أسس وتطبيقات العمل الخيري عند أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه 2/2 – الهيثم زعفان

أسس وتطبيقات العمل الخيري عند أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه 2/2

الكاتب : الهيثم زعفان

يستكمل هذا المقال أسس وتطبيقات العمل الخيري في حياة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، حيث يقدم بعض السياسات العامة التي انتهجها في إشباع الاحتياجات الاجتماعية للمسلمين وأيضاً يقدم مجموعة من الحالات الخيرية الفردية والتي تعامل فيها أمير المؤمنين بصورة مباشرة مع ذوي الحاجات .

قضاء ديون الغارمين

اهتم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بقضاء الدين عن المدينين رحمة بهم ومحققاً لمعني التكافل الاجتماعي، وتلبية لنداء الشريعة الإسلامية في عون الغارمين وعظم الجزاء الأخروي الطيب، وهذا ما كان يسعى إليه أمير المؤمنين

فقد كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عماله: “أن اقضوا عن الغارمين” فكتبوا إليه: “إنا نجد الرجل له المسكن والخادم، وله الفرس، وله الأثاث في بيته”، فكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: “لابد للرجل من المسلمين من مسكن يأوي رأسه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، وأثاث في بيته، ومع ذلك فهو غارم، فاقضوا عنه ما عليه من الدين” وهنا تظهر رحمة أمير المؤمنين، فلم يثنيه وجود ما قد يباع ويسد الدين عن توليه قضاء الدين من بيت مال المسلمين، لأن ما سيباع هو من احتياجات الغارم والذي قد يفسد حاله إذا فقدها.

دفع المهور من بيت المال

كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يفطن يقينياً لأهمية الزواج في حياة الأمة الإسلامية وانعكاساته البشرية والاقتصادية والنفسية على الفرد والمجتمع

لذا فقد اهتمّ بأداء مهور الزواج من بيت المال لمن لم يستطع توفير ذلك، يقول أبو العلاء: قُرِئَ كتاب عمر بن عبد العزيز رحمه الله في مسجد الكوفة وأنا أسمع: “من كانت عليه أمانة لا يقدر على أدائها فأعطوه من مال الله، ومن تزوج امرأة لا يقدر أن يسوق إليها صداقها فأعطوه من مال الله”.

وهذا يوضح بجلاء كيف يمكن أن يلعب الحاكم دوراً كبيراً في القضاء على ظاهرة العنوسة بين شباب المسلمين، ليتحقق الاستقرار النفسي والاجتماعي، وتخف حدة الانحرافات داخل المجتمع وغير ذلك من الآثار السلبية المصاحبة للعنوسة وكذا الانعكاسات الايجابية التي يمكن تحصيلها إذا تمت معالجة تلك الظاهرة.

رعاية طلبة العلم الشرعي

اهتم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه برعاية طلاب العلم الشرعي وكفالتهم فعن يعقوب بن سفيان قال: قلت ليزيد بن عبد ربه: حدثكم بقية، عن ابن أبي مريم، قال: كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى والي حمص ” انظر إلى القوم الذين نصبوا أنفسهم للفقه، وحبسوها في المسجد عن طلب الدنيا، فأعط كل رجل منهم مائة دينار يستعينون بها على ما هم عليه من بيت مال المسلمين، حين يأتيك كتابي هذا، وإن خير الخير أعجله، والسلام عليكم”.

وهكذا يتحقق الاستقرار النفسي والمادي لطالب العلم، فيستطيع بذلك أن يتفرغ كلية لطلب العلم دون أن يحمل هم المعيشة ومؤنتها، ومن ثم يطلق كافة طاقاته الفكرية في التحصيل والإبداع، مما يعود في النهاية على نفسه وعلى الأمة الإسلامية بالنفع والرفعة وعلو الشأن، وهذه فطنة عالية وبعد نظر ثاقب من أمير المؤمنين.

في الإنفاق على الذمي إذا كبر ولم يكن له مال:

اهتم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه برعاية كل نفس ضعيفة لا تقدر على كفالة نفسها وتعيش على أرض الإسلام من الذميين، فقد روى ابن سعد: قال عمر بن بهرام الصرّاف: قُرئ كتاب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه علينا:

“بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عدي بن أرطأة ومن قبله من المسلمين والمؤمنين سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فانظر أهل الذمة فأرفق بهم، وإذا كبر الرجل منهم وليس له مال فأنفق عليه، فإن كان له حميم فمر حميمه ينفق عليه” .

