التنمية الاقتصادية وعلاقتها بالسياسة الشرعية – د. محمد عمر الحاجي

يشير الدكتور الحاجي إلى التعريفات المتعددة للتنمية الاقتصادية في الاقتصاد الوضعي ومنها: الجهد المبذول للارتفاع بالدخل الفردي الحقيقي ارتفاعاً تراكمياً عن طريق استخدام الموارد البشرية والطبيعية المتاحة استخداماً أكفأ وأشمل بغرض رفع الدخل القومي بمعدل أكبر من معدل تزايد السكان.

وأما في القرآن والسنة فلم ترد كلمة التنمية فيهما أبداً، وإنما ورد ما يدل على بعض وسائل التنمية، مثل: التمكين وهو اتخاذ قرار وموطن، أو السيطرة والقدرة على التحكّم، مصداق ذلك قوله تعالى: (وَلَقَدْ مَكّنّاكُمْ فِي الأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مّا تَشْكُرُونَ) سورة الأعراف (10).
ويبقى الموضوع الرئيسي للتنمية في المفهوم الإسلامي هو الإنسان ومقوّماته، ولذلك يرجح تعريف التنمية في الاقتصاد الإسلامي للدكتور شوقي دنيا على أنها عمل على تحقيق أقصى استغلال ممكن للموارد الطبيعية، وأقصى استفادة ممكنة من الموارد البشرية حتى تتوافر المنتجات ـ سلعية وخدمية ـ وتوزيعها على جميع الأفراد في المجتمع جزءاً من تلك المنتجات، يحكم نصيب كل فرد مبادئ العدالة الشرعية في التوزيع!
ولخّص عمر بن الخطاب رضي الله عنه نظرة الإسلام إلى التنمية من خلال العمل المنتج، بقوله: (والله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال، وجئنا بغير عمل، فهم أولى بمحمد صلى الله عليه وسلم منّا يوم القيامة).
وبالتالي، فالهدف الرئيسي للتنمية في الإسلام إحداث تطوّر حضاري شامل، وذلك من خلال تفاعل متوازن بين العوامل الاقتصادية والاجتماعية والعقائدية.
وأما السياسة الشرعية، فهي على حدّ تعبير الشيخ عبد الوهاب خلاف: (علم يُبحث فيه عما تُدبّر به شؤون الدولة الإسلامية من القوانين والنظم التي تتفق وأصول الإسلام، وإن لم يقم على تدبير دليلٍ خاص.
وموضوعه: النظم والقوانين التي تتطلبها شؤون الدولة، من حيث مطابقتها لأصول الدين، وتحقيقها مصالح الناس وحاجاتهم، وغايته: الوصول إلى تدبير شؤون الدولة الإسلامية بنظم دينها، والإبانة عن كفاية الإسلام بالسياسة العادلة، وتقبله رعاية مصالح الناس في مختلف العصور والبلدان، ويعّد من أبواب السياسة الشرعية أن يختار وليّ الأمر أحد الوجوه الجائزة في المسألة الواحدة حسبما يرى من الخيرة والمصلحة للأمة، عملاً بالقاعدة الفقهية: ( إن تصّرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة).
وبين الفقه والسياسة الشرعية تقاطعات كثيرة وكبيرة، ذلك لأن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، وهذه الأدلة هي الكتاب والسنّة والإجماع والقياس، وبالتالي تكون السياسة الشرعية في كثير من الأحيان جزءاً من الفقه، وتكون النسبة بين الفقه والسياسة الشرعية العموم والخصوص الوجهي، لكن تسمية هذا النوع من الأحكام باسم السياسة الشرعية، أمر اصطلاحي، روعي فيه المناسبة بين لفظ السياسة وهذا النوع من الأحكام، فإن معنى السياسة في اللغة:تدبير الشيء بما يصلحه، وهذا المعنى متحقق في هذا النوع من الأحكام، لأن معظم أحكام هذا النوع يحتاج إليه الحكام وولاة الأمور في تدبير شؤون الأمة على وجه يحقق المصلحة لها، وتحقيق المصلحة للأمة هو الركن الأساس الذي يقوم عليه هذا النوع من الأحكام.

