العمل الخيري والتنمية (2) – د. محمد سعيد عبدالمجيد

العمل الخيري والتنمية (1) – د. محمد سعيد عبدالمجيد

أدت التغيرات الدولية التي وقعت في نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة إلى فرض اهتمامات جديدة تماماً على مفاهيم ونظريات واستراتيجيات التنمية؛ فظهر مفهوما التنمية البشرية، والتنمية المستدامة.

أ . مفهوم التنمية البشرية

التنمية البشرية أو التنمية المتمحورة حول البشر تعرف طبقاً للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة على أنها عملية توسيع الخيارات المتاحة للناس، بتمكينهم من الحصول على الموارد اللازمة لتحقيق مستوى حياة كريمة، وبتمكينهم من أن يعيشوا حياة طويلة خالية من العلل، ومن أن يكتسبوا المعارف التي تطور قدراتهم وتساعدهم على تحقيق إمكاناتهم الكامنة وبناء ثقتهم بأنفسهم، وتمكنهم من العيش بكرامة، والشعور بالإنجاز واحترام الذات.

ووفقاً لذلك يتأسس مفهوم التنمية البشرية على عدد من المباديء:

البشر هم عماد التنمية وأساسها، وأن كل مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية يجب أن توجه لتقديم مزيد من الفرص للبشر.

– إن توسيع الفرص Opportunities والاختيارات Choices تمنح البشر قدرات جديدة، وتتيح لهم الإمكانية لاستخدام هذه القدرات.

– إن النمو الاقتصادي هام ليس فقط للتنمية البشرية، ولكن للتنمية بشكل عام، وهو ليس هدفاً في حد ذاته؛ ولكنه يجب أن يسهم في تحسين الرفاه الإنساني ونوعية حياة البشر، فهدفه الأساسي هو التنمية البشرية (1) .

وتتمثل أبعاد التنمية البشرية في جانب تشكيل القدرات البشرية من خلال: التعليم، والتدريب، والبحث، وتعزيز دور المرأة، وتحسين إدارة القطاع الخاص والعام، والتخطيط الكفء للموارد البشرية، والاهتمام بتوفير الرعاية الصحية والحاجات الأساسية للبشر. هذا فضلاً عن جانب الانتفاع بالقدرات البشرية من خلال زيادة الخيارات المتاحة أمام الناس في الحياة الخالية من العلل، واكتساب المعرفة، وتحقيق مستوى حياة كريمة، والحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتوفير فرص الإبداع، واحترام حقوق الإنسان.

وتأسيساً على ذلك استخدمت الأمم المتحدة مؤشر مركب للتنمية البشرية يتأسس على أربعة مؤشرات فرعية، هي: نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، (في ضوء مستوى القوة الشرائية والتضخم )، والعمر المتوقع، والتعليم لدى الكبار، وأعداد الأطفال المدرجين في مؤسسات التعليم الرسمية ( 2) .

ب – مفهوم التنمية المستدامة

في ظل المتغيرات الدولية التي طرأت على المجتمع العالمي مع نهاية الحرب الباردة أصبحت للمشاكل التي تواجه العالم أبعاد كونية، سواء من حيث أسلوب طرحها أو طريقة علاجها؛ فالإنتاج الصناعي بمخلفاته أصبح عبئاً على البيئة، والبيئة ليست موارد بلا حدود، ولا هي مستقر دون قاع تلقى فيه المخلفات والعوادم بلا حساب، بل إنها وديعة ينبغي تسليمها للأجيال القادمة سليمة صالحة ( 3) .

ومن هنا برز مع نهاية الثمانينات من القرن العشرين تيار تنموي يدعو إلى أن تكون التنمية متوائمة مع البيئة والاعتبارات البيئية. فلم تهتم أدبيات التنمية التقليدية بالبيئة، وتعاملت معها كمجرد وسيلة لتحقيق التنمية، حيث فصلت هذه الأدبيات بين ما هو طبيعي وما هو اجتماعي، وتم تجاهل البعد الطبيعي والبيئي في التنمية، وهو البعد الذي أتضح الآن تأثيره البالغ على مجمل مسارات التنمية والنظام الاجتماعي ( 4) .

