تصحيح المفاهيم حول التدخل الحكومي – د.فهد إبراهيم الشثري

د.فهد إبراهيم الشثري

هذا الزمن يبدو صعباً بالنسبة لمناصري المدرسة الاقتصادية النمساوية التي تنادي بدور صغير جداً (أو لا دور على الإطلاق) للحكومة في النشاط الاقتصادي. بالطبع يعد هذا الأمر غريباً بالنسبة للقارئ، وهو غريب بالنسبة لي أيضاً، لكن عندما تقرأ لأنصار هذه المدرسة تجد أن معهم حق فيما يقولونه، لكن مشكلتهم أن تطبيق رؤيتهم على أرض الواقع أمر صعب جداً. لذلك، أشك كثيراً في قدرة أنصار هذه المدرسة على كسب صداقات في الوسط الاقتصادي بالنظر إلى النظرة اليوتوبية التي ينظرون بها إلى الاقتصاد. أفضل ما قدمه هؤلاء للاقتصاد هو البناء النظري الجميل، لكن تطبيق ما يؤمنون به سيكلف العالم الكثير، فهم يريدون أن ينتظروا إلى أن تعمل الأسواق عملها في إعادة التوازن الطبيعي، وهذا بالطبع قد يكون مكلفاً جداً. تخيل تطبيق هذه النظرة على الأزمة المالية الحالية، ما يعني أننا سننتظر إلى إفلاس كل البنوك في العالم وإلى أن يثق الجميع ألا بنوك جديدة ستفلس كي تعود الثقة إلى أسواق الائتمان ومن ثم نبدأ من جديد في بناء القطاع المصرفي العالمي، وعندها سيكون الاقتصاد الحقيقي العالمي بما يشمله من مصانع ومؤسسات إنتاج وخدمات قد تحول إلى رماد. التدخل الحكومي في النشاط الاقتصادي أمر مطلوب عملياً على الرغم من أنه قد يكون على حساب الكفاءة الاقتصادية المنشودة، لكن يجب أن نكون واقعيين كي نستطيع أن نقيم عملية التدخل الحكومي وأهميته في تصحيح (أو التخفيف من الاختلالات الاقتصادية). يجب كذلك أن نتذكر أن التدخل الحكومي يأتي في مجالات متعددة مما يوجب مناقشته في إطار تلك المجالات وليس الحكم عليه في عمومه. فهو إما يأتي في شكل تقديم السلع العامة أو في شكل التشريعات القانونية المنظمة لعمل الأسواق أو من خلال الإنفاق الحكومي والضرائب. فالتدخل الحكومي لتقديم السلع العامة البحتة أمر لا يشك أحد في أهميته بالنسبة للاقتصادي وتبدأ أهمية هذا التدخل تتراجع كلما درجة عمومية السلع. وتبرز أيضاً أهمية التدخل الحكومي لوضع التشريعات المنظمة لعمل الأسواق، لكن تقل أهميته أو قد يكون له أثر سلبي عكسي حينما يتم التدخل المباشر في آلية عمل الأسواق دون وجود مبرر لهذا التدخل، كالتخفيف من أثر الاحتكارات لصناعات معينة على الأسعار، أو توفير الدعم المؤقت لبعض السلع الأساسية للتخفيف من الآثار الاجتماعية لارتفاع الأسعار على الطبقات المنخفضة الدخل، أو توجيه قطاع الأعمال للاستثمار في قطاعات معينة للتخفيف من تدخل الدولة فيها، أو الاستثمار في قطاعات يعزف القطاع الخاص عن الاستثمار فيها نظراً لتكلفتها العالية أو لارتفاع مخاطرها. لكن يجب أيضاً أن يكون قرار وآلية التدخل مبنيان على دراسات لآثار هذا التدخل Impact Studies وعلى من سيقع عبء هذا التدخل إن كان في شكل تحديد للأسعار أو فرض للضريبة Price Tax Incidence . وأثبتت الأزمة الحالية بما لا يدع مجالاً للشك أن قدرة الأسواق على التصحيح أو تحقيق التوازن تظل مشروطة بتوافر المعلومات الكاملة Perfect Information لجميع المتعاملين في السوق. لكن الواقع، أثبت أنه حتى في أكثر القطاعات قابلية للتحرير الكامل، هناك جانب يحاول الاستثئار بالمعلومة لتحقيق أهدافه الشخصية، وأن تصميم نظام تتوازن فيه مصالح أطراف العلاقة الاقتصادية يكاد يكون مستحيلاً. لذلك، وجد المتعاملون في ”وول ستريت” خصوصاً المديرين التنفيذيين أن تخفيف التشريعات القانونية التي تحكم تعاملات البنوك الاستثمارية والتجارية وفر الفرصة لهم لكسب مزيد من المال بإقناع من لا تتوافر لديه الملاءة الائتمانية أن بإمكانهم امتلاك منزل على الرغم من علمهم بأنهم سوف لن يتمكنوا من تسديد التزاماتهم في المستقبل. هنا تظهر أهمية التشريعات والتدخل الحكومي لكبح جماح الطمع Greed والتخفيف من أثر الخوف Fear الذي يحكم التعامل في أي عملية اقتصادية، ولكيلا يكون هناك مجال لطرف من أطراف العلاقة الاقتصادية لاستغلال الآخر بتحقيق مزيد من الشفافية والتوازن في النظام الاقتصادي العام. لذلك، فإن محدودية موردي سلعة معينة تتطلب من الدولة تدخلاً للتأكد من عدم تواطؤهم لرفع الأسعار، واختلال سوق العمل وعزوف أصحاب الأعمال عن توظيف المواطن في مقابل الأجنبي يتطلب تدخلاً لإعادة التوازن إلى ذلك السوق من خلال أنظمة تحد من طمع أصحاب الأعمال بتوظيف مزيد من العمالة الأجنبية دون اعتبار للآثار الاقتصادية والاجتماعية والأمنية على الدولة، ومحدودية مصنعي سلعة أساسية معينة يتطلب من الدولة تدخلاً لتنظيم سوقها بشكل يضمن بيع تلك السلعة بالسعر العادل في السوق. وهنا أختم بما ذكره الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2001 جوزيف ستيجلتز في أحد لقاءاته: (لم يتحقق أي إنجاز اقتصادي عظيم دون تدخل حكومي مباشر. ويضيف أن وظيفة التدخل الحكومي من خلال سن التشريعات هو إعادة التوازن بين مصالح القلة (كرجال الأعمال) وبين مصالح الدولة ككل، وأن عملية إدارة الحوافز تعد جزءاً أساسياً من تلك التشريعات لتحقيق هذا التوازن. وكثيراً ما تنتهي تلك الحوافز إلى الفشل بسبب عدم قدرة الحكومة على محاسبة أولئك الذين يستغلون تلك الحوافز لمصالحهم الخاصة). لذلك، فإن هناك فرقاً بين دور الحوافز الاقتصادية في تحقيق التوازن وبين طريقة إدارة تلك الحوافز، وما نحتاج إليه هو إدارة جيدة لتلك الحوافز لتحقيق التوازن المطلوب.

المصدر: http://www.aleqt.com/2009/08/22/article_265383.html