عقد الاستصناع – د. عبد العزيز القصار

أولا: تعريف الاستصناع: الاستصناع في اللغة طلب الصنعة, كما أن الاستغفار طلب المغفرة, والاستمهال طلب المهنة. فكل من طلب من آخر أن يصنع له شيئا فذلك استصناع لغوي, فمن طلب من النجار أن يصنع له خزانه مثلا فذلك استصناع لغة, سواء آتى الطالب للصنعة بالخشب والمواد من عنده, أو كانت من عند النجار, وسواء كان ذلك بمقابل مادي, أو على سبيل التبرع. والاستصناع اصطلاحا أن يقول إنسان لصانع: اصنع لي الشيء الفلاني وبذكر جنسه وصفاته, والمواد من عند الصانع, مقابل كذا وكذا من المال أعطيك إياه الآن, أو بعد التسليم, أو عند أجل معين. فيقبل الصانع ذلك. ويتضح من التعريف أن: المبيع هو الشيء المطلوب صنعة في الذمة, وتكون أوصافه محددة مميزة عن غيره. فهو يشبه السلم لأن المبيع ملتزم عند العقد في ذمة البائع. الاستصناع فيه طلب الصنع وهو العمل, وما لم يشترط فيه العمل لا يكون استصناعا, فكان مأخذ الاسم دليلا عليه كما يقول الكاساني, ولأن العقد على مبيع في الذمة يسمى سلما, وهذا العقد يسمى استصناعا. لذلك فإن المنتوجات الطبيعية (كالثمار والبقول والحبوب) إذا أريد بيعها قبل وجودها فطريقها بيع السلم لا الاستصناع. تكون مواد الصنع من الصانع لا من المستصنع, فإذا كانت من المستصنع فإن العقد يكون إجارة لا استصناعا. فكل ما يحتاج إليه من مواد أساسية أو كمالية يقدمه الصانع البائع من عنده لأنه محسوب حسابه في الثمن. يكون الثمن معلوما ومحددا, ويصح أن يعطيه المستصنع للصانع مقدما عند التعاقد, ويصح أن يعطيه قدرا منه والباقي عند استلام الشيء المصنوع, ويصح أن يؤخره إلى يتسلم المصنوع. ويسمى طالب الصنعة: المستصنع, وقد يسمى الآمر لأنه أمر بالصنع. ويسمى الطرف الثاني: مستصناع إليه, أو صانعا, سواء كان ممن يتولى الصناعة بنفسه, أو يتولاها عماله في مصنعه. ويسمى الشيء المصنوع: المستصنع فيه. ويسمى المقابل المادي: البدل النقدي, وقد يسميه بعض الفقهاء الثمن. ويقابل مصطلح الاستصناع في القوانين الوضعية: المقاولة, حيث تكون المواد من الصانع, أما حيث تكون المواد من صاحب العمل فهي مقاولة ولكنها ليست استصناعا, بل هي من قبيل الإجارة. ثانيا: صور من التعامل شبيهة بالاستصناع, وليست استصناعا توجد صور من التعامل شبيهة بالاستصناع, وليست استصناعا. من ذلك ما يلي: 1. أن يأتي طالب الصنعة بالمواد من عند نفسه, ويطلب من الصانع أن يصنع منها الشيء الذي يريده, مقابل أجر معين, كما لو أحضر قماشا, وطلب من الخياط أن يصنعه له ثوبا, أو أحضر خشبا وطلب من النجار أن يصنع له غرفة نوم. فهذه إجارة وليست استصناعا. ولو جرى العرف على أن الأجير يضع مواد تافهة من عنده, مما يحتاج إليه المصنوع, بقي العقد إجارة ولم يدخل في الاستصناع, كالخياط يخيط بخيط وأزرار من عنده, أو الصباغ يصبغ بأصباغ من عنده, أو النجار يدخل في صناعة الأثاث المسامير والأصماغ اللاصقة من عنده. 2. أن يكلف طالب الصنعة الصانع أن يشتري المواد على حسابه الخاص (أي حساب طالب الصنعة) ويقدم له بها فواتير ليدفع ثمنها, ثم يصنع له من تلك المواد شيئا محددا مقابل أجر معلوم. فهذه إجارة أيضا وليست استصناعا. 