مقال: بديهيات الأزمة المالية – د. محمد سهيل الدروبي

 

بديهيات في الأزمة المالية (1)

د. محمد سهيل الدروبي – دكتوراه إدارة أعمال في المصارف والمؤسسات المالية

 

قد لايختلف على أهمية دور الينوك في التنمية الإقتصادية، وفي الوقت نفسه لايستطيع خبير أن يتجاهل الدور الرئيس للبنوك في الأزمة المالية والإقتصادية وبما سيليها من أزمة إجتماعية عانى وسيعاني منها العالم لسنوات قادمة ولن يخرج منها إلا لو استطاع تغيير الأسس النظرية والعملية التي تدار بها إقتصاديات العالم اليوم. هذه الأسس التي تنظر إلى المال كسلعة مجردة قابلة للتكاثر بغض النظر عن الإنتاج والقيم الحقيقية للسلع ولمكونات الإنتاج الأخرى.

ومن الملفت للنظر أن الإنسان عرف مساوئ الربا واحتقره منذ زمن بعيد واعتبره عملا مزموما وغير أخلاقي منذ القدم، وهذا ماأكدت عليه أيضا كل الديانات السماوية والأعراف والنظم الأخلاقية حتى قبل الديانات.

وحتى في عصرنا الحاضر، يكاد يتفق خبراء الإقتصاد أن الفائدة أو الربا بالمعنى الصريح لها هو أساس المشكلة والأزمات وكلما ابتعد التعامل بالمال عن الإنتاج كلما تعاظمت هذه المشكلة، ولكن جشع المرابين وطمعهم المتوحش كان دائما ولايزال يصور ويسوق الفائدة أو الربا وكأنها أساس للإقتصاد المعاصر لايقوم ولاينتظم إلا بها، هذا التصور المعتمد على وهم لاأساس له إلا في العالم الخيالي الوهمي الإفتراضي الذي نجح شياطين الربا في نشره وتطوير مكوناته وجعلوا له قواعد ونظم ونظريات ودراسات أكاديمية ومناهج جامعية في محاولة لجعل هذا الوهم والبيئة الإفتراضية واقعا يعجز البشر عن تخيل عالما أو اقتصاداً من الممكن أن يوجد ويعمل بديناميكية دون ربا أو علاقات ومعاملات ربوية تفترض للمال أو النقود والتي هي بحد ذاتها قيمة افتراضية إلى حد بعيد ، قيمة حقيقية مرتبطة بالزمن، مما جعل التخلص من فكرة أن للمال قيمة بحد ذاته وقدرة على التوالد والزيادة بمعزل على الإنتاج صعب جداً، يقتضي نسيان أسس كل مايتعلمه الجامعيون في كليات الإدارة والإقتصاد والتجارة وكل مايعرفه المحاسبون والمراجعون والمدققون ويمارسونه من قواعد وأسس في  عملهم ، وحتى ماتعتمده الحكومات لوضع خططها واستراتيجياتها للتنمية، وتم تصوير هذا الوهم وهذه البيئة الإفتراضية وكأنه واقعا لامناص منه، وأصبحنا نرى معظم المفكرين والباحثين المدركين لمساوئ ومخاطر الربا ومبدأ فصل المال عن الإنتاج يحاولون جهدهم تدارك الخطر بوضع نظريات وقواعد تخفف من وحشية النظام الربوي كالقول المعروف أنه كلما اقترب سعر الفائدة من صفر كلما كان النشاط الإقتصادي أفضل، أو أن الصفر هو السعر الأفضل لحياة إقتصادية أفضل ولاأدري لماذا لايقولون ببساطة أن اقتصاد بدون فائدة أو خالي من الربا هو الأفضل وكفى الله المؤمنين شر القتال.

هذا الوهم الذي يحاول المرابون السيطرة بواسطته على إقتصاديات العالم ومقدرات الشعوب ، يذكرني دائما بالأوهام التي عانينا منها ولانزال نعاني من بعضها ومن آثارها في عالمنا العربي وفي معظم دول العالم الثالث، كالقول بأن  إسرائيل قوة لاتقهر وأمريكا لاتهزم وشعوبنا دون قادتها الملهمون لاوجود ولاقيمة لها، وهذا ماثبت وتثبت الأيام والوقائع أن لاصحة له وأنه لم يكن في يوم من الأيام سوى وهما وسحرا يغشى العيون.

