ثقافة الخير من منظور غربي – د. مهدي محمد القصاص

ثقافة الخير من منظور غربي – د. مهدي محمد القصاص

نتناول في هذه المقالة تأصيلا لمفهوم ثقافة الخير باعتبارها عاملا دافعا وهاما نحو الحراك بعجلة التنمية المجتمعية، والارتقاء بالمجتمعات الإسلامية عامة، والعربية منها على وجه الخصوص. وبمزيد من الدقة فإن هذه المقالة ستسعى للإجابة عن السؤال التالي: ما المقصود بمفهوم العمل الخيري؟ وما الذي تعنيه ثقافة الخير؟ ولنبدأ في هذه المقالة بتأصيل المفهوم من منظور غربي، على أن نلي ذلك ـ إن شاء الله ـ بمقالة عن ثقافة الخير من منظور إسلامي.

لماذا كلمة ثقافة؟! إذا كانت الثقافة هي مجموع الأفكار والقيم والتصورات والمعتقدات التي يكتسبها الإنسان ويتعلمها من خلال التنشئة والحياة في مجتمع ما والتفاعل معه, والتي يدين بها الفرد وتوجه مسلكه؛ فإن هذه الثقافة تكون هي الدافع والمحرك لهذا الإنسان. وإذا كان كل إناء بما فيه ينضح؛ فإن كل ما يفعله الإنسان هو ترجمة صادقة لثقافته؛ فإن كانت هذه الثقافة سليمة البنية ونافعة المقصد؛ فلا شك في أن الأفعال المتمخضة عنها ستكون خيراً.

ويحثنا ديننا الحنيف على عمل الخير في كل وقت، وبأي شاكلة كان؛ فإلقاء السلام على من تعرف ومن لا تعرف يشيع الطمأنينة والسلام الاجتماعي, والابتسامة في وجه أخيك تشيع المودة والألفة, وإماطة الأذى عن الطريق تفيد الناس دون أن تكلف المرء شيئا. بل إن الإيمان مرتبط بالعمل الصالح؛ فقلَّما يأتي ذكر الإيمان في القرآن الكريم دون أن يكون مقرونا بالعمل الصالح. وليس هذا فحسب, فأَنْ تكون قدوة طيبة أو تحث الآخرين على إتيان الخير وترشدهم إليه, فتلك عملية نتائجها موصولة “الدال على الخير كفاعله”. وهذا يتطلب منا أن نعيد تشكيل رؤيتنا وفكرنا عن عمل الخير؛ كي ننهض بهذا الفكر، وصولا إلى أمثل تفعيل لثقافة الخير؛ بهدف تحقيق تنمية مجتمعية حقيقية.

من الجدير بالذكر بداية أن مفهوم العمل الخيري في الثقافة الغربية مفهوم حديث نسبيا, مقارنة بأصالته في تراثنا الإسلامي, كما أنه يقوم على فكرة التطوع والمشاركة المجتمعية، وليس العمل الخيري بمفهومه المتأصل في ثقافتنا الإسلامية، والذي سبق تناوله في مقالة سابقة. فالنموذج الثقافي الغربي يقوم على أساس أن الأفراد والجماعات تفضل تلبية حاجاتها من السلع والخدمات من خلال الدولة والسوق. إلا أنه في منتصف القرن التاسع عشر بدأ الالتفات إلى النشاطات الخيرية, خاصة في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية. ففي ظل الثورة الصناعية ازداد عدد المهاجرين إلى المدن للعمل في المصانع، وكان هؤلاء العمال يعانون أشد المعاناة من سوء الرعاية الصحية والمسكن، والفقر المدقع، والجريمة؛ لذا ظهرت تلك المؤسسات الخيرية، وبدأت في البحث عن كيفية احتواء تلك المشكلات والسيطرة عليها، ومحاولة إيجاد علاج لها. وقد استنفر هذا المسعى نخبة رجالات المجتمع الغربي والأفراد البارزين في الطبقة الوسطى، الذين اعترفوا بمسؤوليتهم عن الطبقة العاملة؛ لذلك بدؤوا بالانتظام في هياكل تطوعية لتقديم المعونات اللازمة. وفي ظل مجتمعات كانت تسودها الطبقية الطاغية في تلك الفترة انطلقت تلك المؤسسات الخيرية، وكانت تهدف لكشف النقاب عن المشكلات المجتمعية والحياتية للطبقة العاملة، ومحاولة حلها؛ حيث بدأت تلك المؤسسات فى تقديم مساكن للعمال وبعض الخدمات الصحية والتعليمية(1).