3. أن يشتري إنسان من الصانع أو التاجر شيئا مصنوعا معينا, مقابل ثمن معجل أو مؤجل, فهذا بيع وليس استصناعا. 4. أن يشتري الطالب من الصانع أو التاجر شيئا في ذمة البائع معلوما جنسه ونوعه ووصفه وقدره, كأثاث معلوم الصفات, ولا يشترط أنه من عمل الصانع نفسه, على أن يسلم البضاعة عند أجل معين, ويدفع الثمن المعلوم مقدما, فهذا سلم في المصنوعات, وليس استصناعا. ثالثا: الوصف الفقهي: اختلف فقهاء الحنفية في تكييف الاستصناع اختلافا كبيرا, أهو بيع أو وعد بالبيع, أو إجارة ? وإذا كان بيعا هل المبيع هو العين المصنوعة أو العمل الذي قام به الصانع? والصحيح الراجح في المذهب الحنفي أن الاستصناع بيع للعين المصنوعة لا لعمل الصانع, فهو ليس وعدا ببيع ولا إجارة على العمل إذ لو أتى الصانع بما لم يصنعه هو, أو صنعه قبل العقد بحسب الأوصاف المشروطة, جاز ذلك. والذي مال إليه جمع من الفقهاء في العصر الحاضر أن الاستصناع عقد مستق, لا يدخل تحت أي من العقود المسماة الأخرى المتعارف عليها, بل هو عقد له شخصيته المستقلة وله أحكامه الخاصة. رابعا: شروط صحة الاستصناع: أن يكون قد جرى التعامل في مثل هذا الشيء المستصنع فيه بالاستصناع يشترط أن يكون المستصنع فيه قد جرى التعامل في مثله بالاستصناع: وسبب اشتراط ذلك أنه لما كان الاستصناع نوعا من بيع المعدوم, وهو في الأصل ممنوع شرعا, إنما أجيز الاستصناع امتحانا لأجل تعامل الناس به, فما جرى التعامل باستصناعه يصح فيه, وما لا فلا, إذ التعامل دليل الحاجة. وقد يكون الشيء مما يجري فيه التعامل بالاستصناع في عصر, ثم تتغير الأمور, فلا يعود يجرى فيه التعامل , ومثال ذلك الآنية, فقد كان يجرى التعامل باستصناعها في عصر الأئمة, ولذلك مثلوا بالصمت والقمقم والقدح والتور ونحوها, أما في عصرنا فقد ترك التعامل باستصناعها, لكثرة الأنواع الموجودة منها في الأسواق بحيث يأخذ الإنسان منها بعقد الشراء ما شاء, ولا يحتاج إلى استصناعه أصلا, فكان هذا هو سبب ترك التعامل بالاستصناع فيها. ومما لم يجر التعامل باستصناعه في العصر الحاضر: 1. صناعة المواد نصف المصنعة, كمسحوبات الحديد والألومنيوم وألواح الزجاج والخشب المضغوط (اللاتيه) والأسمنت والبلاط. 2. الأجهزة المنزلية الإلكترونية ذات المواصفات المعتادة كأجهزة الراديو والتلفزيون والمسجلات والثلاجات والغسالات والمكانس الكهربائية, فإنها لكثرة المصنوع منها, وتوفره في جميع الأسواق بأصناف ومواصفات مختلفة تناسب كل حاجة وترضي كل ذوق, لا يحتاج إلى استصناع شيء منها ومثلها السيارات ذات المواصفات العادية. 3. المواد الكيماوية والأدوية والعطور ومواد التجميل والورق بجميع أنواعه. 4. صناعة السجاجيد ذات المواصفات العادية, والأقمشة. 