مقال: التأمين التجاري – علي السالوس

التأمين التجاري

للأستاذ الدكتور علي السالوس، النائب الأول لرئيس المجمع

من كتاب “فقه البيع والاستيثاق”

المصدر: موقع مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا

التأمين من العقود المستحدثة، لا نعرف أحداً تحدث عنه قبل الفقيه الحنفي المشهور ابن عابدين، الذي توفي سنة 1252 هـ. وقد سئل عن التأمين البحري فبين أنه غير مشروع (1).

وظل الاتجاه إلى تحريم التـأمين سائداً مدة قرن كامل بعد ابن عابدين وبعد منتصف القرن الرابع عشر الهجري ظهر من ينادي بحل عقد التأمين، ومن هنا فتح باب الخلاف.

وفي سنة 1385هـ ( 1965م) بحث المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامي موضوع التأمين، فانتهى إلى حل التأمين التعاوني، وقرر الاستمرار في دراسة التأمين التجاري بواسطة لجنة جامعة لعلماء الشريعة، وخبراء اقتصاديين وقانونيين واجتماعيين، مع الوقوف ـ قبل إبداء الرأي ـ على آراء علماء المسلمين في جميع الأقطار الإسلامي بالقدر المستطاع.

واستمر البحث دون حسم للخلاف، وإن اتجهت الكثرة الغالبة إلى التحريم.

وفي سنة 1392هـ ( 1972 ) اشترك عدد من العلماء في ندوة دعت إليها الجامعة الليبية، وبحثوا موضوعات منها ” عقود التأمين وحكمها في الفقه الإسلامي “، وانتهوا إلى الموافقة مؤقتا عدا التأمين على الحياة، فإنه غير جائز شرعاً. والموافقة المؤقتة لا تعني أن المجتمعين رأوا أن التأمين التجاري على الأموال جائز شرعاً، بل يقبل بصفة مؤقتة لظروف راعوها.

وفي سنة 1396هـ (1972م ) عقد المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي بمكة المكرمة، اشترك فيه أكثر من مائتي عالم وأستاذ في الشريعة والاقتصاد، وكان عقد التأمين من الموضوعات التي بحثوها، وانتهوا إلى ما يلي:

” يري المؤتمر أن التأمين التجاري الذي تمارسه شركات التأمين التجارية في هذا العصر لا يحقق الصيغة الشرعية للتعاون والتضامن، لأنه لم تتوافر فيه الشروط الشرعية التي تقتضي حله.

ويقترح المؤتمر تأليف لجنة من ذوي الاختصاص من علماء الشريعة وعلماء الاقتصاد المسلمين لاقتراح صيغة التأمين خالية من الربا والغرر، يحقق التعاون المنشود بالطريقة الشرعية بدلا من التأمين التجاري ” (2).

والصيغة المنشودة لم تظهر إلى الوجود فحسب، بل بدأ التطبيق العملي لها، وانتشرت في كثير من الدول حتى بلغت ما يقرب من عشرين والاشتراك في مثل هذا النوع من التأمين يعني: الادخار، والاستثمار المشروع، والتكافل؛ فالمبالغ التي يدفعها المشترك في التأمين لا تنتقل ملكيتها للشركة، بل تستثمر وتنمى الصالحة، والشركة تأخذ ما يقابل عملها كالمصارف الإسلامية، ويأتي التكافل من رضا المشتركين جميعاً بأن يعان من هذه الأموال من احتاج إلى العون في حدود النظام الذي وضعته الشركة. فكل مشترك إذن مؤمن ومؤمن له. وما يبقى بعد التكافل من الأموال وأرباحها يرد إلى المشتركين.

والتأمين الذي رفضه المؤتمر يعرفه القانون الوضعي بأنه:

” عقد يلزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمن له، أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه، مبلغاً من المال أو إيراداً مرتباً، أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث، أو تحقق الخطر المبين في العقد، وذلك نظير قسط، أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له للمؤمن “.

ومن هذا التعريف يتضح أن عقد التأمين من عقود المعاوضة؛ فالتزام المؤمن نظير عوض، وما دام الأمر كذلك فلا مجال لبحثه هنا، غير أننا وجدنا من يعتبره عقد كفالة. وممن اعتبره كفالة من نظر إلى ضمان الطريق عند الحنفية وهو أن من قال لآخر: اسلك هذا الطريق، فهو آمن، وإن أصابك منه شِيء فأنا ضامن.

