عندما يكون العالم منفقاً….. الليث بن سعد نموذجاً – الهيثم زعفان

عندما يكون العالم منفقاً….. الليث بن سعد نموذجاً

الكاتب : الهيثم زعفان

الإمام “الليث بن سعد” عليه رحمة الله، عالم جليل ضرب أروع الأمثلة في البذل والعطاء والانفاق، فكان نعم العالم العابد العامل وذلك بشهادة كبار الأئمة مثل الشافعي وبن حنبل رحمهما الله.

وهذا المقال بما يحويه من نماذج ومواقف بذلية لهذا العالم الامام، قد يكون بمثابة رسالة الى كافة المربين والمصلحين والدعاة الى الله، لانتهاج مثل هذا المنهج التربوي العملي البذلي في الدعوة الى الله، وذلك حتى تؤتي الدعوة ثمرتها بإذن الله.

الانفاق في سبيل الله نعمة تعبدية يهبها الله لمن يشاء من عباده، ومن يذوق لذتها يسأل الله ألا يحرمه منها، والانفاق رياضة بحاجة الى تعويد النفس عليها حتى تتمكن منها. والتربية علي البذل والانفاق أمر بالغ الصعوبة لأنه لا يتأتي إلا إذا كان المربي باذلاً في الأساس، فهي تربية عملية غير مختزلة في أقوال أونصائح عابرة. من هنا انتهج بعض العلماء منهج التربية بالقدوة، وكانت نعم التربية فهي تنطلق من قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ& كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) الصف الآيات 2-3.

ومن هؤلاء العلماء الافذاذ الإمام “الليث بن سعد” عليه رحمة الله، والذي ضرب أروع الأمثلة في البذل والعطاء والانفاق، فكان نعم العالم العابد العامل وذلك بشهادة كبار الأئمة مثل الشافعي وبن حنبل رحمهما الله.

وهذه المقالة المختصرة ستحاول تقديم بعض الصور من خيرية وبذل هذا العالم المربي، لتكون نبراساً لطلبة العلم قد يعينهم على الاقتداء به في تشكيل وتنمية النفس الانفاقية البذلية لديهم، فيصير الانفاق والبذل سمت عملي يعرفهم به طلابهم في المستقبل، فيكون لدعوتهم وتعليمهم المصداقية والانتشار والاقتداء.

من هو الليث بن سعد؟

إنه الإمام الليث بن سعد ابن عبد الرحمن الإمام الحافظ شيخ الإسلام وعالم الديار المصرية، ولد بقرقشندة وهي قرية في جنوب مصر وذلك في سنة أربع وتسعين للهجرة.

وهو من أشهر الفقهاء في زمانه، وقد فاق في علمه وفقهه إمام المدينة الإمام مالك غير أن تلامذته لم يقوموا بتدوين علمه وفقهه ونشره في الآفاق مثلما فعل تلامذة الإمام مالك، وكان الإمام الشافعي يقول: الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به. وقال عنه ابن سعد: استقل الليث بالفتوى وكان ثقة كثير الحديث سرياً من الرجال سخياً له ضيافة.

يقول الذهبي رحمه الله : كان الليث بن سعد رحمه الله فقيه مصر ومحدثها ومحتشمها ورئيسها ومن يفتخر بوجوده الإقليم، بحيث إن متولي مصر وقاضيها وناظرها من تحت أوامره، ويرجعون إلى رأيه ومشورته، ولقد أراده المنصور على أن ينوب له على الإقليم فاستعفى من ذلك.

صور من حياته البذلية

توضح كتب التراجم أن الإمام الفقيه الليث بن سعد كان غنيًّاً، وكان رحمه الله ينفق كل سنة على الفقراء والمساكين أكثر من خمسين ألف دينار، ولا يدخر منها شيئًا لنفسه، ويتصدق في كل يوم على ثلاثمائة مسكين.

يقول محمد بن رمح: كان دخل الليث بن سعد في كل سنة ثمانين ألف دينار وما وجب الله تعالى عليه زكاة قط.

