العمل الخيري والتنمية (5) – د. محمد سعيد عبد المجيد

العمل الخيري والتنمية (5) – د. محمد سعيد عبد المجيد

بعد أن انتهينا في المقالات السابقة من تناول مفهوم التنمية وأهم مؤشراتها من منظور إسلامي، نبدأ من هذه المقالة في تناول الجوانب المختلفة المتعلقة بالعمل الخيري. وبداية نبدأ بتناول مفهوم المجتمع المدني Civil Society الذي يمثل الإطار العام الذي تعمل من خلاله كل التنظيمات التطوعية.

اكتسب مفهوم المجتمع المدني انتشاراً واسعاً على مدى العقدين الماضيين، وقد كان ذلك متلازماً مع تنامي الاهتمام بقضايا التطور الديمقراطي في كل دول العالم ( 1 ).

ولقد أصبح مفهوم المجتمع المدني في المرحلة الراهنة يقدم إجابة جاهزة عن العديد من المسائل؛ فهو الرد على سلطة الحزب الواحد في الدول الشيوعية، بإيجاد مرجعية اجتماعية خارج الدولة، وهو الرد على بيروقراطية وتمركز عملية اتخاذ القرار في الدول الليبرالية، وهو الرد على سيطرة اقتصاد السوق على الحياة الاجتماعية والصحة والثقافة والفن، وهو ـ أيضاً ـ الرد على دكتاتوريات العالم الثالث من جهة، وعلى البنى العضوية والتقليدية فيه من جهة أخرى( 2 ).

وترتبط الحياة الديموقراطية بدور حقيقي وقوى للمجتمع المدني؛ فالمجتمع المدني هو القطاع غير الحكومي الذي يطلق عليه ـ أحياناً ـ ” القطاع الثالث ” لتمييزه عن الحكومة من ناحية، والقطاع الخاص من ناحية ثانية، فهو يتكون من منظمات وجمعيات وروابط تقوم على العمل التطوعي ولا تسعى لتحقيق الربح. وفي اللغة الإنجليزية تستخدم كلمة مجتمع مدني ـ والتي كانت حتى وقت قريب تترجم في اللغة العربية إلى ” مجتمع أهلي ” ـ لتدل على ارتباط مجموعة المنظمات والمؤسسات غير الحكومية التي تنشأ لتحقيق أهداف اجتماعية بالأهل والأقارب والجيران، بما يوحي بمعاني التضامن والولاء وقوة الارتباط . ولكن تعقد الحياة في المجتمع أدى إلى اتساع نطاق تلك المنظمات، بحيث لم تعد قاصرة على الروابط الضيقة بين أفراد عائلة معينة أو سكان منطقة معينة، وإنما صارت تضم أفراداً من انتماءات أسرية متعددة لا تجمعهم صلة دم أو قرابة أو جيرة مباشرة، وإنما يشتركون في مصالحهم الاقتصادية أو اهتماماتهم الاجتماعية والفكرية (كالدفاع عن مصالح أو قضايا أو فئات معينة). وأصبح المجتمع المدني يشمل أية منظمة أو مؤسسة لا تنشأ بواسطة الحكومة، ولا تخضع لتوجيهها المباشر، وإنما يؤسسها الأفراد بإرادتهم الحرة المستقلة، وينضم إليها غيرهم بشكل اختياري، ويكون لديها أهداف اجتماعية ونشاط تطوعي إيجابي يخدم مجموعة الأعضاء والمجتمع عموماً باستخدام الوسائل السليمة التي يجيزها النظام ويبيحها القانون دون اللجوء إلى استعمال العنف أو القوة المادية ( 3).

ولذا يعرف المجتمع المدني باعتباره مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام ما بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها، ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والإدارة السلمية للتنوع والخلاف( 4 ).

