زهيرة عابدين..امرأة أحبت العمل الخيري فأحبها الناس حتى الأشرار! – عبد الوهاب إبراهيم سعيد

زهيرة عابدين..امرأة أحبت العمل الخيري فأحبها الناس حتى الأشرار!عبد الوهاب إبراهيم سعيد

لأعمالها التطوعية غير المحدودة حازت على العديد من الألقاب المرتبطة بالعطاء والعمل الخيري، فتارة لقبت بـ ” أم المساكين ” و أخرى بـ ” أم الأطباء “، وإن كان اللقب الأخير كان الأكثر التصاقا بها طوال حياتها المليئة بالعطاء الإنساني. إنها الأستاذة الدكتورة زهيرة عابدين “رحمها الله ” التي وُلدت لعائلة أرستقراطية من كبار العائلات المصرية، فوالدها حسين عابدين باشا عضو مجلس الشيوخ، لكن أرستقراطيتها دفعتها أكثر للاقتراب من الفقراء والمساكين لمساعدتهم وليس للاستكبار على خلق الله من الضعفاء والمعوزين؛ فهي صاحبة المشروع الإنساني الرائد “جمعية أصدقاء مرضى روماتيزم القلب للأطفال”، التي تأسست عام 1957م، واستطاعت من خلالها التركيز الشديد على مكافحة مرض روماتيزم القلب بين الأطفال، ومن فضل الله تعالى عليها أن جهودها التطوعية الخالصة لرب السماء نجحت في تحسين نسبة حالات القلب الشديد الوطأة في مصر خلال 20 سنة من 50% إلى أقل من 4% وهو إنجاز نال تقدير العالم، ومن خلال تلك الجمعية أنشأت الراحلة مركزًا للقلب والروماتيزم بحي الهرم بالقاهرة في أواخر خمسينيات القرن، وأسَّست فروعًا له ملحقة بالجامعات إقليمية بكل من أسيوط بجنوب الصعيد، وطنطا، والزقازيق، والمنصورة، والإسكندرية. وأقامت معهد صحة الطفل، وهو يحتل مبنى ضخمًا من عشرة طوابق بأحد أرقى أحياء القاهرة؛ بهدف رعاية الطفولة ووقايتها من أمراض ما قبل سن الرابعة، وعلى رأسها: أمراض سوء التغذية، والنزلات المعوية، والجفاف الشائعة بين المعوزين من أبناء الوطن. وامتلأ هذا المعهد حاليًا بخدمات صحية واجتماعية، كما أقامت دارًا للطلبة الجامعيين المعوزين والمغتربين، ولا يزال يعمل منذ عام 1962م.

مساعدة الفقراء

وحرصت الراحلة الكبيرة على الاهتمام بالتعليم ومساعدة الفقراء على التعلم وهي “بنت الباشا ” التي التحقت في الطفولة بإحدى المدارس التبشيرية” التنصيرية “(سان ماري)، وفي إحدى الحصص دخلت مع الأطفال كنيسة المدرسة لتأدية طقوس الصلاة والاستماع للتراتيل التي تتلوها الراهبات، إلا أنها وجدت لسانها قد انعقد عن النطق، وقلبها انقبض بشدة، وشعرت بكره شديد لهذه المدرسة فلم تستطع الاستمرار فيها لطبيعة منهجها، وفطرتها السليمة النقية فالتحقت بالمدرسة السنية، وهي مدرسة إسلامية مهتمة بغرس المنهج النبوي الشريف في نفوس الصغار، وفرحت لذلك فرحا شديدا رغم بعد المدرسة عن منزل الأسرة، وفي تلك المدرسة لم تجد مكانًا للصلاة فطلبت من إدارة المدرسة توفير مكان للصلاة، واستجابت الناظرة، وسمحت لزهيرة وزميلاتها بتنظيف إحدى الحجرات في جانب من فناء المدرسة واتضح أنه كان مسجدًا، ولكنه أُغلق وأُعيد افتتاحه، وأصبح المسجد شعلة نشاط من صلاة، ودروس تحفيظ، وتجويد قرآن كريم، فهي تعودت على صلاة الفجر في وقتها منذ نعومة أظافرها، وعندما كان عمرها خمس سنوات بدأت حفظ القرآن يى وقت كان أبناء الطبقة الأرستقراطية يتباهون بتعليم أبنائهم لغة المحتل ” الإنجليزية ” كدليل على التحضر والتمدن، ومن خلال مسجد المدرسة بدأت تدعو الضيوف من علماء الأزهر وهي في هذه السن الصغيرة.