فإذا ظهر أن الطريق غير آمن، وسلكه فأصابه نه ما أصابه، رجع على القائل الضامن بما أصابه وهذا كالتأمين على السيارات، ومثله التأمين على غير السيارات من الأموال.

وهذا الضمان عند الحنفية هو ضمان الغرور؛ قال ابن نحيم في الأشباه والنظائر ( ص 214 ــ 215 ):

الغرور لا يوجب الرجوع، فلو قال: اسلك هذا الطريق فإنه آمن، فسلكه فأخذه اللصوص، فلا ضمان. وبين أن الرجوع إنما يكون في ثلاث حالات، منها: إذا كان الغرور بالشرط.

وجاء في الشرح المجلة ( ص 363 ): اعلم أن الغرور لا يوجب الرجوع إلا في ثلاثة مواضع، وذكر الأول، وتلاه بقوله: الثاني: أن يضمن الغار صفة السلامة للمغرور نصاً، كما إذا قال لرجل: اسلك هذا الطريق فإنه آمن، وإن أخذ مالك فأنا ضامن. فإن أخذ ماله ضمنه الغار، لأنه ضمن للمغرور صف السلامة، فلو لم يضمنها أن قال فقط: اسلك هذا الطريق فإنه آمن لم يضمن.

وممن اعتبره عقد كفالة كذلك من نظر إلى التزام شركة التأمين بشئ مجهول، لم يحب بعد، جواز هذا في المكفول به. فمن المعروف أن جمهور الفقهاء يجيزون كفالة المجهول، وما لم يجب. (3).

وهذا ينتهي بنا إلى اعتبار شركة التأمين متبرعة ابتداء وانتهاء، لأنها لا تعود على المؤمن له بما تغرم. وهذا يخالف الواقع العملي؛ فهذه الشركات تتضاعف أموالها أضعافاً مضاعفة في بضع سنين، وذلك لما تأخذه من المؤمن لهم، ولما تأكله من الربا. فما تأخذه بدءا إنما هو نظير ما قد تغرمه، ولذلك بين القانون الوضعي أن التأمين عقد معاوضة. فلو كان كفالة لما جاز للشركات أن تأخذ هذه الأموال الكثيرة، ولكان لها أن تعود على المكفول عنه بما تغرم، ولكن القانون منعها من استرداد ما قد تغرمه مقابل ما تأخذه من الأموال في بدء التعاقد، وأنى لشركة تجارية ربوية أن تكون كفيلآ متبرعاً ؟!!
1 انظر حاشية ابن عابدين 4/ 170 ” مطلب منهم فيما يفعله التجار من دفع ما يسمى سوكرة ، وتضمين الحربي ما هلك في المركب ” . والمقصود بالسوكرة التأمين. وتحت هذا العنوان تحدث عن مفهوم التـأمين البحري، ثم قال: ” ولذي يظهر لي أنه يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من ماله، لأن هذا التزام ما لا يلزم .

فإن قلت: إن المودع إذا أجرة على الوديعة يضمنها إذا هلكت ؟ قلت: ليست مألتنا من هذا القبيل، لأن المال ليس في يد صاحب السوكرة ، بل في يد صاحب المركب . وإن كان صاحب السوكرة هو صاحب المركب يكون أ جيرآ مشتركاَ، قد أخذ أجره على الحفظ وعلى الحمل، وكل من المودع والأخير المشترك لا يضمن ما لا يمكن الاحتراز عنه كالموت والغرق ونحو ذلك “.

2 الاقتصاد الإسلامي ـــ بحوث مختارة من المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي ص 553 ـــ 554 الطبعة الأولى .

3 ) راجع ضمان المجهول ، وضمان ما لم يحب ، في الفصل الخامس من الباب الثاني ص 1364 ــــ 1367 . وسبق بيان أن الذين أجازوا هذا الضمان وغيرهم سواء في منع الأحر أو الجعل مقابل الكفالة . ومما ذكرته ما جاء في المغني والشرح الكبير ( 4 / 365): ” قال ــ أي أحمد: ولو قال اقترض لي من فلان مائة ولك عشرة فلا بأس ، ولو قال: اكفل عني ولك ألف يجز؛ وذلك …..إلخ ” .