هل تؤدي الأزمة الاقتصادية الراهنة الى تراجع الشركات عن مسؤوليتها الاجتماعية؟ – هاني الحوراني

هل تؤدي الأزمة الاقتصادية الراهنة الى تراجع الشركات عن مسؤوليتها الاجتماعية؟
القدس العربي- هاني الحوراني * 4/1/2009

أجبرت الأزمة الاقتصادية في الولايات المتحدة وأوروبا، وفي أرجاء أخرى من العالم، بما في ذلك بعض بلدان الخليج، العديد من الشركات على اتخاذ إجراءات قاسية، أبرزها تسريح أعداد كبيرة من العاملين لديها، وهو ما رفع معدلات البطالة في تلك البلدان. كما أقدمت مختلف الشركات على إجراءات تقشفية بغية الحد من الإنفاق، كجزء من السياسات الهادفة إلى تقليص آثار الركود الذي قد يستمر لعدة سنوات قادمة، قبل أن تعود اقتصاديات تلك الدول للانتعاش مجدداً. في هذه الظروف التي تتسم بالتراجع وعدم التأكد يصبح فيه من المشروع التساؤل عن مصير السياسات الاجتماعية للشركات، وما إذا كانت قادرة، أو بالأحرى راغبة، في مواصلة انتهاج سياسات ملتزمة اجتماعياً تجاه الجماعات المختلفة من المستفيدين (ونعني بهم العاملين والزبائن والمستهلكين والمجتمعات المحلية). وبكلمات أخرى فإن السؤال يصبح هل ان الشركات تظهر التزامها الاجتماعي فقط في أوقات الرخاء والبحبوحة، بينما يصبح مثل هذا الالتزام غير قائم في ظروف الركود وعدم اليقين؟! قد يبدو طرح مثل هذه التساؤلات في ظروف التراجع الاقتصادي بمثابة إحراج إضافي للقطاع الخاص، خاصة حين تجاهد الشركات للحفاظ على التزاماتها الأساسية تجاه المالكين والمساهمين، قبل أن تلتفت إلى الزبائن والممولين، والفئات الأخرى من المستفيدين أو أصحاب المصالح. ففي ظروف كهذه تصبح الأولوية حماية حقوق المالكين والمساهمين، والحفاظ على القيمة السوقية للأسهم من الانخفاض، واعتماد سياسات أكثر رشاداً، سواء على صعيد الإنفاق أو التوسع. ولذلك فإن التحدي قد يتمثل في تحسين نوعية إنتاج العاملين وحماية حصة الشركة في الأسواق المحلية والمالية، والحفاظ على المتعاملين أو الزبائن، بما يمكنها من الوفاء بحقوق المساهمين والمتعاقدين والممولين والعاملين. فهل ثمة ما يبقى لدى الشركات لكي تظهر التزاماً أكبر نحو جماعات أصحاب المصالح؟! من الطبيعي ان تثير مثل هذه الأسئلة، لأول وهلة، ردود فعل متحفظة لدى قادة القطاع الخاص ومجالس إدارات الشركات. فهؤلاء آخر من يحتاج الى إلقاء أعباء إضافية عليهم في ظروف كهذه. لكن مهلاً … من قال ان تذكير القطاع الخاص والشركات بمسؤولياتها الاجتماعية في هذه الظروف يجب ان يترجم نفسه على شكل أعباء مالية إضافية، أو حتى مساوية للأعباء التي كانت تتحملها أثناء ظروف الرخاء والنمو والانتعاش؟! دعونا قبل أن نذهب الى توضيح ماذا نعني بقولنا ان مواصلة الشركات لمسؤولياتها الاجتماعية في ظروف الركود أو التراجع الاقتصادي لا يعني بالضرورة تحملها أعباء إضافية او مساوية للأعباء الاجتماعية في الظروف العادية، نقول دعونا نوضح مسألة مبدأية تتعلق أولاً بالموقع المعنوي للقطاع الخاص، وبالاعتبارات التي يجب ان تكون خارج نطاق النقاش من حيث المبدأ. المسؤولية الاجتماعية فالمسؤولية الاجتماعية للشركات ليست، من حيث المبدأ، عملاً من أعمال الخير، التي يتوقف القيام بها كماً ونوعاً على رغبة المحسنين وقدرتهم المالية، وإنما هي ممارسة اجتماعية يجب ان تتسم بالاستدامة، ويجب ان تكون جزءاً عضوياً ودائماً من سياسات الشركات، حتى وإن سلمنا بأن قدرة الشركات على النهوض بهذه المسؤوليات تعتمد بطبيعة الحال على النتائج المالية لأعمال الشركات، لكن أوضاع الأخيرة لا تلغيها او تجعل منها ترفاً فائضاً