5. صناعة المواد للتمديدات الكهربائية من أصناف الأسلاك والمصابيح والمفاتيح وغير ذلك. فهذه الأصناف وكثير أمثالها لا يجوز التعاقد عليها في العصر الحاضر بطريق الاستصناع طبقا للمذهب الحنفي, بل إما أن يتعاقد عليها بطريق السلم, وإما بطريق البيع للشيء الحاضر وإما بطريق الإجارة. وقد رأى فضيلة العلامة الشيخ مصطفى الزرقا أن لا داعي لاعتبار هذا الشرط الآن, لتوفره بصفة عامة في تعارف الناس في كل ما تدخله الصناعة, بسبب الانفجار الصناعي الهائل ودخوله في جميع مجالات الحياة. ويرى بعض العلماء المعاصرين أنه ينبغي أن يعتبر: قيد الحاجة, فما احتاج الناس إلى استصناعه حاجة عامة, أو حاجة فردية, ينبغي أن يجوز استصناعه, لأنهم إنما اشترطوا جريان التعامل لكونه (دليل الحاجة) فما تحققت الحاجة إليه ينبغي أن يجوز استصناعه إذا كان مما يمكن ضبطه بالوصف. خامسا: بيان جنس المصنوع ونوعه يشترط أن تذكر في عقد الاستصناع الأوصاف التي ينضبط بها المستصنع انضباطا كافيا لمنع التنازع, بذكر كل ما له أثر في الثمن, كبيان جنسه ونوعه وقدره, وجنس المواد المستعملة وأوصافها. ومقتضى هذا الشرط أمران : أ. أن ما لا يمكن ضبطه بالوصف لا يصح استصناعه. وقد تقدمت وسائل التصميم والوصف, بالخرائط الهندسية, ونماذج العقود, والخبرات الفنية بما يمكن من الضبط الكامل في أكثر المصنوعات. ويمكن أيضا استخدام النماذج المصنعة والتعاقد على أساسها. ب. إذا لم تضبط الأوصاف أو لم تبين الكميات في العقد, يكون العقد فاسدا. سادسا:ذكر الأجل: اشتراط عدم تحديد الأجل عن أبي حنيفة يرى الإمام أبو حنيفة أنه إذا ضرب المتعاقد الاستصناع أجلا صار سلما, حتى تعتبر فيه شرائط السلم: وهو قبض البدل في المجلس, ولا خيار لواحد منهما إذ سلم الصانع المصنوع على الوجه الذي شرط عليه في السلم ووجه قول أبي حنيفة أن التأجيل يختص بالديون, لأنه وضع لتأخير المطالبة, وتأخير المطالبة إنما يكون في عقد فيه مطالبة, وليس ذلك إلا السلم إذ لا دين في الاستصناع, ألا ترى أن لكل واحده منهما خيار الامتناع عن العمل قبل العمل بالاتفاق, ثم إذا صار سلما يراعي فيه شرائط السلم, فإن وجدت صح سلما و إلا لم يصح. جواز تحديد الأجل عند الصاحبين يرى الصاحبان: أبو يوسف و محمد أنه لا يشترط عدم ذكر الأجل في الاستصناع, بل أنه يكون عقد استصناع على كل حال سواء ضرب له أجل أم لا ما دام الشيء المستصنع مما يجوز فيه الاستصناع. واستدل الصاحبان بأن العادة جارية بضرب الأجل في الاستصناع, وإنما يقصد به تعجيل العمل لا تأخير المطالبة, فلا يخرج بالأجل عن كونه استصناعا. أو يقال: قد يقصد بضرب الأجل تأخير المطالبة, وقد يقصد به تعجيل العمل, فلا يخرج العقد عن موضوعه مع الشك والاحتمال بخلاف ما لا يحتمل بالاستصناع, لأن ما لا يحتمل الاستصناع لا يقصد بضرب الأجل فيه تعجيل العمل , فتعين أن يكون لتأخير المطالبة بالدين, وذلك بالسلم. اشتراط تحديد الأجل في قرار مجمع الفقه الإسلامي ذهب مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره السابع إلى أنه يشترط في عقد الاستصناع أن يحدد فيه الأجل, أي يشترط ذكر أجل لتسليم الشيء المصنوع. ذلك أن هذا العقد قائم على العمل والعين والمؤجلين عادة, وكل ما هو شأنه لا بد فيه من تحديد المدة لئلا يؤدي إلى النزاع والخصام. فالصانع قد يتأخر في التنفيذ والمستصنع يريد التعجيل, فإذا لم يكن في العقد تحديد للمدة أدى بلا شك إلا نزاع, واتفق العلماء على