لقد درسنا ثم درٌسنا قانون الأعمال ومن ضمنها العقود ، ومما يلفت النظر فعلاً أنه طبقا للقوانين السائدة في الولايات المتحدة الأمريكية ، وهي الإمبراطورية الأولى للربا في العالم – وكذلك الأمر في معظم قوانين دول العالم- أن الربا من العيوب الأساسية التي تفسد وتبطل العقود، والمقصود هنا في الربا هو مايتجاوز سعر الفائدة القانونية والذي عادة تحدده القوانين أو الجهات المفوضة، ولم أجد من خلال دراستي سببا دقيقا حقيقيا واقعيا يجعل أحدا يستطيع القول أن فائدة 9% مثلا لابأس بها أو مناسبة، بينما 9.5% مثلاً ضارة وتعتبر مخالفة للقانون لدرجة أنها تجعل العقد باطلاً وقد يعاقب آخذها.

ولعله من المفيد لموضوعنا أن نتعرض لأصل فكرة النقود،

لعل النقود أو العملة يمكن اعتبارها من أهم مخترعات البشرية، فقبل أن توجد كما هو معروف كانت التعاملات تتم بالمقايضة، ومن المشاكل التي تثيرها المقايضة تحديد قيمة السلعة مقارنة بكل السلع المقابلة التي يمكن المقايضة عليها، بالإضافة إلى  مدى احتياج أحد الطرفين أو كلاهما للسلع المعروضة للمقايضة وفي وقت المقايضة. وهكذا وجدت النقود لتكون أساساً أداةً أو وحدة لقياس القيمة من جهة وأداة لتخزين هذه القيمة لوقت الحاجة.

لو فكرنا بالنقود كوحدة قياس، مثلها مثل باقي وحدات القياس كالمتر أو الكيلو لكان افتراض تبادلها مع الزيادة أمر لايقبله عقل سليم مالم يتم ربطها بمادة ما، فكيف يمكن أن نستسيغ قول أحدهم أعطيك مائة متر مقابل أن تعطيني مائة وعشر أمتار بعد ستة أشهر أو سنة مثلاً، السؤال الذي يتبادر إلى الذهن مباشرة مائة متر من ماذا مقابل مائة وعشر أمتار من ماذا؟؟ من قماش ؟ من خيط ، من أرض ؟؟ فوحدة القياس لايمكن فهمها بوضوح دون ربطها بالسلعة أو المادة المقاسة بها. والأمر لن يقل غرابة فيما لو فكرنا بالنقود كمستودع للقيمة أو أداة تخزين لها، فأي وعاء من الممكن أن يزيد القيمة المخزنة فيه دون فعل أو عمل خارجي؟؟ فلو ما خزٌنا عشرة لترات من الحليب مثلا وأغلقنا الوعاء فكيف يمكن أن تصبح العشر لترات أحد عشر لتراً دون تدخل من أحد أو فعل ما؟ اللهم إلا لو كان الأمر بسحر ساحر يوهمنا أن الكمية زادت فعلا/ والمرابي في الواقع ساحر فهو يوهمنا بإثارة غرائز الطمع والجشع لدينا ليس فقط أن الكمية المخزنة في وعاء مقصود بذاته بل أنها تتوالد وتتكاثر بذاتها، وأن توالد وتكاثر النقود وزيادتها مع الزمن أمر طبيعي حتى لو تعارض ذلك مع المنطق والعقل. ولاننسى هنا أنه بعد فك ارتباط العملات بالذهب(طبعا الذهب أيضا لايمكن أن يصدق العقل أنه يمكن أن يتكاثر بذاته) لم تعد النقود تمثل أي مادة حقيقية أو فعلية موجودة وذات قيمة على الإطلاق، بل قيمة افتراضية وهمية يفترض أنها ناشئة عن حجم الإنتاج القومي في لحظة تداولها، فإذا ماأردنا اعتماد  هذا الأساس واحتساب قيمة أي قطعة نقود عند تداولها بشكل فعلي كان علينا أن نجد الناتج القومي في لحظة تداولنا للنقود وقسمته على عدد النقود المصدرة أو المتداولة حتى هذه اللحظة طبعا وكل ذلك عبث لاطائل منه، فالمعادلة التي نحاول الوصول إلى ناتج لها تبدأ أساسا من عدة مجاهيل ولن تنتهي بنا إلا لمجهول جديد.

