الصدقة الخفية بين العمل الخيري الفردي والمؤسسي – الهيثم زعفان

الصدقة الخفية بين العمل الخيري الفردي والمؤسسي

الكاتب : الهيثم زعفان

 

خيط رفيع يمر بين الخفاء والعلن في التصدق، والعلاقة فيه بين المؤسسية والفردانية معقدة ومتداخلة ومتشابكة، فمن ناحية فإن العمل المؤسسي في بعض جوانبه، قد لا يتحقق معه شرط الخفاء، وفي ذات الوقت فإن الفردية في العمل تحقق هذا الشرط بصورة شبه مثالية، لكن تبقي المؤسسة بميزاتها أحيانا في الوصول للنقاط التي لا يستطيع العمل الفردي الوصول إليها، أو القيام بالتحرك الميداني الذي لا يقدر العمل الفردي على تحقيقه لعجر أو شغل أو ضعف. إنها إشكالية معقدة سيحاول هذا المقال التعاطي مع بعض جوانبها.

 

تعد الصدقة الخفية رافداً عقدياً رئيساً من روافد تمويل العمل الخيري الإسلامي، فهي عطاء يقوم به العبد في خفية عن غيره، فلا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ومن ثم فإن محاولات قياس حجمها وتأثيرها في العمل الخيري أمر فيه كثير من الصعاب إن لم يكن مستحيلاً.

 

ومن هنا حدث كثير من اللبس عند من لا يدينون دين الإسلام في شأن العمل الخيري الإسلامي، ومرد ذلك هو عدم الاستيعاب اليقيني لتلك العبادة التقربية. 

 

فكما أن شطراً من الإنفاق في سبيل الله يكون بالعلانية وهو الأمر الذي يمكن قياسه ومعرفة حجمه، ومن ثم تطبيق مبدشأ الشفافية عليه لأن معظمه يدخل للمؤسسات الخيرية ويخضع لنظام محاسبي دقيق، واضح فيه المدخلات والمخرجات ومن ثم العمليات، إلا أنه في ذات الوقت هناك شطراً آخر من الإنفاق يكون سراً، وجزء كبير منه قد يقوم به العبد المسلم بنفسه دون وجود واسطة بينه وبين الفقير المحتاج، لتتحقق بذلك معادلات كثيرة عقدية واجتماعية ونفسية سنتعرض لأمثلة لها بعد قليل؛ أما الجزء الصغير الباقي فقد يرد إلى المؤسسات الخيرية بوضع المتصدق لصدقته في حساب المؤسسة الخيرية، أو أحد صناديق جمع التبرعات، أو في حملات جمع التبرعات، دون أن يكشف المتصدق عن هويته وذلك حتى يتوافر في عطائه شرط الصدقة الخفية وهو الخفاء.  

 وقد استحدثت بعض الجمعيات الخيرية نظماً في جمع التبرعات تنطلق “مذهبيا”ً من هذا المنطلق العقدي الخفي، كما فعلت إحدى الجمعيات السعوديات في مشروعها الذي عرف بـ “مشروع الصدقة الخفية” وهو عبارة عن تحويل الصدقات بواسطة الصراف الآلي من حساب المتبرع إلى حساب الجمعية بضغطة زر واحدة، دون الكشف عن هوية المتبرع.

 

إذن فنحن أمام تمويل لا يستهان بحجمه موجه لنشاطات وفعاليات العمل الخيري الإسلامي، وإشباع حاجات مستهدفي هذا العمل، بطريقة يصعب حصرها وذلك لأن هناك نسبة كبيرة من هذا التمويل يمكن تصنيفها بأنها تحت بند الأعمال الخيرية الفردية الخفية التعبدية وليس المؤسسية الخاضعة لنظام مؤسسي تنظيمي.  

 

 وهذا منحي لا يمكن إغفاله من قبل المتخصصين والمهتمين بالعمل الخيري الإسلامي سواء على مستوى التنظير أو الممارسة العملية؛ وكذا استيعاب العالم الخارجي لتلك السياسة الانفاقية للعبد المسلم، وأنه بمحاربتهم لتلك السياسة فإنما يحاربون شعيرة تعبدية عقدية.

فالصدقة السرية أو الخفية هي عبادة تقربية إلى الله تعالى، وهي أمر مرغب فيه كثيراً في الشريعة الإسلامية، والجوائز الربانية التي تنتظر فاعلها، كفيلة بأن تجعل قطاعاً عريضاً من المسلمين يسعون إلى التنافس الخفي باستخدام تلك العبادة التقربية، وذلك من أجل الظفر بتلك الجوائز، والتي أعظمها جميعاً جائزة مرضاة الله سبحانه وتعالى على العبد. 