التنمية الاقتصادية وعلاقتها
بالسياسة الشرعية :
من الأهداف التي يسعى الاقتصاد الإسلامي إلى تحقيقها تحسين معيشة الأفراد وتحقيق الرخاء الاقتصادي ـ أي الوصول إلى حدّ الكفاية كحدّ أدنى، إضافةً إلى استخدام المنجزات الاقتصادية من أجل نشر الأخلاق والمبادئ ـ وذلك من خلال استخدام ما سخّر الله لنا في هذا الكون من نعم، مصداق ذلك قوله تعالى: (وَالّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ٭ لِتَسْتَوُواْ عَلَىَ ظُهُورِهِ ثُمّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الّذِي سَخّرَ لَنَا هَـَذَا وَمَا كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ) سورة الزخرف (12-13).
ذلك لأن الهدف من التسخير هو إشباع حاجات الإنسان الاقتصادية ، وعندئذٍ يتحقق الهدف النهائي لعمارة البلاد، فيصدح كل فرد بذكر الله، معترفاً بفضله ونعمه التي لا تُعد ولا تحصى ورضي الله عن عليّ عندما قال: (يا عباد الله! إن المتقين حازوا على عاجل الخير وآجله، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم ولم يشاركوا أهل الدنيا آخرتهم، أباح لهم الله الدنيا ما كفاهم به وأغناهم، قال الله عز وجل: (قُلْ مَنْ حَرّمَ زِينَةَ اللّهِ الّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطّيّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ قُلْ هِي لِلّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصّلُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) سورة الأعراف (32).
سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت، وأكلوها بأفضل ما أكلت، وشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، فأكلوا معهم من طيبات ما يأكلون، وشربوا من طيبات ما يشربون، ولبسوا من أفضل ما يلبسون، وسكنوا من أفضل ما يسكنون، وركبوا من أفضل ما يركبون، وأصابوا لذة الدنيا مع أهل الدنيا وهم غداً جيران الله يتمنون عليه فيعطيهم ما يتمنون، ولا تردّ لهم دعوة، ولا ينقص لهم نصيب من اللذة، فإلى هذا يا عباد الله يشتاق من كان له عقل ويعمل له بتقوى الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله), إذن في المفهوم الإسلامي تشمل التنمية كل من الإمكانات المادية والإمكانات البشرية.
وتعني المادية منها الارتفاع بالمستوى الإنتاجي للقطاعات الاقتصادية جميعاً، وذلك من خلال تسخير كل ما في هذا الكون من موارد وطاقات لدفع عجلة التنمية الاقتصادية نحو الأعلى، فمثلاً في الحّض على الزراعة يقول الله تعالى: (فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَىَ طَعَامِهِ ٭ أَنّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً ٭ ثُمّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقّاً ٭ فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً ٭ وَعِنَباً وَقَضْباً ٭ وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً ٭ وَحَدَآئِقَ غُلْباً ٭ وَفَاكِهَةً وَأَبّاً ٭ مّتَاعاً لّكُم
ْوَلأنْعَامِكُمْ ). سورة عبس(24-32).
ومثلها التأكيد على أهمية الصناعة بأنواعها، مصداق ذلك قوله سبحانه: (وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَىَ حِينٍ ٭ وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّمّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلّكُمْ تُسْلِمُونَ) سورة النحل (80-81).