ويقول سليم بن منصور: سمعت أبي يقول: كان الليث بن سعد يستغل في كل سنة خمسين ألف دينار فيحول عليه الحول وعليه دين.

يروي الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن احمد بن عياض المفرض قوله حدثنا إسماعيل بن عمرو الغافقي سمعت أشهب بن عبد العزيز يقول: كان الليث بن سعد له كل يوم أربعة مجالس يجلس فيها، أما أولها فيجلس لنائبه السلطان في نوائبه وحوائجه وكان الليث يغشاه السلطان فإذا انكر من القاضي أمراً أو من السلطان كتب إلى أمير المؤمنين فيأتيه العزل، ويجلس لأصحاب الحديث وكان يقول نجحوا أصحاب الحوانيت فإن قلوبهم معلقة بأسواقهم، ويجلس للمسائل يغشاه الناس فيسألونه، ويجلس لحوائج الناس لا يسأله أحد فيرده كبرت حاجته أو صغرت، وكان يطعم الناس في الشتاء الهرائس بعسل النحل وسمن البقر، وفي الصيف سويق اللوز في السكر.

يقول عبد الله بن صالح: صحبت الليث عشرين سنة لا يتغدى ولا يتعشى إلا مع الناس وكان لا يأكل إلا بلحم إلا أن يمرض.

وقال صالح بن أحمد الهمذاني: قدم منصور بن عمار على الليث فوصله بألف دينار واحترقت دار ابن لهيعة فوصله بألف دينار ووصل مالكاً بألف دينار وكساني قميص سندس فهو عندي.

وعن عبد الملك بن يحيى بن بكير قال: سمعت أبي يقول: وصل الليث بن سعد ثلاثة أنفس بثلاثة آلاف دينار: احترقت دار ابن لهيعة فبعث إليه بألف دينار، وحج فأهدى إليه مالك بن أنس رطباً على طبق فرد إليه على الطبق ألف دينار، ووصل منصور بن عمار بألف دينار، وقال: لا يسمع بهذا ابني فتهون عليه، فبلغ ذلك شعيب بن الليث فوصله بألف دينار إلا ديناراً، وقال: إنما نقصتك هذا الدينار لئلا أساوي الشيخ في العطية.

وفي ذات يوم جاءت امرأة إلى الليث بن سعد وقالت له: يا شيخنا، إن لي ابنًا مريضًا يشتهي أكل العسل، فقال الليث: يا غلام، أعطها مرطًا من عسل (والمرط: مائة وعشرون رطلاً) وكان مع المرأة إناءً صغير الحجم، فلما رآه الغلام قال: يا شيخنا إنها تطلب قليلاً من العسل، فقال الليث: إنها طلبت على قَدْرِهَا ونحن نعطيها على قدرنا، وأمره أن يعطيها المرط.

قصته مع الامام مالك

لما ذهب الليث بن سعد إلى المدينة المنورة أثناء الحج، بعث إليه الإمام مالك بن أنس بطبق من الرطب، فلم يشأ الليث أن يرد الطبق إلى الإمام مالك خاويًا، فوضع في الطبق ألف دينار ورده إليه.

يقول أبو صالح: كنا على باب مالك بن أنس فامتنع علينا. فقلنا: ليس يشبه صاحبنا قال: فسمع مالك كلامنا فأدخلنا عليه فقال لنا: من صاحبكم؟ قلنا: الليث بن سعد. فقال: تشبهوني برجل كتبنا إليه في قليل عصفر نصبغ به ثياب صبياننا وثياب جيراننا، فأنفذ إلينا ما صبغنا به ثيابنا وثياب صبياننا وثياب جيراننا وبعنا الفضلة بألف دينار؟

وروي عن حرملة يقول كان الليث بن سعد يصل مالكاً بمائة دينار في السنة فكتب مالك إليه على دين فبعث إليه بخمس مائة دينار، يقول حرملة فسمعت ابن وهب يقول كتب مالك إلى الليث إني أريد أن أدخل بنتي على زوجها فأحب أن تبعث لي بشيء من عصفر فبعث إليه بثلاثين حملاً عصفراً فباع منه وبقي عنده فضله. وهكذا يكون حال العلماء الربانيون مع بعضهم.