وهكذا تتجلى رحمة ورأفة أمير المؤمنين والتي قد يجعلها الله سبب في إسلام الذمي المكفول من المسلمين.

الرفق بالحيوان

رحم الله عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فكما كان رحيماً بالنفس الإنسانية كان رفيقاً بالحيوان وذلك من قبل أن يعرف العالم جمعيات الرفق بالحيوان أوحقوق الحيوان في عالم مادي لا يعرف حتى معنى حقوق الإنسان.

فعن يحي بن عبد الملك بن أبي غنية، عن أبي عثمان الثقفي قال كان لعمر بن عبد العزيز غلام على بغل له يأتيه بدرهم كل يوم، فجاءه يوماً بدرهم ونصف قال ما بدا لك، قال : نفقت السوق قال: لا، ولكنك أتعبت البغل، أجمه ثلاثة أيام.

وعن زياد بن مخراق قال سمعت عمر بن عبد العزيز وهو يخطب الناس يقول: “لولا سُنّة أحييها، أو بدعة أميتها، لما باليت أن لا أعيش فواقاً”.

مواقف فردية لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مع أصحاب الحاجات

لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مواقف بذلية فردية كثيرة طرق فيها أصحاب الحاجات باب أمير المؤمنين مباشرة، دون واسطة أو انتظار تصريح حاجب، وقد تجلت في تلك المواقف رحمة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وعظمته، ومن تلك المواقف:

صاحب الفاقة يطلب حاجته أثناء تشييع أمير المؤمنين لجنازة

عن عامر بن عبيده قال: أول ما أُنكر من عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه خرج في جنازة، فأُتي ببُرد كان يلقى للخلفاء كي يقعدون عليه إذا خرجوا إلى جنازة، فألقى إليه فضربه برجله ثم قعد على الأرض، فقالوا ما هذا؟، فجاء رجل فقام بين يديه فقال يا أمير المؤمنين، اشتدت بي الحاجة وانتهت بي الفاقة والله يسألك عن مقامي هذا بين يديك – وفي يد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قضيب قد اتكأ عليه – فقال: أعد ما قلت فأعاد عليه فقال يا أمير المؤمنين اشتدت بي الحاجة وانتهت بي الفاقة والله سائلك عن مقامي هذا بين يديك، فبكى حتى جرت دموعه على القضيب ثم قال له: ما عيالك؟ قال خمسة أنا وامرأتي وثلاثة أولاد، قال: فإنا نفرض لك ولعيالك عشرة دنانير ونأمر لك بخمس مائة، مائتين من مالي وثلاث مائة من مال الله، تبلغ بها حتى يخرج عطاؤك.

أبو البنات يبكي أمير المؤمنين

عن موسي بن المغير قال سمعت رياح بن عبيد الباهلي قال: كنت عند عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فجاء أعرابي فقال: يا أمير المؤمنين جاءت بي إليك الحاجة وانتهت بي الفاقة – أو قال الغاية – والله سائلك عني يوم القيامة فقال ويحك أعد علي فأعاد عليه فنكس عمر رأسه وأرسل دموعه حتى ابتلت الأرض، ثم رفع رأسه وقال: ويحك كم أنتم؟ قال أنا وثمان بنات ففرض له على ثلاثمائة وفرض للبنات – أو قال لبناته – على مائة وأعطاه مائة درهم وقال هذه المائة أعطيتك من مالي، ليس من مال المسلمين، اذهب فاستنفقها حتى تخرج أعطيات المسلمين فتأخذ معهم.