الطلائع الإسلامية

ومن الأعمال التطوعية لأم الأطباء إنشاء سلسلة مدارس الطلائع الإسلامية، وكان الهدف الأول منها هو تنشئة جيل صالح يعتمد على العلم والإيمان، وأكدت في لائحتها التعليمية اهتمامها الخاص بالتربية والأخلاقيات المستمدة من إيمان صادق بالله تعالى، وعلى الحب والتضحية والعطاء، وفرعا المدرسة الرئيسيان يضمان 3500 طالب وطالبة في المراحل المختلفة، وتُعَدّ هذه السلسلة من أوائل المدارس الإسلامية بمصر، فكان أن سار على فكرتها الكثيرون ممن أسهموا في بث القيم الفاضلة في المجتمع المصري من خلال التعليم، وامتد نشاطها التعليمي التطوعي في دول إسلامية أخرى، حيث أقامت وقفًا إسلاميا لتعليم أطفال البوسنة والهرسك بعد الحرب التي تعرض لها مسلمو هذه الدولة الوليدة على أيدي الصرب والكروات.

الشابات المسلمات

وعندما تعثرت جمعية الشابات المسلمات بالقاهرة ماليا، وتكاثرت عليها الديون، ورفع أمرها إلى وزيرة الشؤون الاجتماعية التي اتخذت قرارًا بإسناد رئاستها إلى د. زهيرة عابدين، فما كان من الراحلة إلا أن صدعت للأمر غيرة منها على المرأة المسلمة، رغم انشغالها الشديد، ومن خلال هذه الجمعية أسست مشروعات عديدة تركزت في حي الحسين بوسط القاهرة، منها: حضانة للأطفال قبل السادسة من العمر (حوالي مئة طفل)، مشغل لبنات الحي لتعليم التفصيل والخياطة والتطريز (حوالي مئة سنويًّا)، دار الطالبات الجامعيات المغتربات من خارج القاهرة، عيادة طبية. ومن هذا العمل المتواصل الذي ظهرت آثاره في المجتمع، تجمع على د. زهيرة أهل الخير الذين وثقوا في نزاهتها وإخلاصها فتدفقت أموال الصدقة إليها فتبنت مشروعًا كبيرًا للقطاء واليتامى بدأت فيه بإنشاء دار إيواء تسع إلى أكثر من مئة طفل، وتقدم هذه الدار حاليًا خدماتها الاجتماعية الإنسانية لهذه الفئات. والمتتبع للنشاط الاجتماعي للدكتورة زهيرة يصعب عليه الحصر أو التفصيل؛ فكما يبدو من قائمة الأنشطة الخيرية أنها كانت ترمي في كل ميدان بسهم من سهام الخير.

الأطباء والمرضى

وكانت د. زهيرة تستشعر مسؤوليتها عن فئتين خصوصًا: الأطباء والمرضى، وتشعر بالأمومة نحوهم؛ لذا فمن مراحل حياتها التي لا تُنسى أن أسند إليها مهمة تأسيس أول كلية طب متطورة بدولة الإمارات العربية “كلية دبي الطبية للبنات” عام 1986م، فوضعت مناهجها، وعكفت على إدارتها عميدة لها زهاء سبعة أعوام نالت خلالها الكلية تقديرًا عالميًّا من الهيئات الطبية العالمية، ولا تزال المتخرجات من الكلية من الطبيبات المشهود لهن بالكفاءة، يشعرن بالفخر إذ تتلمذن على يدها، ويتذكرن مواقفها الحانية وأمومتها الصادقة، وليس أدل على هذا الاعتزاز من تمسكهن بها عميدة شرفية مدى حياتها ( اقرأ عن الكلية ونشأتها ومناهجها) رغم مصارعتها في السنوات الأخيرة لمرض شديد، ورغم تغيبها في إنجلترا وأمريكا للعلاج، وملازمتها للفراش ملازمة كاملة، إلا أنها كانت تستثمر أوقات نقاهتها القصيرة في معاودة النشاط، فقد كانت عازمة على مواصلة التطوع والعمل الخيرس إلى أن صعدت روحها إلى بارئها في السادس من مايو 2002م وسط دعوات الآلاف ممن كان لها فضل عليهم من مرضى، وتلاميذ، وأطباء، ومعوزين، وباحثين، ومثقفين- في خليط عجيب ينم عن حب بالغ للعمل الخيري.