وفي القرن العشرين, خاصة في الربع الأخير منه, بدأ العمل الخيرى يأخذ شكلا مؤسسيا واضحا، وزاد الإدراك بوجود قطاع ثالث يضاف لقطاعي الدولة والسوق، وهو قطاع المجتمع المدني civil society، الذي يضم تحت مظلته كافة الأشكال الأخرى من منظمات العمل الخيري التي تهدف جميعها للنهوض بالمجتمع وإحداث التنمية(2). ويمكن النظر للمجتمع المدني ومؤسساته على أنها تشير للتفاعلات الاجتماعية غير الرسمية “أي غير ذات الصلة بأجهزة الدولة ومؤسساتها”. وبمزيد من التحديد, فهي تشير للتفاعلات غير الاقتصادية التي تتم بشكل تطوعي من قبل منظمات مدنية متطوعة، تعتمد في كثير من الأحيان على العلاقات المجتمعية المحلية العميقة. ومن هذا المنطلق, تكون هناك فرضية أخلاقية مفادها أن المجتمع المدني يمثل جسر التواصل بين الاستقلالية الفردية والتماسك الاجتماعي الذي لا يقوم على آليات السلطة التنفيذية والولاء السياسي للدولة(3). كما يشير “تشارلز تايلور” Charles Taylor للمجتمع المدني على أنه شبكة من الارتباطات الذاتية المستقلة عن الدولة, تجمع بين المواطنين في القضايا ذات الاهتمام المشترك, والتي من خلال وجودها وأفعالها تستطيع التأثير على السياسات العامة(4).

ويندرج تحت قطاع المجتمع المدني أشكال عدة من المنظمات والمؤسسات التي تسير على هذا الدرب؛ فهناك المنظمات الأهلية (أو غير الحكومية)Non-Governmental Organizations (NGOs)، والتي تهدف للمشاركة في تقديم الخدمات الاجتماعية لمحدودي الدخل. ويتعاظم دور تلك المنظمات عند تدني مستويات الدعم الحكومي والمساعدات التي تقدمها الدولة؛ فتقَلُّصُ المساعدات الحكومية يلقي بعبء أكبر على كاهل تلك المؤسسات والجمعيات؛ لأنها تصبح المصدر الوحيد لتقديم الخدمات الاجتماعية والدعم والعمل الخيري بشكل عام(5). ويتراوح نشاط تلك المنظمات الأهلية من الأندية الرياضية والاجتماعية، وصولا إلى أعمال التنمية واللوبيات والتحزب السياسي. وهي تقوم, من بين وظائفها الأخرى, بتوصيل مساعدات الإغاثة، والانخراط في التنظيمات الشعبية والجماهيرية، وتناول القضايا البيئية، وعمل مشروعات تنموية، والقيام بدور الوسيط بين الحكومات والمنظمات الأخرى التي تقدم المساعدات. ويؤثر الهدف الأساسي الذي تقوم عليه كل منظمة على طرائقها المنهجية في التنمية، وتأثيرها المحلي، وعلاقتها بالحكومات والمجتمع المحلي والمنظمات الأهلية الأخرى(6).