 

الأزمة نتيجة طبيعية :

 

إن الأزمة المالية التي يعاني منها العالم اليوم والتي لاتزال في مراحلها الأولى لتصبح أزمة إقتصادية ثم ستتطور لتنتج أزمة اجتماعية أيضاً، ماهي إلا نتاج طبيعي للإقتصاد المعاصر المعتمد على الربا أو الفائدة، فعندما يبدأ المرابي (أو المؤسسات الربوية ) بالإقراض لقاء نسبة فائدة أو ربا سمها ماشئت، تشكل هذه النسبة في الواقع جزء من إنتاج المقترض المدين، وهذه النسبة التي يحصل عليها المرابي من إنتاج المقترض (معدل الفائدة) دون أي جهد أو عمل أوتبعة بمعنى تحمل أي نوع من المخاطر سوى مخاطر الإئتمان أو عدم سداد المقترض للقرض أو فائدته وعادة يلجأ المقرض لتغطية مخاطرته هذه بعدة وسائل من ضمنها الضمانات، يعني ذلك أنه يجب على المقترض في الواقع أن يحقق عائدا من إنتاجه يكفي لسداد حاجات استمرار حياته وانتاجه بالإضافة إلى سداد الفوائد أو الربا للمرابي المقرض وأقساط أصل الدين الذي ربما استهلكه في أمر لاعلاقة له بالإنتاج. وقد يحصل هذا في بادئ الأمر، تبعا للظروف الإقتصادية السائدة التي تمكن المقترض من تحقيق عائد أو وفر من عمله يكفى لتغطية احتياجاته أو/احتياجات مشروعه بالإضافة إلى نسبة الفائدة التي يدفعها للمرابي. ولكن المرابي من خلال تحقيقه لعوائد صافية عالية دون جهد ستتوفر لديه أموالا طائلة تتزايد كل يوم وبمتوالية حسابية لاحدود لها (لأنها لاتعتمد على عمل أو إنتاج أو مادة) وسيحاول دائما أن يجد طريقة لإقراضها من جديد ، وبالتالي تبدأ عملية إغراق المقترض أو مقترضين جدد بديون جديدة قد لاتكون ضرورية في غالب الأحيان لانتاجهم أو لحياتهم الطبيعية، بل أحيانا تكون هذه الديون بحد ذاتها ديون وهمية لاأساس لها من واقع سوى قيود وهمية لعمليات وهمية لدى المؤسسات العائدة لمجموعات المرابين، كما هو الحال في عمليات المضاربة في الأسواق المالية والعملات والمواد الخام. (تشير التقارير أنه خلال العام الماضي أن حجم التداول في الأسواق تجاوزت قيمته أربعة أضعاف إجمالي أصول جميع الشركات في العالم وأكثر من خمسة عشر ضعفا إجمالي الناتج القومي لدول العالم. ناهيك عما يسمى بالمشتقات المالية والتي تم ابتداعها والإفراط في تداولها بهدف الربح السريع أو لنقل كنوع من القماروبغض النظر عن الرابح والخاسر فهي وان كانت تعتمد على وهم لاوجود له أو اساس من مواد أو قيمة حقيقية فهي أيضا كانت سببا لقروض جديدة وهمية أيضا، تعود بالفوائد المجزية على المقرضين. هذه المبالغ المتعاظمة كانت تتجمع في أيدي المرابين مرة أخرى ليعاد إقراضها أو محاولة إقراضها من جديد، ونظراً لضخامة هذه المبالغ لم يعد بالإمكان إقراضها بضمانات حقيقية بقيم حقيقية فهي تتجاوز أضعاف أضعاف القيم الحقيقية للأصول المتاحة كضمانات في الواقع، مما دفع المرابين إلى التساهل في موضوع الضمانات أو الإكتفاء بضمانات تغطي الفوائد فقط أو رفع قيمة الضمانات المختلفة بعدة أساليب عن طريق المضاربات أيضا التي قد تحقق فرص جديدة للإقراض أيضا مهما كانت السلبيات التي يمكن أن تنتج عن مثل هذه العمليات أو حتى في بعض الأحيان كانوا يقرضون بدون ضمانات وفي أحيان أخرى اخترعوا ضمانات اضافية من قبلهم باعوها للمقترضين لتحقيق عوائد جديدة على عمليات إقراضهم.