كما يعرف المجتمع المدني على أنه مجموعة المؤسسات والجمعيات والاتحادات غير الحكومية وغير الرسمية التي ينضم إليها الأفراد بشكل اختياري وتطوعي لممارسة العمل العام، ومحاولة التأثير على السلطة الحكومية، وما تضعه من سياسات بما يحقق المصلحة المشتركة بين أعضائها، ويخدم قضايا عامة معينة كحماية البيئة أو يوفر احتياجات فئة معينة ويدافع عن حقوقها( 5 ).

ويمثل المجتمع المدني في تعريف آخر شكلاً من أشكال الحياة الاجتماعية يقع في الفضاء الكائن بين الأفراد والدولة، ومن ثم يضم مجموعة متنوعة من الهيئات والمنظمات النشطة، كالأحزاب السياسية، والنقابات العمالية، والروابط والاتحادات المهنية. ويتسع المفهوم ليشمل المنظمات غير الحكومية، وقد يمتد مفهوم المجتمع المدني ليشمل ـ أيضاً ـ منظمات القطاع الخاص الملتزمة بمسؤولياتها المجتمعية( 6 ).

كما يمثل المجتمع المدني مختلف الأبنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية التي تنتظم في إطارها شبكة معقدة من العلاقات والممارسات بين القوى والتكوينات الاجتماعية في المجتمع من خلال مجموعة المؤسسات التطوعية التي تنشأ باستقلالية عن الدولة( 7 ).

والمجتمع المدني ـ كما يشير ” محمد عابد الجابري ” ـ هو أولاً وقبل كل شيء مجتمع المدن، ومؤسساته هي تلك التي ينشئها الناس بينهم في المدينة لتنظيم حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لذلك فهي مؤسسات إرادية، أو شبه إرادية، يقيمها الناس وينخرطون فيها أو يحلونها أو ينسحبون منها، وذلك على النقيض تماماً من مؤسسات المجتمع البدوي أو القروي التي تتميز بكونها مؤسسات ” طبيعية ” يولد الفرد منتمياً إليها، مندمجاً فيها، ولا يستطيع الانسحاب منها (القبيلة والطائفة إلخ)( 8 ).

وفي إطار مظاهر الثورة المعلوماتية والعولمة ظهر مفهوم المجتمع المدني العالمي ” عبر القومي” ليشير إلى مجموعة المؤسسات والمنظمات غير الحكومية التي تتبنى قضايا لها سمة عالمية مثل: قضايا البيئة، والتنمية، وحقوق الإنسان( 9 ). ومما ساعد على انتشار مصطلح المجتمع المدني العالمي بدء الكثير من الجماعات المكونة للمجتمع المدني في العديد من الدول في الدخول في تحالفات وروابط مع المنظمات العالمية خارج الحدود بما يزيد من قوتها ويحسن من مركزها إزاء الدولة. كما بدأت المؤسسات الاقتصادية والمالية ـ كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرها من الجهات الدولية المانحة للمساعدات ـ تشترط على الدول النامية المدينة أو الراغبة في الاقتراض المبادرة بإدخال بعض الإصلاحات الديمقراطية، من خلال السماح بالتعدد الحزبي والانتخابات وتشجيع منظمات المجتمع المدني، كما زادت المعونة الموجهة إلى الجماعات والمنظمات غير الحكومية داخل تلك الدول بحجة توصيل هذه المعونات مباشرة إلى مستحقيها دون وساطة الحكومة. وكان للبنك الدولي دور واضح في تمويل نشاط المجتمعات المدنية جنباً إلى جنب مع دعوته للأخذ بسياسات اقتصاد السوق والتحول إلى القطاع الخاص وتقييد دور الحكومة في الاقتصاد ( 10 ).