ومن الأشكال الهامة للمنظمات الأهلية ما يعرف “بالمنظمات الإنسانية” Philanthropic Foundations، وهي منظمات مدنية لا تهدف للربح, لها تمويل خاص وإدارة ذاتية, يقوم بها مجلس من الأوصياء أو المديرين, وتحمل أجندة تنمية تهدف لتقديم خدمات اجتماعية أو تعليمية أو دينية، أو أي أهداف أخرى, وتعمل من أجل الصالح العام على المستوى المحلي أو الدولي(7). وهذه المنظمات الإنسانية قد جاءت كتطور طبيعي لشكل المنظمات المدنية الذي ساد في القرن التاسع عشر؛ وهو المؤسسات الخيرية Charitable Foundations، التي مثلت اللبنة الأولى للمجتمع المدني باعتباره قطاعاً ثالثاً يحاول إحداث التنمية الاجتماعية بجانب الدولة والسوق(8). ويمكن تعريف المؤسسات الخيرية على أنها كيان يقوم على أهداف خيرية كلية للصالح العام, ويتسم بالاستقلالية وعدم التربح من وراء توزيع التبرعات أو الخدمات, كما أنه غير موجه سياسيا(9). ويعرف القانون البريطاني المؤسسات الخيرية على أنها: “المؤسسة التي تقوم على أساس أهداف خيرية فقط, وتكون خاضعة لسلطات المحكمة العليا في سياق ممارساتها لإجراءاتها القضائية فيما يتعلق بعملها(10). وينظر القانون الأسترالي للمؤسسات الخيرية على أنها: “مؤسسة لا تهدف للربح, يتم تنظيمها بحيث تقدم خدمات الإغاثة المباشرة لمشكلات مثل: الفقر، والمرض، والكوارث، والإعاقة …إلخ. وهي لا تستجدي المجتمع ولا تستعطفه؛ بل إنها واجب أصيل، والتزام أخلاقي لا حيد عنه(11).

وتشترك منظمات المجتمع المدني ـ أيا كان شكلها أو توجهها ـ في أنها منظمات لا تهدف للربح Non-Profit Organizations، تقوم على أساس تطوعي voluntary, وتقدم المعونات والمساعدات والمنح للأفراد أو الدول، أو تقدم خدمات اجتماعية كالتعليم والرعاية الصحية ورعاية الأطفال …إلخ. ويمثل مشروع “The John Hopkins Comparative Non-profit Sector” أكثر محاولات علماء الاجتماع الغربيين شمولية لتعريف هذا القطاع الجديد الذي يشغل فراغا مجتمعيا مستقلا عن السوق والدولة. وقد انطلق هذا المشروع في 1990 لوضع المعالم الرئيسة لهذا القطاع(12). كما أن هناك “المبادرة العالمية لدعم إعطاء التبرعات” World Wide Initiative for Grant-maker Support، وهي مبادرة مدعومة مؤسساتيا, لكنها ليست مؤسسة في حد ذاتها؛ فهي لا تمتلك رأس مال، ولا تعطي منحاً أو تبرعات، بل إنها تسعى لتوجيه أولويات تقديم المنح والتبرعات في سياق توجه عالمي بما يمنحها القدرة على التأثير في دور وممارسات العمل الخيري. وتهدف هذه المبادرات إلى خلق الفرص للمنظمات الداعمة لمقدمي المنح والتبرعات للتعلم والإفادة والدعم المتبادل, كما أنها تسعى لتطوير أشكال من التواصل والتعاون بين المنظمات الداعمة لمقدمي المنح, فضلا عن إسهامها في تقوية وتعزيز العمل الخيري على مستوى العالم(13). ولا يقتصر دور المنظمات الأهلية على أعمال الإغاثة والمنح وتقديم الخدمات الاجتماعية فقط, بل إنها تقوم ـ أحيانا ـ بدور الوسيط الساعي لتيسير التفاعل بين الجماعات المختلفة أو المتناحرة، وذلك من خلال إرسائها لأرضية تفاهم مشتركة ونقاط اتفاق يمكن البدء منها والبناء عليها, خاصة في المجتمعات التعددية، والتي تحوي أقليات غير مستوعبة في السياق المجتمعي العام(14).