هذا الجو المحموم بتحقيق الأرباح الوهمية وبتأثير المرابين الذين استطاعو تسويق العديد من منتجاتهم الوهمية للمستثمرين الذين كانوا يملكون ثروات حقيقية ناتجة في بداية الأمر عن إنتاج حقيقي وقيمة فعلية كالأموال المتحصلة من عوائد النفط مثلا، دفع هؤلاء إلى وضع أموالهم في أيدي المرابين وهم يحلمون بتحقيق الأرباح الخيالية التي رأوا المرابين يحققونها ، وهذا سيحقق أرباحا وعوائد إضافية أولا للمرابين حيث سيقرضونها ويحققون نسبة جيدة مباشرة من خلال الفارق بين سعر الفائدة على الودائع وسعر الفائدة على القروض بالإضافة إلى العوائد الأخرى العديدة غير المباشرة عمولات المضاربة والصفقات في الأسواق المالية والمنتجات الوهمية، ومن الملفت للنظر هنا أنهم غالبا ماكانوا يقرضون هذه الأموال لنفس الدول التي جاءت منها هذه الأموال .

دورة الإفراط في الإقراض بكل صوره لابد أن تؤدي إلى أن إجمالي الفوائد المتحققة على القروض أصبح يقترب من إجمالي إنتاج المقترضين المدينين ، وسيؤدي ذلك تلقائيا إلى الإمتناع عن الدفع، لأن المقترض سيصبح عاجزاً عن تحقيق إنتاج يكفيه لاستمرار حياته وتأمين إحتياجاته الضرورية وسداد فوائد وأقساط ديونه في الوقت نفسه، فيمتنع عن سداد أقساط ديونه أوحتى فوائدها ، ويدفع هذا المرابين مرة أخرى لمحاولات أخرى جديدة لاستمرار آلية الإقراض وتدفق العوائد، فيحاولاون دفع المقترضين إلى زيادة إنتاجهم أو رفع أسعار هذه المنتجات لفترات معينة ، أو حتى مد المدينين بقروض جديدة وربما بفوائد أقل أو حتى إعفاء المدينين من جزء من الفوائد المستحقة أو من أصل القرض أيضاً. كل هذه المحاولات كانت تؤدي إلى تأجيل الأزمة ولكن لم يكن بالإمكان تجاوزها لفترة طويلة، لأن اساس سبب الأزمة لايزال موجودا والمتمثل في القروض الربوية التي لاحد لمتواليتها الحسابية نظرياً بينما زيادة الإنتاج لايمكن أن يتواتر زيادة بنسبة الإفراط غير المحدود بالإقراض ومنتجات الإقراض الوهمية.

ولابد أن نذكر هنا أن ماسبق كان ينطبق على عمليات الأفراد كما كان ينطبق على الدول أيضاً. وهذا مايمكننا من فهم حقيقة ماكنا نسمعه عن مؤتمرات ومنتديات تخفيض الديون التي كانت تعقد بين فترة وأخرى لمعالجة ديون الدول المتعثرةأو تدخلات البنك الدولي والمنظمات الأخرى في إقتصاديات الدول المدينة التي لاتعدو في حقيقتها عن كونها محاولات لضمان سداد ديون هذه الدول والفوائد المستحقة عليها ولهذا يقول علماء الأقتصاد أنه كلما سددت ديونك الربويةكلما ازددت فقراً وعلى كل فأن الخوض في هذا الموضوع  ليس مجال مقالتنا هذه.