وقد أسهم تزايد الاهتمام بمفهوم المجتمع المدني في استمرار التقليل من أهمية الدراسات الخاصة بدور الدولة. ورغم أن الاتجاه الغالب في دراسات المجتمع المدني لا تضعه في تضاد أو تصادم مع الدولة، إلا أن بعض المبالغات التي صاحبت شيوع المفهوم أعطت انطباعاً غير صحيح بوجود تناقض بينهما( 11). وهذه الرؤية خاطئة؛ لأن للدولة دورا مهما في ظل تطبيق سياسات التحرير والعولمة، و التي سوف تتيح لأصحاب النفوذ السياسي استغلال وظائفهم أو مناصبهم السياسية لحشد القوة الشخصية والثروة لأنفسهم ولعائلاتهم( 12).

كما أن دور الدولة لا يتناقض مع بزوغ المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، وما قامت به من تسهيل ودعم المبادرات الشعبية الضاغطة من أجل التحول الديمقراطي والتنمية المستديمة التي تهتم بالفقراء، وعلى عكس ما تردده بعض الكتابات الغربية المعاصرة عن العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني، والتي يبدو أنها لابد وأن تتأسس على المواجهة والصدام بينهما؛ ذلك أن تكوينات المجتمع المدني تلعب دوراً هاماً في الوصول إلى مناطق وقطاعات مهمشة من السكان لم ترغب أجهزة الدولة ومؤسساتها في التواصل معها، كما أن هيئات المجتمع المدني تؤدي وظيفة هامة أخرى وهي ملء الفراغ الذي ينجم عن انسحاب الدولة التدريجي من الحياة الاقتصادية والاجتماعية بفعل اتباع سياسات التكيف الهيكلي والشروط المطلوبة لإعادة جدولة الديون ( 13) .

ومما سبق يمكن تعريف المجتمع المدني تعريفا إجرائياً باعتباره: ” مجموعة التجمعات والروابط التطوعية التي تقيمها فئات مختلفة من الناس للتعبير عن مصالحهم وأفكارهم، وتحقيق أهدافهم المشتركة، وبما يخدم قضايا عامة”.

المراجع:

1 – Carlos- Pereira, Luiz, et al., Economic Reforms in New Democracies, A social- Democratic Approach, Cambridge University Press, New York, 1993, p.1.

2- عزمي بشارة، المجتمع المدني: دراسة نقدية، مع إشارة للمجتمع المدني العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998، ص31.

3- ناهد عز الدين، المجتمع المدني، موسوعة الشباب السياسية، العدد (5)، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، القاهرة، 2000، ص ص93- 94.

4- أماني قنديل، عملية التحول الديمقراطي في مصر (1981- 1993)، مركز ابن خلدون للنشر، القاهرة، 1990، ص 5.

5– ناهد عز الدين، المجتمع المدني، مرجع سابق، ص 11.

6- تقرير التنمية البشرية 2003، التنمية المحلية بالمشاركة، معهد التخطيط القومي، القاهرة، 2003، ص 57.

7- حسنين توفيق إبراهيم، بناء المجتمع المدني: المؤشرات الكمية والكيفية، ورقة بحثية في ندوة: المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1992، ص159.

8 محمد عابد الجابري، إشكالية الديمقراطية والمجتمع المدني في الوطن العربي، المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، العدد 167، يناير 1993، ص 9.

9 -Faik, Richard, Normative Democracy, Oxford University Press, Oxford, 1998,p.29.

10- ناهد عز الدين، المجتمع المدني، مرجع سابق، ص ص 71- 72.

11- هالة مصطفى، الدولة وجدت لتبقى، مجلة الديمقراطية، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، الأهرام، القاهرة، السنة الأولى، العدد الثالث، صيف 2001، ص 6.

12 –Strange ,S. ,The Retreat of the State :the Diffusion of Power in the World Economy, Cambridge University Press ,Cambridge ,1996 , p.3.

13- أحمد ثابت، الدور السياسي والثقافي للقطاع الأهلي، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، القاهرة، 1999، ص ص 17- 18.

المصدر: http://www.medadcenter.com/Articles/show.aspx?Id=63