 

 والمتأمل في القرآن الكريم يجد أن هناك آيات كثيرة تحث على الإنفاق في السر ،وتبيان عظم فضل هذا الإسرار وتلك الخفية، بل نجد العلماء قد أوضحوا أن الأصل في إنفاق الصدقات هو الخفية، انطلاقاً من الدعوة القرآنية للترغيب في هذا الخفاء، ومن هذه الآيات:

“الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ” البقرة الآية 274.

“وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ” الرعد الآية 22.

” قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ” إبراهيم الآية 31.

“ضَرَبَ الله مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ” النحل الاية75.

” إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ الله وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ” فاطر الآية 29.

“إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ” البقرة 271. 

 

والمتأمل للآيات السابقة في مجملها يجد أن كلمة “سراً” قد جاءت مقدمة على العلانية، لتوضح الآية الأخيرة بجلاء تام أن الخفاء في الإنفاق أفضل من العلانية. يقول بن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: وَقَوْله ” وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْر لَكُمْ ” فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها، لأنه أبعد عن الرياء إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به فيكون أفضل من هذه الحيثية، والأصل أن الإسرار أفضل لهذه الآية لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سَبْعَة يُظِلُّهُمْ الله فِي ظِلِّهِ يَوْم لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ، ومنهم: وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَم شِمَاله مَا تُنْفِق يَمِينه“.

 

وللمثال على ظهور “المصلحة الراجحة” والتي أشار إليها بن كثير رحمه الله والتي علق عليها أفضلية إعلان الصدقة، يقول ابن القيم عليه رحمة الله: “رجل مضرور سأل قوماً ما هو محتاج إليه، فعلم رجلٌ منهم أنه إن أعطاه سراً -حيث لا يراه أحد- لن يقتدي به أحد، ولم يحصل له سوى تلك العطية، وأنه إن أعطاه جهراً، اقتدي به واتبع، وأنف الحاضرون من تفرده عنهم بالعطية، فجهر له بالعطاء وكان الباعث له على الجهر إرادة سعة العطاء عليه من الحاضرين، فهذه مراءاة محمودة، حيث لم يكن الباعث عليها قصد التعظيم والثناء، وصاحبها جدير بأن يحصل له مثل أجور أولئك المعطين”.

 

والصدقة الخفية تحقق كثيراً من المعادلات التي تظلل حياة العبد والتي منها:

1- أنها عبادة يتحقق معها الإشباع الروحي للعبد، فتسكن نفسه وتطمئن ويشعر معها بالسلامة النفسية، مما يجعله بعيداً عن القلق والتوتر وكافة الأمراض النفسية.

2- فيها قرب من الله تعالى، فيحظى العبد بمعية ربه في حركاته وسكناته، وما لها من معية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما تصدق أحد بصدقة من طيب – ولا يقبل الله إلا الطيب – إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كان تمرة، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فُلُوَّه أو فصيله ) رواه مسلم ..

3- فيها شعور مباشر من المتصدق بحال المتصدق عليه وواقعه، فيحمد ربه على ما فيه من النعيم، وعافيته من البلاء، وهذا الأمر يعمل على التكافل الاجتماعي مما يجعل لغة التراحم هي الأصل في التعامل داخل المجتمع الإسلامي، مما لا يجعل مجالاً للكبر والظلم والفساد وغير ذلك من الكبائر والأمراض الاجتماعية، كما أن في ذلك رؤية مباشرة للسرور الذي يدخله المتصدق الخفي على المحتاج، فيذوق المتصدق لذة السرور وحلاوته، فيحرص على تكراره، كما يجعله يعي عملياً عظم هذا السرور الأمر الذي جعله من أحب الأعمال إلى الله كما جاء في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( وإن أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مؤمن، تكشف عنه كرباً، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً )، رواه البيهقي، وحسنه الألباني.

4- فيها ضمان لوصول الصدقة كاملة ومباشرة للمحتاج الذي حدده المتصدق بنفسه وذلك في حال البذل المباشر وعدم وجود وسيط كجمعية مثلاً، فتطمئن نفسه لمصير صدقته فور وضعها في يد المحتاج.