منع كل ما يؤدي في العقود إلى النزاع. سابعا:ربما يجدر التعرض له بالتوضيح موضوع: الشرط الجزائي في عقد الاستصناع: المشهور عند الحنفيششششة أن عقد الاستصناع عقد غير لازم وأي أي خلل يطرأ يمنع الصانع من تنفيذ ما تعاقد عليه, فلكل واحد من الطرفين الخيار في فسخ العقد. أما المتأخرون من الحنفية فقد اعتمدوا القول الذي يقول بلزوم العقد فإذا ظهرت موانع خارجية عن إرادة الصانع, كحرق المصنع, أو غرق السفينة, أو قطع علاقات مع بعض الدول الموردة للمادة الخام المطلوب صنعها, فالمستصنع هنا بالخيار إن شاء انتظر الصانع حتى يتمكن من الإنجاز, وإن شاء فسخ العقد. أما إذا كانت الموانع ناشئة عن إرادة الصانع, كسوء التنظيم والعجز عن إدارة الحضيرة أو التقاعس في احترام المواعيد. فإن هذا يسبب تأخيرا في إنجاز المشروع وضررا ماديا يلحق بالمستصنع. يقول الشيخ مصطفى الزرقا: وقد ازدادت قيمة الزمن في الحركة الاقتصادية, فأصبح تأخر أحد المتعاقدين أو امتناعه عن تنفيذ التزاماته في مواعيدها المشروطة مضرا بالطرف الآخر في وقته وماله أكثر مما قبل. فلو أن متعهدا بتقديم المواد الصناعية إلى صاحب معمل تأخر عن تسليمها إليه في الموعد الضروري لتعطل المعمل وعماله, وكذا لو تأخر الصانع عن القيام بعمله في وقته لتضرر المستصنع بخسارة وقد تكون فادحة. ولا يعوض هذا الضرر القضاء على الصانع بتنفيذ التزامه الأصلي, لأن هذا القضاء إنما يضمن أصل الحق لصاحبه وليس فيه جبر لضرر التعطل أو الخسارة, ذلك الضرر الذي يلحقه من جراء تأخر خصمه عن وفاء الالتزام في حينه تهاونا منه أو امتناعا. وهذا ما ضاعف احتياج الناس إلى أن يشترطوا في عقودهم ضمانات مالية على الطرف الذي يتأخر عن تنفيذ التزامه في حينه. ومثل هذا الشرط يسمى في اصطلاح الفقه الأجنبي الشرط الجزائي. وأصبح الشرط الجزائي متعارفا بين الصناع وفي كل المقاولات وحافزا قويا يدفع الصانع على احترام المواعيد وخير معين على تنظيم سير الحركة الاقتصادية في كل بلد. وقد أجاز مجمع الفقه الإسلامي الشرط الجزائي في عقد الاستصناع حيث جاء في قرار دورته السابعة بشأن الاستصناع في البند 4: يجوز أن يتضمن عقد استصناع شرطا جزائيا بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف قاهرة. وعلى هذا الأساس يجوز في عقد الاستصناع أن يشترط المستصنع أن يخصم من استحقاقات الصانع لديه مبلغا محددا عن كل يوم تأخير في تسليم المصنوع جاهزا في موعده, ولكن لا يزاد في تقدير المبلغ عن حدود الضرر المتوقع. وإذا حصل التأخير المذكور حق للمستصنع أن يطالب بالخصم, ما لم يكن التأخير متسببا عن ظروف قاهرة, أو عن تأخير المستصنع دفع الأقساط, أو غير ذلك من تصرفات المستصنع. ويجوز للصانع أيضا اشتراط مثل ذلك في حال تقصير المستصنع في أداء التزاماته غير المالية. ولا يجوز أن يشترط ذلك في حالة التقصير في أداء الالتزامات المالية لأن ذلك يؤول إلى الربا. عقد الاستصناع: إعداد شركة الراية الدولية للاستشارات العلمية والاقتصادية.

بقلم الدكتور: عبد العزيز القصار

المصدر: http://mosgcc.com/topics/current/article.php?sdd=67&issue=19