ولقد أصبحت التنمية المستدامة تعني أموراً مختلفة لشرائح مختلفة، وذلك اعتماداً على ما يعتقد أنه العنصر المهم والأهم في تحديد المفهوم. فهناك من يركز على أن عنصر “البيئة” هو أهم عناصر التنمية المستدامة، وهناك من يركز على عنصر ” الموارد الطبيعية ” وكيفية إدارتها وتعظيم الفائدة من استخدامها والأساليب الممكنة للإبقاء والمحافظة عليها، وذلك كأهم ما توحي إليه التنمية المستدامة، كما أن هناك من يعتقد أن الجوهر بالنسبة للتنمية المستدامة هو ” التفكير في المستقبل” وفي مصير الأجيال القادمة. وبالإضافة إلى ذلك يعتقد البعض أن عنصر ” المشاركة ” في إدارة التنمية ـ وخاصة التنمية على الصعيد المحلي ـ هو الجوهر بالنسبة إلى التنمية المستدامة. ثم هناك عنصر ” السكان”، حيث يؤكد البعض أن الأساس بالنسبة إلى التنمية المستدامة هو الموازنة بين موارد الأرض المتناقصة والعدد المتزايد من السكان في العالم. ويرتبط بهذا البعد السكاني عنصر” الفقر”، وتزايد عدد الفقراء في العالم. وهدف التنمية المستدامة المباشر هو القضاء على الفقر الذي يزداد كماً ونوعاً. وأخيراً تبرز ” الطاقة ” والاستهلاك العالمي الراهن من الطاقة كبعد مهم من أبعاد التنمية المستدامة (5) .

وقد أدت الاستخدامات المتعددة لمفهوم التنمية المستدامة إلــى وجود تعريفات مختلفة للتنمية المستدامة. فنجد اللجنة العالمية للبيئة والتنمية تقدم في تقريرها الذي أعدته بعنوان ” مستقبلنا المشترك ” عدداً من التعريفات منها: أن التنمية المستدامة هي التنمية التي تضمن تلبية حاجات الحاضر دون المساومة على قدرة الأجيال المقبلة على الوفاء بحاجاتها. وكذلك التنمية المستدامة هي: التنمية التي تهدف إلى الوفاء بالحاجات الأساسية للجميع، وتوسيع الفرصة أمام الجميع لتحقيق طموحاتهم في حياة أفضل. والتنمية المستدامة ـ أيضاً ـ هي: عملية تغير يكون فيها استغلال الموارد، وتوجيه الاستثمارات، ومسيرة التنمية التكنولوجية، والتحول المؤسساتي، في اتساق مع المستقبل ومع حاجات الحاضر على حد سواء. وأخيراً فالتنمية المستدامة هي التي تشبع الحاجات الأساسية للفقراء، مع ضمان العدالة في توزيع الموارد، وتعزز هذه العدالة بأنظمة سياسية تؤمن بمساهمة المواطنين بصورة فعالة في صنع القرارات، وكذلك باتباع نهج ديمقراطي أكبر في اتخاذ القرارات الدولية(6).

ويلاحظ أن تزايد معدلات الفقر والبطالة في الدول النامية قد أدى إلى زيادة الضغط على الموارد الطبيعية؛ نظراً لازدياد عدد الناس الذين أصبحوا مضطرين إلى الاعتماد مباشرة عليها أكثر من أي وقت مضى. وتخلت حكومات عديدة عن بذل الجهود لحماية البيئة وأخذ الاهتمامات البيئية بعين الاعتبار في خطط التنمية (7) . لذلك فلا معنى للحديث عن أهمية المحافظة على البيئة حيث يعيش الناس في ظروف بؤس شديد، ومجاعة مقيمة، ومرض متفش. وهكذا يتضح أن صيانة البيئة في البلدان النامية لا تعني الحد من النمو، بل على العكس تتطلب مضاعفة جهود التنمية، بشرط واحد هو ألا تسير تلك التنمية على نفس مسـار النمـو الرأسمالي في الغرب (8) .