أما عن علاقة التنمية الاقتصادية بالسياسة الشرعية، فتتلخص فيما يلي:
على وليّ الأمر ـ كما قال ابن حزم ـ أن يحفظ الدّين من تبديل أو زيادة، ويحث على العمل به من غير إهمال له، ويذبّ عن الأمة عدوّ الدين.أي من واجبات ولي الأمر إقامة الدّين والدنيا، وعليه ردع المرتد والمبتدع، وعليه تيسير كل السّبل التي تحقق مسيرة الدعوة إلى الله، أي السعي في دعاء الكافرين إلى الإسلام، إضافة إلى مهمة تحصين الحصون والقلاع، وتأمين السّلاح من أجل حماية البلاد والعباد، وإعداد العدّة لذلك، وتدريب الشباب على الجهاد وحبّ الاستشهاد في سبيل الله تعالى، ومع ذلك فعليه تأمين الأمن والتنمية معاً، كما قال الإمام الجويني: (قيض الله السلاطين، وأولي الأمر وازعين، ليوفّروا الحقوق على مستحقيها، ويبلغوا الحظوظ ذويها، ويكفوّا المعتدين، ويعضدوا المقتصدين، ويشيدوا مباني الرشاد، ويحسموا معاني الغّي والفساد، فتنتظم الدنيا، ويستمد منها الدين الذي إليه المنتهى).وبالتالي، فعلى وليّ الأمر القيام بمهمة إعمار البلاد وتثمير الأموال، كما قال عليّ رضي الله عنه وهو يوصي أحد ولاته: (وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج).
وكما قال الإمام أبو يوسف في كتابه إلى هارون الرشيد (ورأيت أن تأمر عمال الخراج إذا أتاهم قوم من أهل خراجهم، فذكروا لهم أن في بلادهم أنهاراً عادية قديمة، وأراضي كثيرة غامرة، وأنه استخرجوا لهم تلك الأنهار، واحتفروها، وأجري الماء فيها، وعمرت الأرضون الغامرة وزاد في خراجهم، كتب بذلك إليك، فأمرت رجلاً من أهل الخبرة والصلاح يوثق بدينه وأمانته، فتوجهه في ذلك حتى ينظر فيه، ويسأل عنه أهل الخبرة والبصيرة به، ومن يوثق بدينه وأمانته من أهل ذلك البلد فمن لهم بصيرة ومعرفة، فإذا اجتمعوا على أن في ذلك صلاحاً وزيادة في الخراج، أمرت بحفر تلك الأنهار، وجعلت النفقة في بيت المال ولا تحمل النفقة على أهل البلد، فإنه أن يعمروا خير من أن يخربوا، وأن يوفّروا خير من أن يذهب ما لهم ويعجزوا).ومثله قول الإمام ابن حزم: (ويجب على الإمام عمارة البلدان باعتماد مصالحها وتمهيد سبلها ومسالكها، وتنفيذ ما يتولاّه المسلمون من الأموال بسنن الدين من غير تحريف في أخذها وإعطائها).
كل هذا يؤكد على أن على عمال الخراج تفقّد الأماكن التي تحتاج إلى تعمير، وذلك من أجل القيام بمشروعات جديدة، فإن وجدوا ذلك فعليهم إبلاغ ولي، الأمر بذلك من أجل مزيد من الاستثمار.
لكن ذلك لا يكون إلا ضمن ضوابط محددة، لحرية الفرد في التصرف في ماله وملكه دون تدخل ولي الأمر بذلك إلا لمصلحة عامة، وذلك حسب القاعدة (تصّرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة).
إضافة إلى ذلك كله، فولي الأمر مسؤول عن تحقيق التنمية الشاملة، كتقديم الخدمات وإنشاء المرافق العامة، ونحو ذلك، مصداق ذلك قول العز بن عبد السلام: (وأما الإمام فيلزمه مثل ما لزم الحاكم من ذلك، ويلزمه أن يقدّم الضرورات على الحاجات في حق جميع الناس، وأن يسّوي بينهم في تقديم أضرّهم، فأضّرهم، وأمسّهم حاجة، فأمسّهم، والتسوية بينهم ليست في مقادير ما يدفع إليهم الإمام، بل التسوية بينهم أن يدفع إلى كل واحد منهم ما يدفع به خاصة حاجته من غير نظر إلى تفاوت مقاديره، فيتساووا في اندفاع الحاجات، وكذلك يسوي بين الناس في نص القضاء، والولاء، ودفع المضّرات، ولا يخلي كل قطر من الولاة والحكام، ولا يخلي الثغور كفايتها من الكراع والسلاح والأجناد). وعلى وليّ الأمر أن يصرف الأموال العامة في المصالح العامة، ضمن تسلسل الأهم فالأهم، والأصلح فالأصلح، وعليه كفالة الحقوق للضعفاء والمحتاجين، كالإنفاق والزكوات والكفارات والمنذورات، ونحو ذلك. ومن التطبيقات المعاصرة للسياسة الشرعية وتدخل ولي الأمر وعلاقة ذلك في مجالات التنمية الاقتصادية ما يلي: سنّ القوانين والأنظمة المتعلقة بذلك، مع التخطيط السليم للتنمية، مثال ذلك: تنظيم المباحات المتعلقة برعاية الشؤون، كمنع كل ما يؤدي إلى المحرمات أو إلى الضرر.
وإقامة فروض الكفاية المنوطة بالدولة، مثال ذلك: أن لولي الأمر أن يسنّ قانونا للمرور، من حيث إن الطرق تعتبر من مرافق الجماعة. ومثال آخر: أن لولي الأمر أن يضع قوانين إجرائية تحدد من خلالها شروط صناعة الأدوية والمنتجات الصناعية التي يدخل الكحول في تركيبها، وذلك من باب سدّ الذرائع على تصنيع الخمور.
ومن التطبيقات المعاصرة أيضاً أن لوليّ الأمر الإشراف على الثروات الطبيعية كالبترول ونحوها، وله الحق أيضاً في الإشراف على المؤسسات النقدية والمصرفية الأساسية كالبنوك المركزية وما إلى هنالك، وله الحق أيضاً في الإشراف على العلاقات الاقتصادية الخارجية وذلك من أجل تنظيم حركة الواردات والصادات، إضافة إلى إشرافه على جباية وتوزيع أموال الزكاة. كل هذا يجعل الباحث يؤكد على العلاقة الوطيدة بين السياسة الشرعية وبين التنمية الاقتصادية، وذلك بما يصدر عن ولي الأمر من أحكام وما إلى هنالك.

المصدر: http://mosgcc.com/mos/magazine/article.php?storyid=161