عن الحاجة. ومن ناحية أخرى فإن الظروف التي تنشأ عن الأزمات الاقتصادية والمالية، مثل حالات الركود وعدم التأكد بقدر ما تفرض على مجالس إدارة الشركات تحديات كبيرة، فإنها تلحق ضغوطاً أشد على العاملين والزبائن والمجتمعات المحلية، مما يملي على الشركات مسؤولية أكبر في البحث عن حلول وتقديم المساعدة، لا الإسراع الى الهروب من التزاماتها الاجتماعية بدعوى تراجع الأرصدة التي يمكن توفيرها للمشاركة والمساندة الاجتماعية. وبعبارات أخرى فإن الانكفاء او الارتداد عن ممارسة الشركات لمسؤولياتها الاجتماعية سوف يلحق بها أذى معنوياً ومادياً، ويلحق الضرر بسمعتها أكثر بكثير مما ترجوه من مجرد الانكفاء والانسحاب من المجالات الاجتماعية التي كانت ترعاها أو تقدم لها المساندة. وبالعودة الى السؤال السابق فإن الشركات والمؤسسات الخاصة مدعوة لإظهار مسؤوليتها الاجتماعية بقوة أكبر في ظروف الضائقة الاقتصادية، دون أن يكون هذا بالضرورة عبئاً إضافياً عليها. بل على العكس، قد يكون فرصة ثمينة لإعادة تقييم سياساتها الاجتماعية السابقة وترشيدها وتعزيز جدواها وعائدها الاجتماعي. لكن السؤال هو: كيف يمكن تحقيق ذلك؟ إن أول مسؤوليات الشركات هو تعزيز التزامها بالحاكمية الرشيدة في إدارتها الداخلية وفي علاقاتها مع أصحاب المصالح، فقد كشفت الأزمة المالية التي عصفت بالشركات وبنوك الاستثمار الأمريكية والأوروبية ان عدم التزامها بالشفافية وتلاعبها بالقواعد المهنية للإفصاح وتضليلها للمساهمين والعملاء والهيئات الرقابية كان وراء تضخم حجوم أبعاد الانهيارات المالية. وثاني هذه المسؤوليات هو مراجعة مجالس الإدارة والمدراء التنفيذيين ما يقررونه لأنفسهم من رواتب ومكافآت ومزايا، تشكل احياناً كثيرة أعباء كبيرة على الشركات التي يديرونها. ومثل هذه المراجعة ملحة أكثر في ظروف الانكماش أو التراجع الاقتصادي. ويقابل ذلك ضرورة الحفاظ على الموظفين والعاملين الذين ساهموا في صنع نجاحات الشركات، بل وربما كانت ظروف الأزمات تشكل فرصة لإشراكهم بصورة أكبر في عملية صنع القرارات، وتشجيعهم على الإبداع واقتراح الحلول المبتكرة في هكذا ظروف. إن الظروف الراهنة ربما تشكل مناسبة لكي تبلور الشركات رؤيتها الخاصة بمسؤولياتها الاجتماعية، ولاعتماد سياسات واضحة ومستدامة في هذا المجال، حتى لا تبقى مساهماتها رهينة بمزاج أفراد في الإدارة العليا، أو تحت تأثير ضغوط الفئات المتنفذة. ان اعتماد الشركات سياسات اجتماعية تنسجم مع هويتها ورسالتها، وتتسم بالثبات والاستمرارية والوضوح، قد تشكل فرصة لها لإعادة تقييم ما تنفقه من تبرعات وهبات ومساعدات متناثرة، والوصول الى سياسات وبرامج أكثر رشاداً والتزاماً بمبادئ التنمية المستدامة وحاجات المجتمع الأساسية. وبعبارة أخرى فإن المؤسسة الخاصة التي تسعى إلى البقاء في ظل الأزمة الاقتصادية الراهنة، فإنها مدعوة لبناء وتعزيز العلاقة مع الزبائن والمستهلكين من خلال تحسين جودة المنتج أو الخدمة. كما مدعوة لجذب الكوادر الوظيفية الماهرة والإبقاء على الكوادر المؤهلة. وأن تقوم برسم سياسة فعالة لإدارة المخاطر ومواجهة الأزمات، وأن توظف كافة إمكانياتها لتثبيت سمعتها الجيدة في السوق. وعبر ذلك كله فإن الحفاظ على مبادئ المصداقية في التعاملات المالية والمادية، والالتزام بأسس المكاشفة والمساءلة هو الخيط الذي ينبغي أن يربط جميع علاقات وتعاملات الشركة مع أصحاب المصالح. وهو الأمر الذي لا يؤدي الى ضغوط إضافية على الإنفاق، بل على العكس، يعزز مكانة القطاع الخاص في أوقات الأزمات وغير الأزمات على حد سواء.