فرتونة السوداء والحائط القصير

كان بريد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إذا خرج لا يرد أي كتاب يحمله إياه أحد من الناس، وهذا كان عرفاً سائداً في عهده، وذات مرة خرج بريد من مصر فدفعت إليه امرأة مصرية تسمي “فرتونة السوداء” كانت مولاة شخص يدعى “ذي أصبح” كتاباً تذكر فيه أن لها حائطاً قصيراً، وأنه يقتحم عليها فيسرق دجاجها، فكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: “بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله أمير المؤمنين إلى فرتونة السوداء مولاة ذي أصبح، بلغني كتابك وما ذكرتي من قصر حائطك وأنه يدخل عليك فيسرق دجاجك، فقد كتبت كتاباً إلى أيوب بن شرحبيل ـ وكان أيوب عامله على مصر ـ آمره بأن يبني لك ذلك، يحصنه لك مما تخافين إن شاء الله”، وكتب رضي الله عنه إلى أيوب بن شرحبيل: “من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى ابن شرحبيل، أما بعد: فإن فرتونة مولاة ذي أصبح كتبت تذكر قصر حائطها، وأنه يسرق منه دجاجها وتسأل تحصينه لها، فإذا جاءك كتابي هذا فاركب أنت بنفسك إليه حتى تحصنه لها”، فلما جاء الكتاب إلى أيوب ركب ببدنه حتى أتى الجيزة يسأل عن فرتونة حتى وقع عليها، وإذا هي سوداء مسكينة، فأعلمها بما كتب به أمير المؤمنين وحصنه لها”.

المرأة العراقية تتطلب حاجتها في بيت أمير المؤمنين

ذكر ابن الجوزي رحمه الله قصة المرأة العراقية التي قدمت لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فلما صارت إلى بابه قالت: هل على أمير المؤمنين حاجب؟ فقالوا: لا.. إدخلي إن أحببت، فدخلت المرأة على فاطمة زوج عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهي جالسة في بيتها، وفي يدها قطن تعالجه، فسلمت فردت عليها السلام وقالت لها: أدخلي، فلما جلست المرأة رفعت بصرها ولم تر شيئاً له بال، فقالت: إنما جئت لأعمر بيتي من هذا البيت الخرب، فقالت لها فاطمة: إنما خرب هذا البيت عمارة بيوت أمثالك، فأقبل عمر حتى دخل الدار، فمال إلى بئر في ناحية الدار فانتزع منها دلاء فصبها على طين كان بحضرة البيت ـ وهو يكثر النظر إلى فاطمة زوجته ـ فقالت لها المرأة: استتري من هذا الطيّان فإني أراه يديم النظر إليك، فقالت: ليس هو بطيان، إنما هو زوجي أمير المؤمنين.

ثم أقبل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فسلم ودخل بيته، فمال إلى مصلى كان له في البيت يصلي فيه، فسأل فاطمة عن المرأة، فقالت: هي هذه، فأخذ مكتلاً له فيه شيء من عنب فجعل يتخير لها خيره يناولها إياه ثم اقبل عليها وقال: ما حاجتك؟ فقالت: امرأة من أهل العراق لي خمس بنات كُسْلٌ كٌسْد، فجئتك أبتغي حسن نظرك لهنَّ، فجعل يقول: كسل كسد، ويبكي، فأخذ الدواة والقرطاس فكتب إلى والي العراق، فقال: سمي كبراهنّ، فسمتها ففرض لها، فقالت المرأة: الحمد لله، ثم سأل عن الثانية والثالثة والرابعة، والمرأة تحمد الله ففرض لها، فلما فرض للأربعة استفزها الفرح فدعت له فجزته خيراً، فرفع يده وقال: كنا نفرض لهنّ حيث كنت تولين الحمد أهله، فمري هؤلاء الأربع يفضنّ على هذه الخامسة. فخرجت بالكتاب حتى أتت به العراق، فدفعته إلى والي العراق، فلما ذهبت إليه بالكتاب بكى واشتد بكاؤه، وقال: رحم الله صاحب هذا الكتاب، فقالت: أمات؟ قال: نعم، فصاحت وولولت، فقال: لا بأس عليك، ما كنت لأرد كتابه في شيء، فقضى حاجتها وفرض لبناتها.

فيض العطاء في نهاية عهد الرخاء

صوحبت سياسة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بالبركة الربانية ففاض العطاء في عهده وعم الرخاء بالأمة الإسلامية لدرجة رجوع الغني بماله لاستغناء الفقراء بعطاء الله الذي أجراه على يد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فعن ابن زيد عن عمر بن أسيد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال: “إنما ولي عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفاً- ثلاثين شهراً- لا والله ما مات عمر بن عبد العزيز حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: اعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس”..

رحم الله أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه..

المصدر: http://www.medadcenter.com/Articles/show.aspx?Id=23