قصته مع الواعظ منصور بن عمار

عن محمد بن موسى الصائغ قال: سمعت منصور بن عمار يقول: تكلمت في جامع مصر يوماً فإذا رجلان قد وقفا على الحلقة فقالا: أجب الليث. فدخلت عليه فقال: أنت المتكلم في المسجد؟ قلت: نعم: قال رد علي الكلام الذي تكلمت به. فأخذت في ذلك المجلس بعينه. فرق وبكى حتى رحمته. ثم قال: ما اسمك؟ قلت: منصور، قال: ابن من؟ قلت: ابن عمار. قال: أنت أبو السري؟ قلت: نعم. قال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى رأيتك. ثم قال: يا جارية. فجاءت فوقفت بين يديه فقال لها: جيئي بكيس كذا وكذا فجاءت بكيس فيه ألف دينار فقال: يا أبا السري خذ هذا إليك وصن هذا الكلام أن تقف به على أبواب السلاطين، ولا تمدحن أحداً من المخلوقين بعد مدحتك لرب العالمين، ولك علي في كل سنة مثلها. فقلت: رحمك الله إن الله قد أحسن إلي وأنعم. قال: لا ترد علي شيئاً أصلك به، فقبضتها وخرجت. قال: لا تبطئ علي، فلما كان في الجمعة الثانية أتيته فقال لي: اذكر شيئاً فتكلمت، فبكا وكثر بكاؤه فلما أردت أن أقوم قال: انظر ما في ثني هذه الوسادة وإذا خمسمائة دينار. فقلت: عهدي بصلتك بالأمس. قال: لا تردن علي شيئاً أصلك به. متى رأيتك؟ قلت: الجمعة الداخلة. قال: كأنك فتت عضواً من أعضائي. فلما كانت الجمعة الداخلة أتيته مودعاً فقال لي: خذ في شيء أذكرك به، فتكلمت، فبكا وكثر بكاؤه. ثم قال لي: يا منصور انظر ما في ثني الوسادة، إذا ثلاثمائة دينار قد أعدها للحج. ثم قال: يا جارية هاتي ثياب إحرام منصور، فجاءت بإزار فيه أربعون ثوباً. قلت: رحمك الله أكتفي بثوبين. فقال لي: أنت رجل كريم ويصحبك قوم فأعطهم. وقال للجارية التي تحمل الثياب معه: وهذه الجارية لك وكانت تساوى ثلاثمائة دينار.

درس بذلي في إدارة الأعمال

عن الحارث بن مسكين قال اشترى قوم من الليث ثمرة فاستغلوها فاستقالوا فأقالهم، ثم دعا بخريطة فيها أكياس فأمر لهم بخمسين ديناراً فقال له ابنه الحارث في ذلك فقال اللهم غفراً إنهم قد كانوا أملوا فيها أملاً فأحببت أن أعوضهم من أملهم بهذا.

إن هذا الموقف الاداري لا يخرج الا من نفس نورانية بذلية ألفت العطاء التعبدي وذاقت حلاوته وفهمت حكمته وتأثيره في النفوس، وبذلت على الرغم من انتهاء العلاقة المهنية التجارية، لكنها أخلاق الإسلام، فأين هذا الآن .

رحم الله الامام الفقيه ولعل هذا المقال يكون رسالة الى كافة المربين والمصلحين والدعاة الى الله، لانتهاج مثل هذا المنهج التربوي العملي البذلي في الدعوة الى الله، وذلك حتى تؤتي الدعوة ثمرتها بإذن الله.

المصدر: http://www.medadcenter.com/Articles/show.aspx?Id=19