وبهذا, نجد أن العمل الخيري التطوعي بات مفهوماً عالمياً تتبناه ـ غالباً ـ الشعوب الأكثر نمواً وتطوراً، ومفهوما يجعل من العمل في اللجان والمؤسسات والجمعيات غير الربحية شأناً عاماً ذا قاعدة عريضة؛ لذلك تكثر الجمعيات الخيرية والتطوعية المتخصصة كالدفاع عن حقوق الإنسان، وحماية البيئة، وجمعيات الإغاثة، ومؤسسات حماية الرأي والتفكير والإبداع، وجمعيات النفع العام، والجمعيات الإقليمية والمحلية، التي تنتشر لتؤدي أدواراً مهمة وحساسة، مثل: مواجهة مشكلة ما، أو جمع التبرعات لمكافحة آفة صحية أو بيئية أو ظاهرة اجتماعية (15).

المراجع

1- Bulmer, Martin, Some observations on the history of large philanthropic foundations in Britain and the United States, International Journal of Voluntary and Nonprofit Organizations: 6(3), October 1995, pp. 275-291.

2- Morris, Susannah, Defining the Nonprofit Sector: Some Lessons from History, International Journal of Voluntary and Nonprofit Organizations: 11(1), 2000, pp. 25-43.

3- Carver, Terrell, et. al., Civil society in Japanese politics: Implications for contemporary political research, European Journal of Political Research: 37(4), 2000, pp. 541–555.

4- Ibid, p. 543.

5- Sommerfeld, David and Reisch, Michael, Unintended Consequences: The Impact of Welfare Reform in the United States on NGOs, International Journal of Voluntary and Nonprofit Organizations: 14(3), September 2003, pp. 299-320.

6- Keese, James R., International NGOs and Land Use Change in a Southern Highland Region of Ecuador, Human Ecology: 26(3), 1998, pp. 451-468.

7- International Finance Briefing Note, Philanthropic Foundations and their Role in International Development Assistance, New Series, No. 3, February 27, 2007, p. 1.

8- Anheier, Helmut K. and Leat, Diana, From Charity to Creativity: Philanthropic Foundations in the 21st Century, Near Stroud, UK, 2002, Reviewed by, Uluorta, Hasmet, in International Journal of Voluntary and Nonprofit Organizations: 14(3), September 2003, pp. 359-362.

9- O’Halloran, Kerry, et. al., Definitional Problems: Charitable Purposes, in ” Charity Law & Social Policy: National and International Perspectives on the Functions of the Law Relating to Charities” Volume 10, Springer, Netherlands, 2008, pp. 473-508.

10- Ibid, p. 476.

11- Ibid, p. 477.

12- Morris, Susannah, Defining the Nonprofit Sector: Some Lessons from History, op, cit, p. 26.

13- Leat, Diana, Chapter 16: The Infrastructure of Global Philanthropy: Wings and Wings-CF, in Anheier, Helmut, et. al., (Eds) ” Innovation in Strategic Philanthropy: Local and Global Perspectives” Springer US, 2007, pp. 199-211.

14- Stroschein, Sherrill, NGO Strategies for Hungarian and Roma Minorities in Central Europe, International Journal of Voluntary and Nonprofit Organizations: 13(1), March 2002, pp. 1-26.

15- ميرزا الخويلدي, العمل التطوعي بين الواقع والطموح, جمعية الصفا الخيرية بصفوى, 1423هـ,

تم الرجوع إليه في 20 مايو 2009 في http://www.safwanet.net

المصدر: http://www.medadcenter.com/Articles/show.aspx?Id=83