 

قد يرد تعقيب بأن العمل المؤسسي وحال التبرعات في الجمعيات الخيرية قائم في معظمه على الصدقة الخفية، والحجة أن أساليب جمع التبرعات من حملات وصناديق جمع التبرع والحسابات البنكية، توفر شرط الصدقة الخفية، كما أن المنتفعين من خدمات المؤسسات الخيرية لا يعلمون في كثيرٍٍ من الأحيان هوية المتبرعين، وبالتالي يمكن اعتبار صدقتهم صدقة خفية.

 

نقول إن هذه الحجة صائبة في بعض جوانبها وليس في كل الجوانب، لأن ليس كل عطاء المتصدقين للجمعيات خفاء- بل الشواهد تدل على أن معظمه معلن- فإذا كان المنتفعين من المؤسسات يجهلون اسم المتصدق، فإن الاسم معلوم للمؤسسة أو بعض منسوبيها، وأحياناً يتم الإعلان عن صدقة المتصدق في وسائل الإعلام المختلفة، وهي بذلك تصير صدقة معلنة، أما الصدقة الخفية فقليل من يتصدق للجمعيات دون ذكر اسمه ووفق المنطلق العقدي الخفي، كما جاء في مثال الجمعية التي استحدثت مشروع الصدقة الخفية، ومثل هذا المتصدق الخفي نحسب أنه تحقق فيه شرط الصدقة الخفية بأن جهلت شماله ما أنفقت يمينه.

 

إنه خيط رفيع يمر بين الخفاء والعلن في التصدق، والعلاقة فيه بين المؤسسية والفردانية معقدة ومتداخلة ومتشابكة، فمن ناحية فإن العمل المؤسسي في بعض جوانبه، قد لا يتحقق معه شرط الخفاء، وفي ذات الوقت فإن الفردية في العمل تحقق هذا الشرط بصورة شبه مثالية، لكن تبقي المؤسسة بميزاتها أحيانا في الوصول للنقاط التي لا يستطيع العمل الفردي الوصول إليها، أو القيام بالتحرك الميداني الذي لا يقدر العمل الفردي على تحقيقه لعجر أو شغل أو ضعف.

 

هذا يعيدنا إلى النقطة البديهية وهي الوصول للمحتاج الفعلي، ولكن على شرط المتصدق الخفي، الذي لن يتعاطى مع المؤسساتية إلا إذا نجحت المؤسسة الخيرية في بناء جدار ثقة إنفاقي داخل المجتمع الذي تعمل في نطاقه، حينها نستطيع أن نطالب المؤسسة بتطوير سياساتها في جمع التبرعات من أجل الجذب الدائم لصدقات المتصدق الخفي، والذي سيحرص بلا شك على متابعة صدقته دون أن تشعر به المؤسسة. وهنا يمكن الاقتراح بأن كل مؤسسة خيرية نجحت في الوصول لهذه الدرجة من الثقة داخل المجتمع يمكنها أن تستحدث إدارة للصدقات الخفية، تمارس مهامها داخل المجتمع انطلاقاً من هذا البعد العقدي التعبدي، ويقوم عليها ثقات ممن يشهد لهم بالصلاح والتقوى داخل نطاق عمل المؤسسة وذلك لضمان ديمومة تعاطي المتصدق الخفي مع تلك المؤسسة، مع العمل على التنظير المختصين لآليات عمل تلك الإدارة حتى يمكن تعميمها في أكثر من بقعة من بقاع العالم الإسلامي.

 

بقيت نقطة أخيرة وهي أن المتصدق الخفي ” شخصية ذات منزلة رفيعة، وهو شخص هام -بالنسبة للعمل الخيري الإسلامي ومؤسساته- ينبغي أن يحظى بمعاملة خاصة ومتميزة”، كما أنه نموذج مبارك يسعى الإسلام إلى توسيع رقعته على البسيطة، مع الوضع في الحسبان أن الصدقة الخفية تتطلب همة إخلاصية عالية من العبد ولو كان فقيراً، هذه الهمة هبة من الله يرزق بها من يشاء من عباده، ثم يأتي بعد ذلك دور الوالدين في تكوين شخصية أبنائهم وفق شرط الصدقة الخفية، وكذا تربية العلماء والدعاة لأبناء الأمة الإسلامية على نفس شرط الخفاء، وفي كلٍ لن ينجح المربي في مهمته إلا إذا كان هو نفسه من هؤلاء الأشخاص الأخفياء ذوي المنزلة الرفيعة والحساسة.

المصدر: http://www.medadcenter.com/Articles/show.aspx?Id=16