنفاق الجاري على التعليم كنسبة من إجمالي الإنفاق على التعليم في سنغافورة 80% في المتوسط خلال النصف الأول من التسعينيات، وفي تايلاند حوالي 82% وفي كوريا 83% وفي الكويت 95% وفي ماليزيا 85% وفي المملكة 95%. أما الإنفاق على التعليم كنسبة من الإنفاق الحكومي فقد بلغ في المملكة 17% عام 1992، وفي تايلاند 19.5% للعام نفسه، وفي سنغافورة 21.2% للعام نفسه. أما الإنفاق على البحث والتطوير كنسبة من الناتج القومي فقد بلغ في راوندا 0.5%، وفي نيجيريا 0.1% وفي كوريا 2.8% وفي سنغافورة 1.1% وفي اليابان 3% وفي الكويت 0.9% وفي كندا 1.6%، وللأسف لا تتوافر بيانات عن هذا البند في المملكة إلا أن من المتوقع ألا يكون الإنفاق على البحث والتطوير كنسبة من الناتج القومي في المملكة كبيراً. التعليم واقتصاد السوق يتميز رأس المال البشري بثلاث خصائص منها أنه غير قابل للامتلاك، والرأسماليون لن يستثمروا في شيء لا يمكنهم امتلاكه، كما يحتاج الاستثمار في رأس المال البشري إلى أفق زمني طويل لا يحتمله الرأسمالي، يضاف إلى ذلك أن الاستثمارات في المعرفة لتوليد صناعات وتقنيات جديدة لابد أن تتم في إطار اجتماعي يختلف عن توجه المستثمر الفرد. ففي اقتصاد السوق يبحث المستثمر عن أشخاص يمكن تسريحهم وآلات غير قابلة للاستبدال، كما أن الأفراد يهتمون فقط بالأشياء التي تعود عليهم بمنفعة مباشرة (استهلاكاً أو فراغاً)، فيقبل الأفراد على التعليم أملاً في الحصول على دخل أفضل، إلا أن هناك مخاطرة ألا يولد هذا التعليم العائد المتوقع (مثلاً لانخفاض الأجور أو لعدم توفر وظائف). فقد لا يحدث النمو الاقتصادي بالمعدل الكافي لخلق وظائف تتناسب وأعداد الخريجين، خصوصاً خريجي الجامعات؛ مما يؤدي إلى وجود فائض في العرض من الخريجين، وحيث حرم هؤلاء الخريجون من فرصة الحصول على وظائف تتناسب ومؤهلاتهم وذات أجر مرتفع، فسيقبلون بوظائف أقل ترتيباً على السلم الوظيفي وأقل أجراً مما يقلل من الفرص الوظيفية المتاحة للعمالة الأقل تأهيلاً، وهذه ستنافس العمالة الأقل منها تأهيلاً على الفرص الوظيفية وهكذا حتى يتم غلق الباب نهائياً أمام العمالة غير المدربة. مما يجعل التعليم خصوصاً للطبقات الفقيرة لا يساوي الجهد ولا المال المنفق للحصول عليه، إلا أن ما يعتبر غير رشيد من وجهة نظر الفرد هو في حقيقة الأمر مبرر جداً ورشيد من وجهة نظر المجتمع. فالعمل مع أناس متعلمين يزيد إنتاجية الفرد، فالعائد الاجتماعي كبير حتى لو كان العائد الفردي منخفضاً. ونظراً لأن التعليم لا يعد سلعة عامة بحتة (كما في خدمة الأمن مثلاً)، لذا يمكن للسوق تنظيم وتقديم تعليم جيد ومتطور إلا أن الآثار الإيجابية الخارجية للتعليم تجعل من المنطقي والمبرر من وجهة نظر المجتمع ككل دعم وتمويل التعليم. فالتعليم يولد آثاراً خارجية موجبة حيث إن العمل مع أناس متعلمين يرفع من إنتاجية الفرد (من هنا قد يجد الفرد أن لديه الرغبة في دعم تعليم الآخرين)، كما يخدم التعليم غرضاً اجتماعياً هاماً، فلا ينظر للتعليم على أنه وسيلة لزيادة المهارة التي تتطلبها عملية التنمية، لكنه أيضاً وسيلة لمنح أفراد المجتمع الفرصة للتقدم المادي والاجتماعي، فللتعليم دور هام في خلق الإنسان النافع المنتج والمواطن الصالح، فكلما زاد عدد المتعلمين ارتفع مستوى التفكير العلمي والمنطقي لدى أفراد المجتمع، مما يسهم في عملية التغيير الاجتماعي التي تشكل الشرط الضروري للتحضر والتنمية في المجتمع. ويعد التعليم من وجهة النظر الاقتصادية سلعة استثمارية واستهلاكية خاصة وعامة في الوقت نفسه، فهو سلعة استهلاكية خاصة لمنافعه المباشرة حيث يشبع حاجة أصيلة لدى الفرد في المعرفة، وسلعة استثمارية خاصة لأنه يعود على الفرد بزيادة في الدخل عن طريق تحسن قدرة الفرد الإنتاجية. وهو سلعة عامة نظراً لما له من آثار خارجية مفيدة للمجتمع (العيش في وسط متعلم أفضل) لذا لا يترك عادة لاقتصاد السوق. كما يسهم التعليم في تماسك النسيج الاجتماعي، ولن يكون بإمكان دولة تتزايد فيها الفجوة بين الأغنياء والفقراء أن تقيم نظاماً سياسياً مستقراً، فالتفاوت الطبقي يمثل خطراً على الأمن والسلام في الشوارع، ويدعو الفقراء إلى التحول للعنف كما حدث في كثير من الدول النامية، خصوصاً أن العولمة وانفتاح الاقتصادات الوطنية على بعضها سيزيد من الحساسيات بين زيادة الدخول وتفاقم اللامساواة، ولن يكون بمقدور اقتصاد السوق أن يعالج هذه المشكلة خصوصاً أنه سيكون من الصعب على ذوي المهارات المنخفضة الانضمام إلى ميدان السباق الاقتصادي. إن اختلال النظام التعليمي يؤدي بالضرورة إلى اختلال النظام الإنتاجي، ومن ثم اختلال توزيع الدخل وأخيراً سيجر ذلك إلى اختلال النظام الاجتماعي والسياسي. وما دام اقتصاد السوق يولد توزيعاً غير عادل للثروة والدخول لذا كان لزاماً على الحكومات التدخل من خلال برامج عدة لتقليل هذه الفجوات، ومن ثم ضمان استمرار سير النظام الاجتماعي، وكان من أهم هذه البرامج مجانية التعليم خصوصاً الأساسي وتوفير التعليم العالي من خلال برامج إقراض ومساعدات ومنح. ويقل إنفاق اقتصاد السوق على التعليم نظراً لأن اقتصاد السوق يتميز بقصر النظر (التركيز على الأجل القصير). وبدون تدخل الحكومة يظل التعليم قاصراً على الأغنياء. فإنفاق الحكومة على التعليم هو الذي يخلق الطبقة الوسطى، ومن المعروف أن تنامي هذه الطبقة هو ضمانة الاستقرار.

 نشر في مجلة (التدريب والتقنية) عدد (5) بتاريخ (جمادى الأولى 1420هـ)