أعمالها التطوعية

وأمام أعمالها التطوعية المتنوعة حرصت كثير من المؤسسات على تكريمها، فقد منحتها نقابة الأطباء المصريين لقب” أم الأطباء‏” بعد أن ‏اتسعت أمومتها فشملت مرضى روماتيزم القلب من الأطفال‏..‏ واتسعت رعايتها فوسعت المسنات، كما فردت جناحا على‏”الشابات المسلمات “، وهي ‏أول طبيبة عربية تمنحها كلية الأطباء الملكية بلندن درجة الزمالة‏، ‏و‏ الطبيبة الوحيدة التي نالت الدكتوراة الفخرية في العلوم الطبية من جامعة أدنبرة بإنجلترا على مستوي العالم كله‏1980. وأسست أول كلية طب متطورة بدولة الإمارات العربية‏(‏ كلية دبي الطبية للبنات‏)‏ عام‏1986‏ ووضعت مناهجها‏، ‏و منحتها مصر وسام الدولة الذهبي تقديرا لمكانتها العلمية‏,‏ قدمه لها الرئيس الراحل أنور السادات. وللراحلة ‏‏من الأبحاث العلمية ما يربو على المئة والعشرين بحثا في المجلات العلمية بمصر والعالم‏. و‏منحتها الدولة الجائزة التقديرية سنة‏1996‏ في العلوم الطبية التطبيقية‏,‏ فتبرعت بقيمتها المادية لأوائل الخريجين في طب الأطفال والدراسات العليا‏. وفي المكتبة العربية مجلد ضخم باسم‏(‏ الدر المنثور في طبقات ربات الخدور‏)‏ يضم‏549‏ اسما‏,‏ ولكن ما كتب عن كل منهن من باب التعريف أو الطرائف، ولكن الدكتورة زهيرة عابدين من الدر المكنون العالي الذي دخل التاريخ العلمي الإنساني الذي تعتز به القيم‏.‏

120 بحثا علميا

ولدت زهيرة حسين عابدين سنة (1336هـ= 1917م) في أسرة أرستقراطية محافظة، فقد كان أبوها عضوا في مجلس الشيوخ (البرلمان)، وغرس فيها منذ نعومة أظافرها حب الإسلام والتدين، فكانت تواظب على صلاة الفجر وهي في الخامسة من عمرها، كما حفظت القرآن الكريم، و حصلت على الثانوية عام (1355هـ= 1936م)، وكانت الأولى على مستوى القطر المصري، والتحقت بكلية الطب، وكانت الفتاة الوحيدة المحجبة بالجامعة، وتخرجت في كلية الطب، وكانت أول طبيبة يسمح بتعيينها في هيئة التدريس بالجامعات المصرية بعد عودتها من إنجلترا سنة (1369هـ= 1949م) بعد نجاحها في اجتياز امتحان الزمالة بالجمعية الطبية بإنجلترا، وهي أول طبيبة عربية تحصل على هذه الشهادة، و تخصصت في طب الأطفال والروماتيزم، وقدمت أبحاثا علمية، بلغت 120 بحثا نشرت في مجلات علمية متخصصة عالمية، وكانت الطبيبة الوحيدة عالميا التي حصلت على الدكتوراة الفخرية من جامعة أدنبرة عام (1401هـ= 1980م)، كما كانت الطبيبة العربية الوحيدة التي حصلت على جائزة إليزابيث نورجل العالمية عام (1413هـ= 1992م). وأسست أول كلية لطب البنات في الإمارات عام (1407هـ= 1986م)، ووضعت مناهجها، وعكفت على إدارتها زهاء 7 أعوام، وساهمت في إنشاء جمعية الشابات المسلمات بالقاهرة، وتولت رئاستها، وأقامت وقفا لتعليم مسلمي البوسنة، وأسست دارا لرعاية الطلبة المعوزين والمتفوقين عام (1382هـ=1962م). وعرف عنها أنها ربة بيت من الطراز الأول، وأنجبت أربعة أبناء، ثلاث بنات وولدا حصلوا جميعا على شهادة الدكتوراة، منهم عالمة السياسة الدكتورة منى أبو الفضل.

العمل التطوعي لم يهزم

ولم يفتت المرض – رغم شراسته – من عزم الراحلة نحو مواصلة العمل التطوعي؛ فرغم تغيبها في إنجلترا وأمريكا للعلاج، وملازمتها للفراش ملازمة كاملة، إلا أنها كانت تستثمر أوقات نقاهتها القصيرة في معاودة النشاط، ويشاء الله عز وجل أن تصعد روحها إلى بارئها في السادس من مايو 2002م وسط دعوات الآلاف ممن كان لها فضل عليهم من مرضى، وتلاميذ، وأطباء، ومعوزين، وباحثين، ومثقفين، رحم الله زهيرة عابدين فقد كانت امرأة تسابق إلى الخيرات فأحبها الناس.

المصدر: http://www.medadcenter.com/Articles/show.aspx?Id=43