وعلى هذا فمستقبل العالم أصبح مرتبطاً بالتخطيط لتنمية دائمة ومتواصلة ومتجددة، تلبي احتياجات الحاضر دون أن تضحي بمتطلبات المستقبل؛ فالعالم بأمس الحاجة إلى تنمية تستخدم عناصر البيئة وموارد الطبيعة، وتضمن في ذات الوقت عدم تلوثها وعدم استنزافها، وبالتالي استمرارها من أجل استخدامها من قبل الأجيال القادمة. إن العالم بحاجة إلى تنمية تستند إلى مبدأ أن الموارد الطبيعية محدودة، وهي ملك للجميع وبالتساوي، وهي ملك للمستقبل بقدر ما هي ملك للحاضر، وهي ـ على كل الأحوال ـ ليست ملكاً للإنسان وحده؛ وإنما هي ـ أيضاً ـ من حق كل الكائنات والمخلوقات. والتنمية المستدامة هي التنمية التي تنطلق من هذه المباديء، وتحقق التوازن بين التنمية والبيئة، بين الإنتاج والاستهلاك، وبين قدرة البيئة على العطاء وقدرتها على التحمل( 9) . ويرتبط بهذا عدم إمكانية فصل مستقبل صلاحية كوكب الأرض للمعيشة عليه عن التوزيع الحالي للثروة. وتقدم نهاية الحرب الباردة الفرصة لإعادة ترتيب الأولويات القومية، وللاستثمار في مجال الثورة البيئية في نواحي الصحة، وتنظيم الأسرة، وغرس الأشجار، وكفاءة مصادر الطاقة، واكتشاف مصادر جديدة للطاقة، وتنقية المياه، وإعادة توزيع السكان (10) .

ووفقاً لما سبق يمكن القول إن العالم في حاجة إلى قيام مسار جديد للتنمية من شأنه الإبقاء على التقدم الإنساني، لا في بضع مناطق أو بضع سنين فحسب، بل في الكوكب كله، وحتى في المستقبل البعيد. فالتنمية المستدامة ليست هدفاً للشعوب النامية فحسب؛ بل وللشعوب الصناعية كذلك.

كما يكشف ذلك عن أهمية تحديد مفهوم للتنمية يتلاءم مع واقع دول العالم الإسلامي، ويحقق طموحاتها في معيشة أفضل. وهذا هو موضوع المقالة التالية ـ بإذن الله ـ ” التنمية من منظور إسلامي “.

المراجع :

(1)United Nations Development Programme (UNDP) , Human Development Report 2006 , New York , USA , 2006 ,p .v.

Ibid . p .v. (2)

(3) حازم الببلاوي، التنمية مشكلة عالمية، حلولها إقليمية، جريدة الأهرام، 23 أغسطس 1995، ص20.

(4)Haughton ,Graham , Environmental Justice and Sustainable City , in David Satterthwaite (ed. ), The Earthscan Reader in Sustainable Cities ,Earthscan Publications Ltd ,London ,1999 , p.62.

(5) عبد الخالق عبد الله، التنمية المستديمة والعلاقة بين البيئة والتنمية، المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، العدد 167، يناير 1993، ص ص 95- 96.

( 6) اللجنة العالمية للبيئة والتنمية، مستقبلنا المشترك، ترجمة محمد كامل عراف، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 142، أكتوبر 1989، ص ص 36-37.

(7) Aina ,Tade , The State and Civil Society : Politics , Government , and Social Organization in African Cities , in Carole Rakodi (ed. ) ,The Urban Challenge in Africa : Growth and Management of its Large Cities , United Nations University Press , New York , 1999 ,p .412 .

(8) إسماعيل صبري عبد الله، نحو نظام اقتصادي عالمي جديد، دراسة في قضايا التنمية والتحرر الاقتصادي والعلاقات الدولية، ط2، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1977 ، ص249.

(9) عبد الخالق عبد الله، التنمية المستديمة، مرجع سابق، ص93.

10) Brown, Lester, Launching the Environmental Revolution, in Lester Brown et al., State of the World 1992, W.W. Norton & Company, New York, 1992, p. 154.

المصدر: http://www.medadcenter.com/Articles/show.aspx?Id=57